دروس كثيرة قدمتها الازمة العراقية للعرب والفلسطينيين
بقلم ممدوح نوفل في 19/02/1998
قبل انفجار الازمة، رفض فريق التفتيش برئاسة “بيتلر” اعتماد آلاف المستندات التي قدمها الجانب العراقي، وظل يصر بتوجيه امريكي، على امتلاك العراق ترسانة ضخمة من الاسلحة البيولوجية والكيماوية. ورغم تراجع النظام العراقي عن معظم مواقفه، وقبوله تفتيش كل المواقع وضمنها القصورالرئاسية، ما زالت الادارة الامريكية تساندها بريطانيا مصممة على توجيه ضربة عسكرية قوية له، اطلقت عليها اسم “رعد الصحراء”، وترفض التعامل مع ما يحدث بين العراق ولجنة التفتيش على انه نوع من الشد والجذب الممكن تفهمه في اطار العلاقات الدولية الراهنة، والممكن تفهمه ايضا في اطار الظروف السيئة التي يعانيها العراق تحت الحصار الذي انهك قواه منذ ما يزيد على سبع سنوات. فالكل يدرك بان تعطيل بغداد لعمل فرق التفتيش لم يكن هدفه طردها وانهاء مهمتها، وانما تسريع عملها واغلاق ملفات التفتيش واحدا تلو الآخر، تمهيدا لرفع الحصار، وهذا ما ترفضه واشنطن.
وتعرف ادارة كلينتون بان العراق، في حالته الراهنة، لا يمثل اي تهديد للمصالح الامريكية الاستراتيجية في المنطقة وابرزها استمرار تدفق النفط والمحافظة على امن اسرائيل. وهي على يقين بانه لا يملك القدرة على الرد او مواجهة الآلة العسكرية الامريكية، ولا يملك الاسلحة الكيماوية والجرثومية التي تتحدث عنها. وحتى لو كان يملك بعضها وبعض الصواريخ فالواضح انها ستكون بقايا لم تصلها لجان التفتيش، وغير صالحة للاستخدام المباشر، ولن يغامر بالكشف عنها حتى لا يقع في المصيدة الامريكية. ولن يوجه صواريخه كما فعل عام 1991 لدول الخليج، التي لا تشجع على العمل العسكري ضده، كما لن يوجهها ضد اسرائيل لانه يدرك بانها جاهزة للرد باسلحة تفوق اسلحته، فهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك الردع النووي، وتملك اسلحة بيولوجية وكيماوية لا يملكها الآخرون. ورغم معرفة واشنطن بهذه الحقائق فهي تصرعلى تصوير هذا الشد والجذب، بين العراق وفرق التفتيش، على انه عصيان عراقي مطلق يستحق عليه العقاب الفوري والتأديب العسكري. وتواصل ارسال مزيد من القوات والمعدات الى منطقة الخليج، كما تواصل تهيئة الرأي العام الامريكي والعالمي لتأييد الضربة. وماضية في تصعيد الموقف وترغب في توجيه ضربتها ليس بسبب اخفاء العراق اسلحة جرثومية وكيماوية بل لاغراض واهداف اخرى .
والواضح ان الازمة لن تنتهي خلال فترة قصيرة حتى لو نجحت مهمة كوفي عنان وسمح العراق بالتفتيش. وملف الاسلحة بمختلف صنوفها سيبقى مفتوحا من وجهة نظر الادارة الامريكية، وقد تفتح بجانبه ملف حقوق الانسان في العراق واية ملفات أخرى تراها ضرورية لابقاء الحصار مفروضا على العراق. فالادارة الامريكية بحاجة بين فترة واخرى لتذكير العالم من جديد بنظام القطب الاوحد الذي تقوده، وتكريس ذاتها من جديد باعتبارها القوة الدولية الوحيدة المعنية عن رسم مسار الوضع الدولي، والتي تمتلك افضلية مطلقة في القرار واسبقية في التنفيذ دون منافسة او مزاحمة أحد. ناهيك عن رغبة اقطاب الصناعات الحربية الامريكية في تصريف كميات من المنتوج الحربي بقذفه فوق العراق وقبض ثمنه من الدول العربية، واختبار منتوجهم الحربي الجديد على اهداف حية وحقيقية. واصرار واشنطن على ضرب العراق رسالة عامة لكل دولة من دول المنطقة، صديقة او معادية ـ ما عدا اسرائيل ـ هدفها ارهاب كل دولة تحاول تحدي الهيمنة الامريكية، ورسالة خاصة في هذه الفترة لكل من ايران سوريا وليبيا والسودان .
والواضح ان المعركة اذا وقعت ستكون بمثابة اعتداء امريكي على العراق. فواشنطن لم تستطع تامين الغطاء الدولي كما حصل في حرب الخليج الثانية عام 1991، ولم تجد من يشاركها في توجيه الضربة العدوانية سوى بريطانيا وكندا واسترالية ونيوزلندا، ناهيك عن ان ثلاثا من الدول دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي ـ فرنسا وروسيا والصين ـ ترفض الحل العسكري من اساسه، وتطالب باستمرار المساعي الدبلوماسية. لقد تحدت واشنطن مواقف الدول الكبرى الاخرى وضربت مصالحها عرض الحائط، ورفضت التجاوب مع المواقف العربية والدولية الداعية لحل الازمة سلميا، دون ان تواجه داخل وخارج الامم المتحدة من يردعها او يحد من حركتها، او يعطل توجهاتها. واعتقد بان اقدامها على ضرب العراق دون غطاء دولي يمثل سابقة خطيرة سوف يكون لها لاحقا انعكاساتها على العلاقات الدولية وعلى دور الامم المتحدة ومؤسساتها، وعلى علاقة الولايات المتحدة بدول المنطقة، وسوف يقوي الاتجاهات المتطرفة فيها، ويقوض عملية السلام كليا وينهيها.
وسواء حصلت الضربة العسكرية الامريكية للعراق، او جمدت ادارة كلينتون تنفيذها، أو نجحت الجهود الدبلوماسية الدولية والعربية في ترجيح كفة الحل السياسي، فهذه الازمة وما رافقها من تحركات أكدت بأن التوافق الدولي حول قضايا المنطقة شكلي وقيمته في العلاقات الدولية معنوية فقط، ومروبط بما يمكن لكل طرف ان يفعله على الارض. ومجريات الاحداث بينت بان الادارة الامريكية ما تزال قادرة على التحكم في الموقف الدولي داخل وخارج مؤسسات الامم المتحدة، وبانها مستعدة للتصرف دون غطاء دولي اذا اقتضت مصالحها ذلك. ولا شك في ان تعطيل الضربة واحباط التوجهات الامريكية سوف يضعضع تفرد الولايات المتحدة بالسياسة الدولية، بما في ذلك دورها المنحاز للطرف الاسرائيلي الذي سيتأثر بخروج العراق سالما من هذه الازمة. ويفتح الباب امام دول اخرى للمشاركة في رعاية عملية السلام.
ومن حق العرب شعوبا وحكومات ان ينظروا للتوجهات الامريكية بعين الشك والريبة، فتجربتهم بينت انها في سياق تحقيق أهدفها ومصالحها الداخلية والخارجية لا تتورع عن الكيل بمكيالين واكثر، ومستعدة للمجاهرة بذلك عندما يتعلق الامر باسرائيل. ومن حقهم ايضا ان يخشوا من موقف امريكي جديد يقوم على تفتيت المنطقة انطلاقا من العراق الحلقة الاضعف حاليا. فسيناريوات الضربة الذي يجري الحديث عنها تحمل في طياته مخاطر تقسيم العراق، وزجه في حروب اهلية داخلية طاحنة تتورط فيها كل شعوب الدول المجاورة له. فشن غارات جوية مكثفة على مواقع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية وضرب مراكز القيادة والحرس الجمهوري لا يغير النظام في العراق. وقصف البوارج والطائرات والصواريخ الذكية يدمر المصانع، والمنشئات المدنية والعسكرية، لكنه بالتاكيد لا يقتل القيادات. والادارة الامريكية تعرف بان انجاز هكذا مهام يحتاج الى قوات برية اجنبية كبيرة او محلية قوية ومنظمة. ولا تستطيع الادعاء بوجود قوى محلية عسكرية او مدنية قادرة على القيام بهذه المهمة، ولا اظن بأنها فقدت صوابها وباتت مستعدة ارسال نصف مليون جندي أمريكي لاحتلال بغداد واسقاط نظام صدام. ولا ادري اذا كانت ادارة كلينتون ـ اولبرايت قد وضعت في حساباتها امكانية تسببها في قتل عشرات ومئات ألوف المدنيين من العراق والدول المجاورة له في حال استهدافها واصابتها معامل ومستودعات الأسلحة الجرثومية والكيماوية التي تتحدث عنها.
ويخطئ العرب اذا اعتقدوا بان دفاع روسيا وفرنسا الصين وسواها من دول العالم عن مواقعها وادوارها في النظام العالمي السائد وعن مصالحها في الشرق الاوسط، قد ارتقى هذه المرحلة لمستوى تعطيل التوجهات الامريكية الاستراتيجية. وتخطئ القيادة العراقية من جديد اذا لم تستمع الى النصائح الدولية الصادقة والعربية المخلصة بشان سبل تجنب الضربة، واذا اعتقدت بان الخلافات الدولية قادرة على شل الحركة الامريكية وتعطيل الضربة، والخوف ان تجد نفسها تنفذ سياسة أمريكية اسرائيلية دون قصد. ولا غضاضة في الظروف الدولية السائدة والاوضاع العربية المهترئة ان يقبل العراق في الوقت الحالي بالتفتيش. فالخيارالمطروح هو ان يبقى العراق موحدا او ينتهي. والهدف المركزي للعرب وضمنهم العراق هو تجنب الضربة. ولا شك في ان بقاء العراق موحدا، وتجنيب شعب العراق وبقية الشعوب العربية هزائم وكوارث جديدة لا تقل عن هزيمة وكارثة الفلسطينيين في عام 1948، تستحق تنازل القيادة العراقية عن بعض كرامتها والموافقة على تفتيش قصورها، علما بان تنازلها هذا يمس كرامة النظام الرسمي العربي كله. واذا كانت الحياة، وفقا للحكمة العربية، تساوي وقفة عز في اللحظات الصعبة، فوقفة العز المطلوبة في هذه الفترة تكمن في نجاح العرب في انقاذ العراق من الدمار، ونجاح القيادة العراقية في امتصاص زخم الاندفاع الامريكي وافشال اهدافه المباشرة والبعيدة، وليس في انتحار القيادة العراقية، وتفتيت العراق، وابادة عشرات ومئات الألوف من العراقيين، ونحر العرب.
دروس كثيرة ثمينة ومفيدة قدمتها الازمة الجديدة للعرب، فهل سيستفيدوا منها في معالجة اوضاعهم الداخلية وتصحيح علاقاتهم مع الآخرين ؟