رياح الازمة السياسية في اسرائيل تعصف بعملية السلام المنهكة
بقلم ممدوح نوفل في 06/01/1998
بعد صراع حاد مع نتنياهو، بعضه معلن وبعضه خفي، اعلن دافيد ليفي استقالته من الحكومة الاسرائيلية. وعللها برفضه اسس ميزنية الدولة التي تتعارض ومصالح الفئات الفقيرة وتزيدهم فقرا.. ولان نتنياهو ووزير ماليته وضعاها دون التشاور معه، ولم ياخذا بعين الاعتبار مطالب حزب “غيشر” ورايه فيها. اما وقائع تاريخ العلاقة بين الرجلين فتبين بان صراعهما قديم وأوسع من قضية الميزانية ومن حصة الفقراء فيها. فنتنياهو قبل ان يصبح رئيسا للوزراء، عمل على تهميش ديفيد ليفي في اطار حزب الليكود. في حينه انفصل ليفي عن الليكود واسس حزبه المستقل “غيشر” كي يعزز مواقعه ويتجاوز التهميش، ويتمكن من منافسة نتنياهو على منصب رئيس الوزراء. وفيما بعد ساومه من موقع قوة، وضم حزبه في ائتلاف مع الليكود وحصل على منصب وزير الخارجية. وبعد تشكيل الحكومة واصل نتنياهو تهميش دور ومكانة وزير خارجيته بطريقة مهينة ومتعمدة. فكثيرا ما تهرب من اصطحابه في الزيارات الرسمية المتعلقة بالقضايا السياسية، ناهيك عن مصادرته صلاحيات وزارة الخارجية، وتعدي اركان ديوانه على مهام وصلاحيات ديفيد ليفي. وخلال فترة 18 شهرا من عملهما المشترك ظهر تباين سياسي بين الرجلين حول طبيعة العلاقة مع الادارة الامريكية كراعية لعملية السلام، وحول العلاقة مع الدول العربية، وحول الموقف من عملية السلام، وتنفيذ الاتفاقات التي تم توقيعها مع الجانب الفلسطيني. فوزير الخارجية ميال لمراعاة المصالح الامريكية في المنطقة، وللتجاوب مع مواقفها وعدم احراجها، والتعامل معها بصدق ووضوح، باعتبارها الحليف الاستراتيجي لدولة اسرائيل، ومواقفها تخدم المصالح العليا لشعبها. ورغم انه من انصار الاستيطان في الضفة الغربية، الا انه كان وما زال يؤيد الانفتاح على الدول العربية، ويؤيد مبادلة الارض بالسلام، بما في ذلك اعادة اجزاء من الجولان السوري المحتل عام 67 الى سوريا. وتنفيذ مرحلتي انسحاب واعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية، حسب نصوص اتفاق الخليل الذي رعته الادارة الامريكية. اما نتنياهو فقد ظل يتجاهل كل ذلك، ولم يتورع عن توتير وتخريب العلاقة العربية الاسرائيلية، والامريكية الاسرائيلية، والحاق الاذى بالسياسة الامريكية في المنطقة، وافقدها صدقيتها كراعية لعملية السلام وكافلة للاتفاقات التي انبثقت عنها. ولم يتورع عن الاساءة لسمعة وهيبة اركان الادارة الامريكية واحدا تلو الآخر ولم يستثني احدا منهم، واظهرهم جميعا بانهم ضعفاء ولا حول ولا قوة لهم امام صلابته المبدئية.
وبصرف النظر عن دوافع نتنياهو في تهميش وزير خارجيته، وتجاهل كتلته اثناء المفاوضات والمساومات حول الميزانية، التي اجرها في الاسبوعين الاخيرين، مع الاحزاب الاسرائيلية، فالواضح انه تعمد حشره، ودفعه نحو الاستقالة، وفرض عليه الوقوف في خندق المعارضة من خارج الحكومة بعد ان قام بدور المعارضة من داخلها. فهل ارتكب نتنياهو حماقة جديدة ضمن حماقاته المتلاحقة، ام انه عاقب دافيد ليفي على مواقفه ونجح في دفعه الى اطلاق النار على رجليه.. ؟
من البديهي القول ان مواقف نتنياهو وتصرفاته ستدفع بليفي وحزبه وانصاره لخوض الصراع حتى نهايته ضد نتنياهو وحكومته والعمل اسقاطها واسقاطه اذا أمكن. واذا كان مبكرا الان تقدير النتائج النهائية للصراع بينهما، فالاسابيع القلية القادمة كفيلة بذلك وكفيلة بكشف حقيقة نوايا نتنياهو. واي تكن النتيجة النهائية للصراع بينهما فالواضح ان استقالة ليفي وجهت صفعة قوية، داخلية وخارجية، لنتنياهو ولتكتل الليكود. ويمكن اعتبارها بمثابة اول حجر مفصلي يسقط من بنيان حكومة نتنياهو وصرح الائتلاف الحاكم. ويرجح ان يكون لها تفاعلاتها الواسعة داخل المجتمع الاسرائيلي، وعلى مسيرة عملية السلام على كل مسارتها.
ويسجل لدافيد ليفي انه أحسن توقيت استقالته، واحسن اختيارالقضايا الاجتماعية ومسألة توزيع الميزانية، وليس السياسية، كموضوع رئيسي للصراع وكسبب مباشر لاستقالته. فاستقالته حول قضايا الميزانية وحصة الفئات الفقيرة مكنته من الظهور كرجل مبادئ وقوي، بعكس ما اشيع عنه كرجل انتهازي ضعيف. وجنبته الدخول في صراعات حول القضايا السياسية، داخل حزبه “غيشر”، ومع زعماء الليكود المعارضين لنتنياهو “شامير وبني بيغن وميريدور والمرت وليفنات”، والكتل البرلمانية الاخرى. وارسى اسسا اولية لاعادة صياغة تحالفاته الحزبية. وبات يتحدث بثقة عن كسب المعركة وقال للامريكان والفلسطينيين والاوروبين اذا خرجت من الحكومة فلن تبقى وسيسقط نتنياهو. وأظن انه لن يخسر شيئا، فقد ظهر في الشارع الاسرائيلي كبطل يدافع عن طبقة الفقراء المعدمين الشرقيين الآخذه في التنامي في مرحلة ما بعد “الاشتراكية في اسرائيل”. وترك نتنياهو يتخبط في الوحول التي وضعها في طريق عملية السلام، وظهر امام القوى الدولية كرجل حريص على صنع السلام مع العرب، وتوطيد علاقة اسرائيل بحلفائها الامريكان والأوروبين. وحافظ على وحدة قاعدته وكرس مصداقيتة امام ناخبيه، وهم باغلبيتهم الساحقة من فقراء اليهود الشرقيين العلمانيين. والمعلومات الاولية المتوفرة تشير الا ان لقاءات اركان كتلة غيشر مع قيادة حزب العمل شجعته على الاستقالة وعلى المضي قدما في المعركة، واعطته بعض الطمانينة حول مستقبله السياسي. وضمن سلفا لحزبه خمسة مقاعد في الكنيست القادمة، في حال الذهاب لانتخابات جديدة مبكرة وشكل قائمة موحدة مع حزب العمل.
واذا كانت استقالة ليفي قد فتحت باب الصراع الداخلي في اسرائيل على مصراعيه وعززت احتمال نجاح المعارضة في اسقاط الحكومة والوصول الى حل الكنيست والذهاب لانتخابات جديدة فمن الخطأ الاعتقاد بان هذه التطورات سوف تأخذ منحى دراماتيكيا سريعا، فنتنياهو كما قال، سوف يقاتل من أجل البقاء في الحكم حتى عام 2000، والواضح بانه يملك الادوات والمعدات التي تساعده على الصمود. فاسقاطه شخصيا من رئاسة الوزراء يحتاج الى ثلثي اصوات الكنيست “81 صوت” ليس سهلا تجميعها، وبامكانه افشال محاولات اسقاط حكومته بالاعتماد على أغلبية من الائتلاف اليميني الحاكم، تشكل 61 عضو كنيست، ودعم عضوين من حزب موليدت اليميني العنصري الاكثر تطرفا. فجميعهم يشاركون نتنياهو آرائه بشان عملية السلام، وبعضهم يرفض بشدة اي انسحاب من الضفة الغربية ويعتبرها ارض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل. ولهم مصالح مشتركة بشأن عدم الذهاب مباشرة للانتخابات طالما ان نتياهو لم يفرط بالارض، ولهم مصلحة في النضال المشترك للبقاء في الحكم اطول فترة زمنية ممكنة، وحرصوا بعد استقالة ليفي على تجميد خلافاتهم وصوتوا موحدين لصالح الميزانية. ومناقشة الميزانية في الكنيست بينت المديات التي يمكن ان تصلها هذه القوى اليمينية في الدفاع عن مصالحها وعن مواقعها. وكل من شاهدها على شاشة التلفاز، سواء يفهم اللغة العبرية ولا يفهمها، كان امام سيرك. فالمفاوضات والمساومات اشبه بالبازار سقطت فيه كل الروادع الاخلاقية والسياسية. فلكسب حصص اضافية من الميزانية تجاوزت الكتل كل الحدود الممكنة، وكل الاعراف البرلمانية، وخرجت المجوعات الدينية، وانصار الاستيطان، ودعاة التصلب في وحه العرب والامريكان، بنصيب الاسد، ونالت ما طلبته.
لا شك في ان استقالة ليفي حركت رياح الازمة السياسية في اسرائيل، وعمقت الفرز داخل المجتمع الاسرائيلي، ووضعت نظام الحكم في اسرائيل على عتبات مرحلة انتقالية، اعتقد بانها لن تكون قصيرة، وسوف ياخذ المستوطنون مجدهم فيها. ومهما توقع المرء من سوء لها يمكن ان تكون اسوء بكثير، ليس لان دافيد ليفي المعتدل خرج منها، بل لان حكومة نتنياهو صارت أكثر انسجاما ومالت نحو التطرف. ودخل المجتمع الاسرائيلي مرحلة الاستقطاب السياسي الحاد، وعاد كل طرف للتمترس في خنادقه الايدلوجية الاصلية، وستتعرض عملية السلام ككل، والاتفاقات مع الفلسطينيين، الى نيران كثيفة من قبل المتطرفين، ولا اظن بان المعارضة، غير الموحدة، بقيادة باراك وليفي وساريد سوف تدافع بقوة عن تنفيذ مرحلتي الانسحاب من الضفة الغربية. ووقائع الصراع في عام 1997 حول قضايا السلام مع العرب خير دليل على ذلك. فالمعارضة الاسرائيلية كانت الغائب الاكبر عن المعركة، وكانت مواقفها اقرب للمتفرج من بعيد، منه عن المشارك في معركة الدفاع عن عملية صنع السلام. وتركت الفلسطينيين يخوضون المعركة وحدهم، ولم يحاولوا تحفيز الراعي الامريكي على توسيع مشاركته فيها، وتطوير اسناده للفلسطينيين.
ويفترض ان لا يكون هناك خلاف في صفوف الكتاب والمفكرين العرب بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية المتفائلة والمتشائمة او “المتشائلة” على ان المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية والسورية واللبنانية صارت خاضعة لتقلبات الوضع الداخلي السياسي والحزبي في اسرائيل، وان مفعول العامل الخارجي قد تقلص وضعف، ولا اظن ان رياح الازمة السياسية في اسرائيل سوف تمكن الامريكان من تحقيق رغبتهم في اعادة بعث الحياة في المفاوضات على المسارين السوري واللبناني. واذا نجحت فلن يكون لخطوتها اي مردود عملي على الاطلاق. فالحكومة الاسرائيلية بتركيبتها اليمينية المتطرفة ليست جاهزة في هذه المرحلة للدخول في مفاوضات جوهرية حول الانسحاب من الجولان، واذا دخلتها فهدفها تقطيع الوقت وليس أكثر، فهي بالتاكيد غيرقادرة على الوصول الى اي اتفاق واقعي. ولا اظن بان القيادة السورية مستعدة، بعد هذا الصمود، للتراجع عن موقفها بشأن استئناف المفاوضات من حيث توقفت. ولا مصلحة لللبنانيين شعبا وحكومة الدخول في مفاوضات مع الحكومة الاسرائيلية الحالية حول انسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب اللبناني، فتصريحات مردخاي الاخيرة ليست سوى فخ منصوب لهم وللسوريين. وحكومة نتنياهو الغارقة في الازمات ليست مستعدة لتقديم تنازلات لللبنانيين، ولا الدخول في حلول مغامرة تؤجج ازماتها.
اما بشأن المفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي فالمرجح ان تبقى تراوح في مكانها فترة طويلة قد تستغرق عام 1998 بالكامل دون تحقيق اي تقدم جوهري. واذا كان عام 1997 كان سيئا لعملية السلام كما قال رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير فعلى السلطة الوطنية الفلسطينية ان تضع في حساباتها احتمال ان يكون عام 1998اسوء بكثير. فالمتوقع ركود في حالة المفاوضات في اشهرها الاولى مصحوبة بمماطلة هدفها تعطيل تنفيذ الاتفاقات، تليها فترة موات يتخللها ضغط شديد على الفلسطينيين من كل الاطراف. واعتقد بان نتنياهو ينتظر من الله ان ينقذه، وأن ياتي انقاذه على يد المتطرفين الفلسطينيين فهو الاسهل والافعل.
واذا كانت استقالة ليفي وما خلقته من تفاعلات داخلية شأن اسرائيلي داخلي، يدفع بنتياهو وحكومته ايلاء الاوضاع الداخلية اهمية استثنائية على حساب عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها، فالفلسطينيون أكثر حاجة لاتخاذ لمثل هذا الموقف. وتطورات الازمة السياسية في اسرائيل تفرض عليهم اعادة النظر في ترتيب جدول اولوياتهم، بوضع تصليب الوضع الداخلي وتماسك الجبهة الداخلية في قمته. ويخطئ من يعتقد بان روس واولبرايت سوف يفعلان في عام 1998 لتحريك عملية السلام اكثر مما فعلا في العام السابق، ولم يكن اكثر من تقيم المسكنات للعرب والفلسطينيين.