بامكان الادارة الامريكية انقاذ عملية السلام من الانهيار
بقلم ممدوح نوفل في 09/01/1998
تجمع القوى الاقليمية والدولية المعنية بصنع السلام في الشرق الاوسط على ان عملية السلام العربية الاسرائيلية، تعاني منذ فترة ازمة مميتة، وانها الان في حالة تآكل، ومقعدة وغير على الحركة، وتوشك على الانهيار. والشواهد على ذلك كثيرة، فقبل سقوط حزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية عام 1996 اصيبت بشلل كامل على المسار السوري الاسرائيلي وملحقه اللبناني الاسرائيلي. وبعد فوز الليكود في تلك الانتخابات وقع انقلاب اسرائيلي على روح عملية السلام واسسها، وعلى الاتفاقات التي انبثقت عنها، وعلى كل استحقاقاتها ومتطلبات تواصلها. ولم يتاخر الوقت حتى انتقلت عدوى الشلل “الجزئي” الى جسد المسار الفلسطيني الاسرائيلي. وبدلا من رفع اليقظة في حينه في البيت الابيض، واعلان الاستنفار في وزارة الخارجية واروقة الكونغرس الامريكي، ازاء نتائج التبدل الذي وقع على الموقف من عملية السلام في اسرائيل، والذي لم تكن ادارة كلينتون ترغب فيه، استقبل نتنياهو في الكونغرس بالترحاب الشديد، وقوبل كلامه بالتصفيق الحار، رغم انه قال بوضوح انه عازم على تغيير معالم عملية السلام، وانتقد بشدة اسسها وقواعدها التي سارت عليها. وقام بمناورة مكشوفة وطرح فكرة القفزعن قضايا المرحلة الانتقالية، والدخول فورا في مفاوضات مكثفة حول قضايا الحل النهائي، ورفع شعارالامن مقابل السلام، وتجاهل شعار الارض مقابل السلام الذي تتبناه الادارة الامريكية، وبنيت عليه العلمية برمتها.
وبعد قرابة عام من خطاب نتنياهو في الكونغرس، اعترفت وزيرة الخارجية الامريكية “اولبرايت” بان عام 1997 كان عاما سيئا لعملية السلام، ولم تبين الاسباب، ولم ترغب في تحديد المسؤول عن ذلك. ولم تعتبر اتفاق الخليل الذي تم التوصل له في15/1/1997انجازا، ولم تعترف بانها تركها المفاوضات شهور طويلة بعد اتفاق الخليل دون رعاية ساهم في تدهور عملية السلام عام 1997. ولم تطرح تصورها لكيفة اخراج العملية من مأزقها وتحسين اوضاعها، ومنعها من ان تسوء اكثر. ولاحقا أيد الرئيس عرفات تقييمها بشكل عام، لكنه حمل حكومة الليكود المسؤولية وقال بان انقاذ العملية يتوقف على سلوك نتنياهو العملي تجاه تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وركز على تنفيذ نصوص اتفاق الخليل وملحقاته المتعلقة بمراحل الانسحاب اعادة الانتشار الثلاث التي استحقت اثنتان منها، وتشغيل المطار، واستكمال بناء الميناء، واطلاق سراح المعتقلين. ولا يستطيع رئيس وزراء اسرائيل، ولا دينس روس، ومعهما اكثر القوى الدولية والاقليمية تفاؤلا انكار هذه الحقيقة المرة، والطعن في اقوال اولبرايت وعرفات. ولا يمكنهم اعتبار مجرد تواصل المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وعدم الاعلان عن انهيارها انجاز يبعث على الفخر والاعتزاز. ولا يمكنهم ايضا جلب “اتفاق الخليل” ” كشاهد لتفنيد الادعاء بان عملية السلام التي عرفناها قبل فوز الليكود في الانتخابات تجمدت وتوشك على الانهيار. فهذا الانجاز اليتيم تحوّل بعد توقيعه الى شاهد ادعاء جديد ضد حكومة الليكود وعدم التزامها بالاتفاقات التي توقعها مع الآخرين، حتى لو شهد عليها رئيس الولايات المتحدة الامريكية. وأصبح شاهد ايضا على ضعف الدور الامريكي في رعاية عملية السلام في عهد الوزيرة اولبرايت. ووقائع الحياة السياسية في المنطقة، تؤكد بان هذا الاتفاق وملحقه المتعلق باعادة الانتشار كان وما يزال عنصر توتير للعلاقات الفلسطينية الاسرائلية. ومصدر ازعاج للعلاقات الامريكية الاسرائيلية. فنشاطات “روس” المنسق الامريكي لعملية السلام الذي لا يمل، ولقاءات الوزيرة المتكررة مع الطرفين الفلسطيني والاسرائلي بقيت دون نتائج ملموسة ولم تفلح في ترجمته على الارض. واكدت تحوّله من قوة دافع ايجابية للعملية السلمية، الى قوة سلبية جذبت حركتها للوراء، وصارت عامل احباط وتشكيك بمستقبل المفاوضات في عهد نتنياهو. ولعل اقرار اولبرايت ضمنيا بهذه الحقائق المؤلمة دفعها لعدم تكرار زيارتها للمنطقة وعدم ذكر الاتفاق مرة واحدة كانجاز.
في حينه استغل نتنياهو تلكوء الوزيرة اولبرايت في متابعة تنفيذ الاتفاق، واستثمرعدم ضربها حديد العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية وهو ساخن. فبعد الانتهاء من تقسيم مدينة الخليل الى H1 و H2 ، وقبل تنفيذ المرحلة الاولى من الانسحاب واعادة الانتشار أصدرأوامره الصريحة، في آذار 1997، للجرافات للصعود الى جبل ابوغنيم لبناء حي استيطاني ضخم هناك. فتوقفت المفاوضات، وتجمدت عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي. وأظن باني لا أظلم نتنياهو اذا قلت بأن هذا ما كان يريده ويخطط له. وان وجوده في قمة الهرم السياسي لم يحرره من قناعاته الايدلوجية المثالية القديمة، التي طرحها بدقة ووضوح ابان حملته الانتخابية وفي كتابه “مكان تحت الشمس”. المعارضة للانسحاب من الضفة الغربية، والمناقضة لاتفاق اوسلو ككل، وترفض مبدأ الارض مقابل السلام. وكانه أرسل الجرافات لأفتعال الأزمات مع الطرف الفلسطيني بهدف دفن البرتوكول الملحق باتفاق الخليل.
وبدلا من قيام الوزيرة اولبرايت في تلك الفترة بواجبها كضامنة للاتفاق، وافهامه بان دور وتأثير المبادئ الايدلوجية الجامدة على رئيس حزب سياسي معارض، يجب ان تكون مختلفة عند رئيس الوزراء، صمتت مرة أخرى، وصمت معها كل اركان البيت والكونغرس طويلا على مواقف سلوك نتنياهو المتعارضة مع التوجهات الامريكية، وكانت ردود فعلهم على فعلته ضعيفة. وبدل ارغامه على انزال الجرافات عن الجبل، تم التساهل معه ولم يلزم باحترام الاتفاق الذي وقعه، وتنفيذ المرحلة الاولى من اعادة الانتشار التي استحقت في الاسبوع الاول من آذار 1997. وبدلا من تركيز “اولبرايت وروس” دورهما على معالجة أزمة الثقة التي نشات بين الطرفين، وايلاء المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية جهدا استثنائيا، واعطائها وقتا اضافيا، الا أنهما جمدا حركتهما، وتركا الطرفين يراكمان مزيد من عدم الثقة والشكوك في النوايا. واشغلت نفسها اولبرايت عدة شهور في قضايا دولية أخرى غير ملحة. وظهر وكأن معالجة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي لم تعد ضمن الاولويات الامريكية.
ويمكن القول بان مواقف نتنياهو كانت في حينه أشبه بعملية جس نبض واستطلاع للمواقف الامريكية والدولية والعربية. ونتائجها شجعته على التصرف على هواه. ولم يحترم دور الراعي الامريكي، ولم يقدر ظروف الشريك الفلسطيني ولم ياخذ مصالحه بعين الاعتبار. وتهرب لاحقا من الالتزام بتنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب واعادة الانتشار التي استحق تنفيذها في ايلول 97. واخترق بجرأة من جديد المفهوم الامريكي لصنع السلام في المنطقة، وقلبه على رأسا على عقب. وترك الراعي الامريكي عاجزا عن الفعل وعن اي حراك، دون دفع ثمن تلاعبه بالاتفاقات ومساسه مصداقية الادارة الامريكية.
وخلال فترة انشغال الخارجية الامريكية بتلك الامور غير الملحة، واهمالها اوضاع عملية السلام تم هدر وقت ثمين، وتراكمت جبال من الاشكالات الجديدة والعداوة بين اطراف النزاع. وتوترت العلاقات بين القيادتين السياسيتين الفلسطينية والاسرائيلية أكثر فاكثر. وانقطعت علاقات الود والسلام والامن التي كانت قائمة في عهد رابين وبيريز. وازداد الشك المتبادل في النوايا والاهداف، وتبادل الطرفان اتهامات من عيار ثقيل ساهمت في تعميق الشكوك بقدرة عملية السلام على الخروج من مأزقها، وبرغبة الراعي الامريكي في انقاذها. وتكرست قناعات عند الجانب الفلسطيني قيادة وشعب بان نتنياهو يريد، ليس فقط، وقف مشروع السلام عند الحدود التي وصلها، بل وايضا شطب الاتفاقات التي تم التوصل لها، وتدمير السلطة الفلسطينية، واعادة عقارب الزمن الى عهد ما قبل مؤتمرمدريد واتفاق اوسلو.
في حينه صدرت تصريحات امريكية بينت عدم موافقتها على مواقف نتنياهو، وأظهر الرئيس كلينتون انزعاجه علنا، وسرب مسؤولون امريكيون حديثا خلاصته بان الكيمياء لم تتفاعل بين كلينتون ونتنياهو،علما بأن نتنياهو ذا تنشئة أمريكية ويفترض ان يكون اكثر استيعابا للعقلية الامريكية من اي حاكم اسرائيلي آخر. وبدلا من الضغط على نتنياهو للتكيف والتفاعل مع الموقف الامريكي، مارست ادارة كلينتون ـ اولبرايت الضغوط على العرب والفلسطينيين. وطالبتهم الصبرعلى نتنياهو، وتقدير اوضاعه وظروفه الداخلية. ناسية ان خلق التفاعل الكيماوي المنتج يتطلب بعض الاحيان ادخال عناصر اضافية جديدة على المركب الاساسي. وأقص ما قمت به هو اعتذار الرئيس كلينتون عن لقاء نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة الامريكية. وعملت بهدوء مبالغ فيه على تشذيب موقفه، رغم تطرفها، ومضارها مكشوفة، وأخطائها واضحة. وحاول روس انجاح سياسة نتنياهو، وتمرير منهجيته النظرية والعملية فلم ينجح. ورغم معرفته بنوايا نتنياهو السيئة، حاول اقناع الفلسطينيين بالذهاب لمفاوضات الحل النهائي قبل استكمال تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية. الا أن رئيس السلطة الفلسطينية رفضها بشدة، باعتبارها تتعارض مع أسس وقواعد عملية السلام، ومع روح ونصوص الاتفاقات التي تم توقيعها في البيت الابيض. وتمسك بالحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات، واصرعلى تنفيذها كاملة قبل الذهاب لمفاوضات الحل النهائي.
موضوعيا، لا أحد يستطيع انكار الكثير من النجاحات الدبلوماسية الباهرة التي حققتها البلوماسية الامريكية في عهد الرئيس كلينتون في أكثر من جزء من العالم. واعتقد بانني لا أضيف جديدا، اذا قلت بان هذه المنطقة، كانت ولا تزال ميدان اختبار اساسي لدورالولايات المتحدة العملي في مرحلة الوفاق الدولي التي نعيشها منذ انهيار سور برلين وانتهاء الحرب الباردة وحتى الآن. فعلى ارضها سلم الاتحاد السوفيتي “سابقا” بهزيمته. وفوق أرضها اعطت الادارة الامريكية نفسها الحق في تقرير وجهة السياسية الدولية، وفي تحديد الادوار العملية للدول الكبرى والصغرى، وافقت الدول الاوروبية وروسيا والمانيا واليابان مكرهين على تهميش دورهم، وتهميش دور الامم المتحدة، التي ينتمون لها، رغم ان بعضهم يحتل مقاعد دائمة في مجلس الامن. ووافقت على تفرد الادارة الامريكية في معالجة النزاع العربي الاسرائيلي، في اطار اعادة ترتيب اوضاع المنطقة وتنظيم علاقة شعوبها ودولها بعضها ببعض وبما يخدم مصالحها فيها، ووفق استراتيجيتها الكونية الاشمل.
ولكن بالمقابل لا أحد يستطيع “تغطية شمس الشرق الاوسط الساطعة بالغربال”. فرغم كل النجاحات الهامة التي حققتها الادارة الامريكية هنا وهناك في مرحلة الوفاق الدولي، تبدو الآن وكأنها لا تملك رؤيا سياسية واضحة، وقادرة على تأمين شبكة مصالحها وتوسيعها في المنطقة، وتوجيه السياسية الدولية وادارتها بنجاح. وتظهر امام جميع شعوب الشرق كقوة عظمى لا حول ولا قوة لها تمكنها من انقاذ مصداقيتها الدولية. ولا اتجنى على الادارة الامريكية، اذا قلت أنها في عهد الرئيس كلينتون ـ كريستوفرـ اولبرايت مسؤولة، اولا عن خسارة عملية السلام عامين كاملين ثمينين من عمرها، فهي الراعي الاوحد لها، رفض بشدة اشراك آخرين في الرعاية وفي تحمل المسؤولية عن مصيرها. ومسؤولة ثانيا عن تراكم كم هائلا من التطورات السلبية في المنطقة، وفقدان الشعوب العربية واحزابها وحركاتها السياسية والاجتماعية، ثقتها بعملية السلام ككل، وبمستقبلها على المسارها الفلسطيني الاسرائيلي، وعن تكريس قناعتها بعدم نزاهة دور الراعي الامريكي وانحيازه للطرف الاسرائيلي المعتدي. ومسؤولة عن صب مياه كثيرة في قنوات أعداء عملية السلام والمعارضين للاتفاقات التي انبثقت عنها. وتمكين المتطرفين من الجانبين من تقوية مواقفهم في الشارع العربي والاسرائيلي خلال العامين الأخيرين، وتعزيز مواقعهم في صفوف الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. فقد استثمروا تآكل فوائد عملية السلام، وتعطل قطار السلام عن الحركة، وتدهور العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية. واستغلوا غياب الرعاية الامريكية للعملية، وتبادلوا المنافع والادوار دون حاجة لتنسيق مسبق ومباشر بينهم.
وأظن ان الادارة الامريكية تدرك أكثر من سواها بان عملية السلام قد استنزفت خلال عهد نتنياهو جزءا كبيرا من طاقتها الذاتية، التي راكمتها قبل وبعد اتفاق اوسلو. وانها بقواها الخاصة غير قادرة على تحقيق اختراقات نوعية جديدة، بعد الازمة السياسية الجديدة التي فجرتها استقالة “دافيد ليفي” وزير الخارجية الاسرائيلية، وبالكاد تستطيع البقاء على قيد الحياة، والحفاظ على ما تحقق سابقا. ويفترض أنها مدركة بان دورها في رعاية عملية السلام بات أعقد واصعب مما كانت عليه قبل تفجر الازمة السياسية الجديدة في اسرائيل. وبصرف النظر عن دوافع نتنياهو في “دفش” وزير خارجيته للاستقالة، وعن الدوافع الذاتية والحزبية التي دفعت ليفي لتقديم استقالته، فالواضح ان حكومة نتنياهو مالت نحو التطرف، وحركتها باتجاه السلام مع الفلسطينيين وفقا لقواعد اوسلو ومدريد باتت مقيدة اكثر من اي وقت مضى بتوجهات المتطرفين داخل الليكود وفي الشارع. وان قدرة رئيسها “هذا اذا اقتنع” على التكيف مع الرغبات الامريكية في تحقيق تقدم ملموس في تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية باتت أضعف من قبل، فهمه الرئيسي ينصب الآن على لملمة اوضاع التحالف الحاكم والبقاء في سدة الحكم اطول فترة زمنية ممكنة. وهذا يتحقق فقط اذا استجاب نتنياهو لمطالب المتطرفين وطليعتهم المستوطنون ودعاة عدم الانسحاب من “ارض اسرائيل المقدسة التي وهبها الرب لبني اسرائيل”، وصادر أراضي جديدة، ووسع الاستيطان.
واذا كانت عملية السلام تعيش الآن اوضاع مأساوية، فلا شك أن ثمة أخطاء امريكية كثيرة أرتكبت ساهمت في وصولها اليها. وكي تستطيع واشنطن معالجة هذه الاخطاء، وانقاذ عملية السلام، ومنع التطرف والارهاب من التحكم بمصير المنطقة ومقدراتها، واستعادة مصداقيتها عند شعوب المنطقة، وازالة التشويه الذي احاط موقفها كراعي نزيه لعملية السلام، واعادة الاعتبار لوضعها قطب اوحد يقرر وجهة السياسية الدولية بمسؤولية عالية وبكفائة عالية..الخ يلزمها اولا وقبل كل شيء الاعتراف باخطائها، والعمل على تصحيحها بالاستفادة من الدروس الثمينة للتجربة. لقد ظهرت ادارة كلينتون امام دول العالم وشعوب المنطقة وكأنها فقدت البوصلة الضرورية لتوجيه حركة قطار السلام باتجاه محطته التالية على اوسلو، وفقدت زمام المبادرة، ولا تعطي للزمن قيمة في حل الاشكالات وتعقيدها وتصرفها يوحي بانها تريد تقطيعه وليس استثماره. ولديها تفسيرا ضيقا جدا لدورها كراعية لعملية السلام، حيث حصرته بشكل أساسي في الامور ذات طابع اجرائي بدلا من الدفع باتجاه معالجة القضايا الجوهرية، وهذا المظهر مس هيبتها الدولية واضعف قدرتها في التاثيرعلى مواقف اطراف النزاع، وافقد عملية السلام ديناميكيتها. والواضح ان انقاذ عملية السلام من حالتها الراهنة يتطلب ان تقتنع ادارة كلينتون بان صنع السلام والاستقرار في المنطقة مصلحة امريكية ودولية قبل ان تكون اسرائيلية وعربية. فالتجربة تؤكد بان كل الادارات الامريكية السابقة حزمت مواقفها تجاه الصراع العربي الاسرائيلي وتقدمت باقتراحاتها الخاصة وفرضت مواقفها على الاطراف عندما اقتنعت بذلك وتعرضت مصالحها الجوهرية للخطر. هكذا تصرفت عام 1956ـ1957 عندما فرضت على بن غوريون سحب قواته من سيناء وقطاع غزة. وعندما اعاد كيسنجر مساحات مهمة من الاراضي العربية لاصحابها بعد حرب اكتوبر 1973. وعندما ضغط ريغان على بيغن واجبره على سحب قواته بسرعة من بيروت عام 1982، حين الزم بوش شامير بالسكوت على سقوط الصواريخ العراقية فوق اسرائيل عام 1991، ومنعه من الانتقام من العراق. واذا كانت عملية السلام قد دفعت في السابق غاليا ثمن تردد الراعي الامريكي في طرح وجهة نظره الخاصة في المسائل الشائكة، فالواضح ان استحقاقات المرحلة القادمة، والمحافظة على استمرار العملية لا تسمح باستمرار هذا الدورالضعيف المتردد.
واخراج المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من جمودها يفرض علي السيدة اولبرايت استعادة زمام المبادرة، والانتقال من اسلوب ادارة أزمة الصراع العربي الاسرائيلي الى العمل على حلها، وتقديم اقتراحات محددة وحلول عملية ملموسة للقضايا الشائكة تقنع الاطراف بان استمرار المشاركة في عملية السلام فيه منافع، وتفهمهم بان العودة لمرحلة ما قبل انطلاق عملية السلام له ثمنه، وتطمأنهم الى ان اهدافهم الرئيسية والاكثر أهمية قابلة للتحقيق حتى لو تأخرت قليلا. ولا ادري اذا كان استبدال منسق عملية السلام يساعد في ذلك، لاسيما وانه يتحمل قسطا كبيرا عن تدهور الراعية الامريكية للعملية، ولان طرفي الصراع باتا يتصرفان وفي ذهنهما صورة مسبقة ومعرفة دقيقة بكل مناوراته وتكتيكاته. ولا نذيع سرا اذا قلنا بان الطرف الفلسطيني لم يعد يجد في زياراته للمنطقة اية فائدة عملية. ومطالبة ايضا باعادة الاعتبار للقيمة الكبرى للزمن التي لم يوليها روس ما تستحق من اهتمام، وبخاصة المواعيد المحددة في الاتفاقات، وفرض احترامها بدقة، لاسيما وان رمال الشرق متحركة ورياحه تهب دون انتظام، ولا احد يستطيع انكار بانها حبلى بالتطورات ولا احد يستيع معرفة متى ستهب العاصفة القوية القادرة على الاطاحة بعملية السلام وبكل الجهود المضنية التي الادارة الامريكية على مدى ست سنوات. فامام عملية السلام تواريخ ومواعيد حاسمة في تحديد مستقبلها برمته. ولا شك في ان افساح الادراة الامريكية في المجال لحلفائها الاوروبيين ليمارسوا قناعاتهم ويتخذوا ما يحلوا لهم من مواقف واجراءات ضد الطرف او الاطراف التي تعرض استقرار المنطقة للخطر يسهم في انقاذ عملية السلام، ويعطيها قوة دفع جديدة تساعدها على تجاوز العقبات الكبيرة التي تقف في طريق تقدمها. في عهد حزب العمل اثبت الفلسطينيون والاسرائيليون بانهم ليسوا بحاجة لدور مباشر من الولايات المتحدة او من اي طرف آخر، اما في عهد الليكود فوقائع 18 شهرا من المفاوضات ومن تعثرها تؤكد ضرورة ان يكون هناك طرف ثالث. ولعل تطوير الادارة الامريكية لمفهوم الرعاية، ودخولها كشريك كامل على غرار ما حصل في المفاوضات المصرية الاسرائيلية قبل وبعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد بات امر حيويا لانقاذ عملية السلام ولتزويدها بقوة دفع جديدة تمكنها من تجاوز ما ينتظرها في هذا العام من صعوبات كبيرة. والحاجة لدور الطرف الثالث لا يقتصر على المجال الامني كما هو حاصل الآن، بل وايضا في جميع المواضيع الاخرى المطروحة على مائدة المفاوضات. وأظن بانها سوف تكبر وتزداد في الشهور القادمة وكلما اقترب الطرفان من استحقاق الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق الخليل، وعندما يجلسان للبحث في قضايا الحل النهائي، وعنما يقترب الموعد المفترض لاختتام المفاوضات ككل منتصف عام 1999. لقد تحدث الوزيرة اولبرايت مع الاوروبيين أكثر من مرة حول امكانية اطلاق مبادرة أمريكية اوروربية مشتركة اعتقد بان حالة عملية السلام تقول حان أوانها. وليس من مصلحة للادارة الامريكية في التجاوب مع مواقف نتنياهو المتشنجة من الدور المصري، فوقائع حياة عملية السلام في المنطقة منذ بدايتها، في عهد السادات وحتى الان، تؤكد بانه كان دوما ايجابيا، هدفه ايجاد حلول جذرية عادلة ودائمة لقضايا الصراع، واستبعاده او استعدائه كما يفعل نتنياهو يلحق اضرارا بعملية السلام، ويعرقل تقدمها للامام.
وفي هذا السياق يمكن القول، اذا كان الانحياز الامريكي احيانا لصالح المواقف الاسرائيلي يمكن استيعابه وفهم خلفياته ودوافعه، فوقائع تجربة 6 سنوات من عملية صنع السلام في المنطقة اثبتت بأنه ضار اذا كان شاملا وتجاوز حدوده، واذا تحول الى اذلال للطرف الفلسطيني، ودلال مفرط للمتطرفين الاسرائيليين. وبينت ايضا ان تواصله حول كل القضايا وفي كل الاوقات غير مفيد لعملية السلام، ولا للادارة الامريكية. ويشجع نتنياهو على الاستهتار بدور الراعي الامريكي، وبكل القوى الدولية الاخرى وبالشراكة مع الفلسطينيين، وبالاتفاقات الموقعة معهم. ولا يساعده على الخروج من قمقمه الايدلوجي، والتخلص من نزواته العنجهية المتطرفة. ولا يسهم في الحد من تصاعد التطرف داخل المجتمع الاسرائيلي وفي المنطقة ككل. واعتقد بان السيدة اولبرايت تخطئ اذا استمرت في الصت على عدم تجاوب نتنياهو مع مقترحها العملي الوحيد الذي طرحته الادارة الامريكية والذي قالت فيه TIME OUT للاستيطان، فصمتها على افشاله وقبولها القفز عنه يفقدها مصداقيتها ويضعف دورها اللاحق، ناهيك عن الأذى الواسع الذي يلحق بهيبة الادارة الامريكية ككل. ويخطئ اركان البيت الابيض اذا تجاوبوا مع رغبات نتنياهو الخادعة بالقفز عن قضايا المرحلة الانتقالية وبالذهاب فورا لبحث قضايا الحل النهائي، فذلك يعني هدر للوقت زج عملية السلام في متاهات لا يمكنها الخروج منها بسلام. ويشبه حالة انسان تائه كاد يقتله الظمأ في الصحراء فراح يتوغل فيها اكثر فاكثر ركضا وراء سراب. فمن المستحيل التوصل مع حكومة ليكودية متطرفة، وبهذه التركيبة، الى اتفاقات حول القدس واللاجئين والاستيطان والحدود. ودعوة الادارة الامريكية لتخفيف وتقليل انحيازها لجانب الطرف الاسرائيلي، لا تقود بالضرورة الى تصادمها الحتمي مع نتنياهو وحكومته. فاذا كانت ادارة الرئيس كلينتون غير راغبة في ممارسة الضغط على نتنياهو ولها اسبابها الخاصة بعدم التصادم مباشرة مع حكومة الليكود، فبامكانها ايضا رفع الحظر الذي فرضته على دور مؤسسات الامم المتحدة في عملية السلام، وتسهيل الطريق امام مشاركتها بفعالية في صنع الاستقرار في المنطقة، بما في ذلك التفكير ارسال قوات لحفظ الامن والسلام على الحدود الفاصلة بين اسرائيل واراضي الدولة الفلسطينية التي سيعلن عن قيامها منتصف العام القادم.
وفي سياق الحديث عن دور الادارة الامريكية في ابقاء عملية السلام على قيد الحياة، وتعطيل او تاجيل انفجار الاوضاع في الضفة والقطاع، لا بد من التأكيد على استمرار الدعم الاقتصادي للفلسطينيين، فتحسين الاوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتسهيل حياة الناس اليومية يزود شرايين عملية السلام بدماء الحياة، وعكس ذلك صحيح ايضا. والكل يعرف بان الاقتصاد الفلسطيني بحاجة كم هائل من الاستثمارات والمعونة كي يصبح قادرا على البقاء ومنعه من للانهيار. فتواصل دعم الدول المانحة في السنوات القادمة ضروري وتشجيع الاستثمار من الداخل والخارج ضروري ايضا. ومحاربة الفساد في اجهزة السلطة الفلسطينية والانتهاء من وضع التشريعات اللازمة، ووقف انتهاك حقوق الانسان، وتعزيز الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني، ضرورة لا غنى عنها، لتحقيق كل ما هو ضروري لمنع انفجار الاوضاع، وتحسين مستوى حياة الناس والنهوض بالاوضاع الاقتصادية، واستمرار عملية السلام ايضا.وذات الشيء ينطبق على تعطيل تحرك المجتمع الاسرائيلي باتجاه التطرف، وتوجه الحكم في اسرائيل باتجاه العنصرية والدكتاتورية، وانشغاله المتواصل بالتفوق العسكري بدلا من انشغاله في البحث عن سلام دائم مع العرب والفلسطينيين.
أعتقد بان اخراج عملية السلام من المأزق الذي تقف فيه الآن، ومعها السياسية الامريكية، ليس بالامر المستحيل، وكان يمكن ان يكون اسهل، لو تم العمل له قبل عام بشكل اكثف وافعل، وقبل تفاقم الازمة السياسية في اسرائيل. فالادارة الامريكية تبقى رغم كل اخطائها الجهة الدولية الوحيدة القادرة على التأثير في القرارالاسرائيلي، وذلك ليس فقط بحكم كونها القطب الاوحد في هذه المرحلة الذي يقرر وجهة السياسة الدولية، بل والاهم بسبب طبيعة العلاقة التاريخية بين اسرائيل، حكومة وشعبا واحزابا، بالولايات المتحدة الامريكية. فالشارع الاسرائيلي حساس اتجاه هذه العلاقة ويتأثر بالمواقف والمصالح الامريكية ويتفاعل معها بسرعة. وكل الحكومات والاحزاب الاسرائيلية تحرص بصورة عامة على تجنب التصادم مع البيت الابيض وتسعى لكسب وده باستمرار. والمشكلة لا تكمن في قدرة الولايات المتحدة على الثأثيرعلى مواقف نتنياهو بل في مدى استعداد البيت الابيض لاستخدام اوراق الضغط الكثيرة المتوفرة بين يديها. ومشكلتها تكمن في ان اسرائيل حليفها الاول في المنطقة هو الذي يتمرد على سياستها وليس العرب. تمرد الرئيس العراقي صدام حسين على الادارة الامريكية فحصل ما حصل، وتمرد الرئيس الليبي معمر القذافي فحصل ما حصل ايضا. وتمرد نتنياهو فلم يحصل اي شيء يقنع العرب بعدالة السياسية الامريكية. لقد سنحت الفرصة للادارة الامريكية، اكثر من مرة، لان تصطدم مباشرة بجدار المراوغة والنفاق الذي بناه نتنياهو حول موقفه، واتيح لها ان تشهد بنفسها مرارا كيف ان نتنياهو يحبط الدبلوماسية الامريكية، ويفقدها مصداقيتها، الا ان ادارة كلينتون تغاضت عن كل ذلك. لقد اضاعت الوزيرة اولبرايت عاما كاملا “1997” من الجهد اتجاه صنع السلام في هذه المنطقة المتوترة من العالم، زارت خلاله
مرة واحدة عددا من دوله ووجهت خطابات مباشرة للشعوب المتورطة في النزاع..الخ فهل ستغير اسلوبها، أم انها ستضطر لزيارة المنطقة لاطفاء الحرائق الكبيرة والصغيرة المرشحة للاشتعال في أكثر من زاوية من زواياها ؟؟