رعاية امريكيا للمفاوضات فشلت والازمة العراقية غطتها..فما العمل ؟
بقلم ممدوح نوفل في 07/02/1998
بعد فشل لقاءات واشنطون، واخفاق الرئيس كلينتون في تحقيق التقدم المطلوب على درب السلام، تنامى احساس المراقبين وكل المهتمين بشؤون المنطقة بأن بقايا عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي أصبحت بدون راع، ودخلت حالة من الفراغ الدبلوماسي. وبعد جولة الوزيرة اولبرايت تكرست القناعة بان الادارة الامريكية قلصت اهتمامها بصنع السلام في المنطقة لصالح تاجيج صراعاتها المتنوعة الكامنة في اكثر من زاوية من زواياها، وزجها في اعمال حربية جديدة وصراعات دموية مؤلمة. فالرئيس كليتنون لم يتطرق في خطابة السنوي عن حالة بلاده الى العملية السلمية في المنطقة، علما انه راعيها وكان يعتبرها قضية محورية في السياسية الامريكية الخارجية. والوزيرة اولبرايت نسيت كليا، او تناست، اقتراحها اليتيم حول التجميد المؤقت للاستيطان الاسرائيلي، ولم تبذل، في زيارتها الاخيرة، الجهد المطلوب لاخراج المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من مأزقها القاتل الذي تقف فيه منذ أكثر من عام. وكلاهما أعطيا ازمة التفتيش على الاسلحة العراقية، الكيماوية والبيولوجية اهتماما زائدا ومبالغ فيه ودفعاها باتجاه التعقيد، وجعلاها أخطر القضيايا الدولية على الاطلاق، علما بانهما يدركان بانها فرع من فروع الصراع الفلسطيني العربي الاسرائيلي، وقدرات العراق العسكرية الهجومية مدمرة وبحاجة لاكثر من عشر سنوات كي يستعيد عافيته الاقتصادية.
لا شك في ان الازمة العراقية ومواقف الادارة الامريكية بشأن سياسة نتنياهو وضعت الفلسطينيين سلطة وشعب، والمعنيين ببقاء عملية السلام على قيد الحياة، وجها لوجه امام سؤال ماذا بعد..وما هي الخيارات والبدائل فلسطينيا وعربيا ودوليا، لتجنيب شعوب المنطقة ويلات حروب جديدة مدمرة وتفادي الاسوء؟
لاجدال بان المصالح العليا للشعب العراقي تكمن في حل أزمة التفتيش على الاسلحة بالطرق السلمية وبدون آلام اضافية، وقطع الطريق على أمنيات الرئيس كلينتون فشل التحركات العربية والدولية، ورغبته اشغال الرأي العام الامريكي بضربة عسكرية يوجهها للعراق. اما الجواب على الشق الرئيسي من السؤال فيجب ان يبدأ من فلسطين، ويجب أن ياتي من الفلسطينيين اصحاب القضية، قبل ان يدلي العرب برأيهم ويحدد الاخرون مواقفهم. وفي هذا السياق تبرز الحاجة الماسة، في هذا الوقت بالذات، لتعمق القيادة الفلسطينية في التفكير ورؤية الحقائق الجديد التي افرزتها الاحداث، والتعامل معها بواقعية، قبل اتخاذ القرار وقبل الاقدام على على اية خطوة متسرعة قد تندم عليها. خاصة وان الاخطار المحدقة بالتطلعات العادلة للشعب الفلسطيني وانجازاته تفاقمت، وحكومة نتنياهو تنتظر خطأ ما للتخلص من عملية السلام والتحلل من الاتفاقات التي افرزتها. واي جواب انفعالي متسرع من السلطة الفلسطينية، اوعمل خاطئ من المعارضة، يقدم لنتنياهو خدمة كبرى، ويزيد الاخطار ويوسع رقعتها ويحولها لكوارث جديدة تلحق بالشعب الفلسطيني وبأرضه وباهدافه الوطنية.
والتمعن في اسباب ومكونات الازمة الجديدة مع العراق يظهر بانها تختلف نوعيا عن ازمة عام 1991، وأنه، اذا لم تكن هناك مواقف مضمرة، بالامكان حلها بمبادرات عربية ودولية، تضمن تنفيذ العراق لقرارات مجلس الامن الدولي، واحترام الادارة الامريكية لرأي الاغلبية في الهيئات الدولية، واحترام الامم المتحدة، وبخاصة مجلس الامن، لحقوق الشعب العراقي في العيش الحر الكريم ورفع الحصار المفروض عليه، وانهاء العقاب الجماعي الذي يتعرض له منذ 8 سنوات. وسواء نجحت او فشلت الجهود الروسية والدولية الاخرى، والعربية التي فاقت من سباتها متأخرة جدا، في معالجة أزمة التفتيش على الاسلحة العراقية بالطرق السلمية، فلا شك في ان هذه الازمة، ومعها الكشف غير البريء عن الفضائح الجنسية للرئيس الامريكي، اشغلت الدول الكبرى، وصرفت اهتمام الراي العام الدولي عن حالة عملية السلام المتدهور على كل المسارات. وغطت فشل دور الادارة الامريكية في رعايتها، وقدمت لاركان البيت الابيض ورقة التوت لتستر بها عورة تقصيرها وخنوعها المفضوح امام حكومة الليكود ومن يساندها في امريكا. وعطلت حركة قوى السلام في اسرائيل، المرتبكة اصلا، واعطت نتياهو الذرائع والمبررات للهروب فترة اطول من تنفيذ استحقاق الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. واظن، واغلب الظن في هذا المقام ليس فيه اثم، بان التصريحات التهيجية والاستفزازية التي اطلقها “بتلر” رئيس فريق التفتيش حول امتلاك العراق اسلحة جرثومية قادرة على تدمير تل ابيب ليس بريئة اطلاقا، بل اوحي له بها لخدمة الموقف الامريكي الاسرائيلي، ولترجيح كفة الخيار العسكري التي تحبذه ادارة الرئيس كلينتون ـ اولبرايت. وانه خص تل ابيب بالذكر لتمكين نتنياهو من تبهيت وتسخيف قيمة الاتفاقات مع العرب، والتمسك بحزم بمطالبه الامنية المبالغ فيها، وبررت له تفضيلها على مردود عملية السلام. ومهدت الطريق امامه للتدخل في الشأن العراقي، وحتى المشاركة بضربة عسكرية او امنية اجهاظية ضد العراق وقيادته، اذا وقع الهجوم الامريكي.
قد نكون فلسطينيين وعرب لا زلنا بحاجة لان نقنع بعضنا بفداحة اخطاء النظام في العراق، وبمدى خطورتها على المصالح العليا للشعوب العربية، وبخاصة شعب العراق العظيم، لكننا بالتاكيد لسنا بحاجة ان نقنع انفسنا بانحياز ادارة كلينتون لاسرائيل وبان العالم لا يرى، او انه لا يريد ان يرى، هذا الانحياز الامريكي، وبان لاسرائيل أطماع في الاراض والنفط والمياه العربية. والمسألة المطروحة على العرب هي اقناع العالم بوجهة نظرهم وليس اقناع انفسهم.
ويفترض ان لا يكون هناك خلاف بيننا كفلسطينيين وعرب على ان دور الادارة الامريكية كراعي فاعل وقادر على حماية السلام وحماية الاتفاقات التي انتجتها قد انتهى. ودخل مرحلة العد العكسي، وبدا بالانحدار السريع قبل صعود عشر المسافة المطلوبة، وقبل تزويد عملية السلام بالطاقة الاولية اللازمة لبقائها على قيد الحياة. ويفترض بجميع المعنيين بشؤون المنطقة التعامل مع اللقاء الاخير الفاشل الذي عقده كلينتون مع نتنياهو ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية باعتباره محطة فاصلة في تاريخ تفرد الادارة الامريكية في رعاية عملية السلام. واذا كانت الفضيحة الجنسية لكلينتون وأزمة الاسلحة العراقية قد القت بظلالها على الدور الامريكي تجاه المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، فتردد ادارة كلينتون عن طرح مبادرات محددة، واحجامها عن ممارسة الضغوط المطلوبة على الحكومة الاسرائيلية، وفشلها في حماية الاتفاقات التي رعتها سبقت ذلك بشهور طويلة. وصدق الوزير الخارجية الامريكية الاسبق “جيمس بيكر” حين قال للفلسطينيين بعد خروجة من مباني الخارجية الامريكية “ادارة كلينتون مديونة لللوبي الصهيوني، واشطبوا كلمة ضغط امريكي على اسرائيل طيلة عهد ادارة كلينتون”. ويخطئ من يعتقد بان ما فشل الرؤساء كلينتون وعرفات ونتنياهو في تحقيقه سيحققه الوزير “صائب عريقات” و”داني نافيه” مستشار نتنياهو في لقائهما المرتقب في واشنطن، او “دينس روس” منسق عملية السلام، اذا ظهر من جديد على مسرح المنطقة، وتجول لاحقا بين عواصمها. فما عجز عن تحقيقه الرؤساء لا يحققه المستشارون والخبراء، لاسيما وان لقائهما الجديد يتم في وقت تهز العاصفة اركان البيت الابيض، وسقف الضغط الامريكي على حكومة اسرائيل صار معروفا سلفا للجميع.
والاقتراح الامريكي المطروح للتداول لا يصلح كأساس لمعالجة ازمة الثقة بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، ولا ينقذ عملية السلام. ويخلق اجواء تشكيكية في النوايا الامريكية اتجاه الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. ويخلق سابقة خطيرة، ويقود الى اعادة فتح الاتفاقات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية واعادة صياغة بعض بنود اتفاق الخليل من جديد. ويجزء مراحل الانسحاب لمراحل جديدة متعددة. ومساحة الارض المقترح نقلها من السيطرة الاسرائيلية للسيادة الفلسطينية محدودة جدا ولا تصل الى “12%” ، ولا تتناسب مع ما ورد في الاتفاق. والجدول الزمني المقترح امريكيا لتنفيذها “اكثر من 12أسبوع” يضيف اربعة شهور للزمن المهدور، ويفسح في المجال لحكومة الليكود للتلاعب بالتنفيذ، ويبقي المسألة عرضة للتأثر بالتطورات المحتملة، ناهيك عن كون الاقتراح خاضع للمناقصة مع الاسرائليين. والاخطر من ذلك كله هو أن الاقتراح الامريكي يفرض شروطا تعجيزية وقاسية جدا على السلطة الفلسطينية، ويستجيب للموقف الاسرائيلي الرامي الى قتل الوقت والتدخل في كل الشؤون الفلسطينية الداخلية،. فالحديث الامريكي عن لجنة ثلاثية لمعالجة لمعالجة “التحريض الفلسطيني” تعني فرض وصاية اسرائيلية امريكية على مناهج ووسائل الاعلام، وخط التعبئة والتثقيف والتوجيه الوطني الفلسطيني. اما النص على تزامن تنفيذ المرحلة الاخيرة مع بدء مفاوضات الحل النهائي فيعني عدم تنفيذها اطلاقا، وزج المفاوضات في متاهات جديدة لا افق لها، والاستمرار في دق الماء في الاناء..واذا كانت موازين القوى والاوضاع الذاتية والاقليمية والدولية تفرض على الفلسطينيين اعتماد قاعدة خذ وطالب ومراكمة الانجازات مدماكا فوق مدماك كاساس لانتزاع حقوقهم فالقبول بالشروط الامريكية المجحفة المقرونة بالعرض بالبائس تهز مرتكزات موقفهم التفاوضي وتضعفه عربيا ودوليا، خاصة وان التجربة أثبتت بان الضمانات الامريكية في عهد كلينتون لا يعول عليها وكانت اشبه بكلام الليل الذي يمحوه النهار.
واذا كانت الرعاية الامريكية قد حكمت على نفسها بالفشل دون اعلان رسمي، فالمصالح العليا للشعوب العربية قاطبة وللنظام الرسمي العربي ككل، تفرض على الحكومات العربية النهوض من سباتها العميق، ولف الطابق العراقي باسرع وقت ممكن، وباقل الخسائر الممكنة. وتجنيب العراق ويلات الدمار والخراب والتقسيم، وتجنيب انفسهم وبلدانهم كوارث ما بعد خراب بغداد. وتتطلب العمل لابقاء الاضواء الدولية والاقليمية مسلطة على الصراع العربي الاسرائيلي وجوهرة القضية الفلسطينية وعلىاحتلال اسرائيل لاراضي الدول العربية الاخرى. وتفرض على القيادة الفلسطينية التشاور مع الحكام العرب في قرارها النهائي حتى لو تنصلوا من مسؤولياتهم، ولم يعملوا على سد الفجوات الموجودة في الصف العربي التي يمكن ان يتسلل منها نتنياهو لتحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية انسداد الافق امام عملية السلام.
واذا كانت مصالح العرب في هذه المرحلة تقتضي حل صراعهم مع الآخرين سلميا، فالواضح ان مستقبل السلام في المنطقة اصبح بحاجة لجهد استثنائي عربي موحد يسهم في زج ثقل الكتل الدولية في العملية السلمية الجارية مع الاسرائيليين، وفي حل الازمة العراقية. وفي هذا السياق تبرز الحاجة الماسة لعقد قمة عربية شاملة، ووضع استراتيجية عربية مشتركة. فالنظام العربي اصبح كالرجل المريض الذي يتربص الطامعون بأرضه وامكانته. وتاخير انعقادها وشل دور الجامعة العربية لا تعالج مشاكل الدول العربية بل تزيدها تدهورا، وتزيد مطامع الآخرين وتطاولهم، وذات الشيء ينطبق على ترك الفلسطينيين وحدهم يواجهون ضغوط كلينتون وابتزاز نتنياهو. وأظن ان حضور القيادة العراقية لهذه القمة ضرورة قومية. فالاقناع هو الوسيلة الواقعية الوحيدة الكفيلة بثني القيادة العراقية عن بعض مواقفها الضارة بشعبها وبالعرب، وتعطيل اندفاعها نحو خطوات مدمرة للذات وللآخرين. وتجارب العرب، في عزل بعضهم بعضا، بينت بان سياسة العزل “والانعزاليين” لا تعالج الازمات القائمة بينهم بل تفاقمها وتعمقها. لقد عزل قسم من اللبنانيون والفلسطينيون ومعهم حركة التحرر الوطني العربي وبعض الدول العربية قسما من اللبنانيين سنوات طويلة، واطلقوا عليهم صفة “الانعزاليين”، فكانت النتيجة خراب لبنان وانقسام العرب، ودخول بعضهم في صراعات دموية ضد أخرين. وبعد اتفاقات كامب ديفيد عام 1979عزل العرب جمهورية مصر ولاحقا تراجعوا ولكن بعد فوات الاوان، وبعد ان لحقت بهم جميعا خسائر كبيرة معروفة ولا مجال لسردها من جديد. صحيح ان خطيئة النظام العراقي في عام 1990ـ1991 كبيرة لكن الصحيح ايضا ان الاستمرار في عزله يدمر ويقسم شعب وارض العراق ويخلق للعرب قضية جديدة لا تقل خطورة وتعقيدا عن القضية الفلسطينية، ويضعضع اركان النظام السياسي العربي كله. فهل سيضع الزعماء العرب المصالح القومية العليا فوق الاعتبارات الاخرى ام المواقف الانفعالية ستبقى سيدة السياسية الرسمية العربية لحين خراب البصرة وضياع القدس؟