دينس روس” فشل.. والحالة الراهة ليست الأفضل
بقلم ممدوح نوفل في 30/03/1998
في سياق تقيمها لاوضاع المنطقة قالت وزيرة الخارجية الامريكية “مادلين اولبرايت”،أكثر من مرة “ان عام 1997 لم يكن عاما جيدا لعملية السلام”، ولم تطرح تصورها لكيفية تحسين اوضاعها ومنعها ان تسوء اكثر في عام 1998، واكتفت وبدعوة الحكومة الاسرائيلية والسلطة الفلسطينية لاتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة، وهددت بانهاء رعايتها للمفاوضات. اما رئيس السلطة الفلسطينية فقال في اكثر من مناسبة “حالة عملية السلام تتراجع للوراء، ولا شيء يتقدم للامام وكل شيء مجمد..واجتماعات اللجان الفلسطينية الاسرائيلية هدفها تعطيل المبادرات الدولية..الخ”. ولم يطرح مخارج او بدائل فلسطينية. واكتفى برفض اللقاء بنتنياهو، وبتحذير الدول الكبرى من خطورة استمرار الاوضاع على ما هي عليه. ودعا الزعماء العرب مرات عدة لعقد قمة عاجلة لبحث ما آلت اليه اوضاع عملية السلام. ويمكن لكل مواطن فلسطيني ومراقب محايد بمشاهداته الميدانية اضافة الكثير على اقوال الزعماء الثلاث.
هذه المقتطفات وسواها تبين عمق المأزق الذي تعيشه عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي، وتعبر بدقة عن مدى التدهور الذي بلغته العلاقات العربية والفلسطينية الاسرائيلية. فالثقة بين الطرفين مفقودة تماما، ومفاوضات المرحلة الانتقالية معطلة باحكام، والاتفاقات مجمدة مكان توقيعها ولم يتمكن حتى الامريكان زحزحتها. وخلال اقل من عامين بدد نتنياهو اجواء السلام التي سادت بعد مدريد واسلو، وكرس حقائق على الارض نسفت اسس مفاوضات الحل النهائي، وانهت مقومات قيام كيان فلسطيني موحد في الضفة الغربية ناهيك عن مسألة وحدة الضفة بالقطاع. وفرضت نموذج البوسنة والهرسك كواقع قائم على الارض وربما كنموذج للحل ولو بعد سنين طويلة. فالاستيطان في القدس ومحيطها، وفي معظم مناطق الضفة بلغ الآن مرحلة اقفلت آفاق البحث عن حل شبه عادل يمكن ان يقبله الفلسطينيون، وصار أشبه بمعجزة مستحيلة التحقيق. والحبل ما زال على الجرار، وحالة السلام مرشحة لمزيد من التدهور، وخلق حقائق اضافية على الارض مرشحة للنمو أكثر.
والتجربة اكدت بان المصالح الحزبية والاستقطابات الجماهيرية، خلال فترة الانتخابات، تحتل مواقع حاسمة في برامج الاحزاب وتوجهاتها. ويدرك نتنياهو ان اندفاعه في مصادرة الاراضي، وبناء مزيد من المستوطنات الجديدة وتطرفه ضد السلطة الفلسطينية..الخ تعزز مواقعه وسط جمهوره المتطرف وداخل حزبه، وتبقيه في مبنى رئاسة الوزراء اربع سنوات جديدة، ناهيك عن كونها تريح ضميره وتشبع قناعاته المتطرفة. ويتصرف وكله قناعة بان عرفات لا يملك خيارا آخر غير الخيار الجاري، ومجبرعلى الاذعان للامر للواقع. وبأن كلينتون لن يكون ملكيا أكثر من الملك، ولن يتصادم مع حكومة اسرائيل ومن يساندها من اجل القضايا الفلسطينية والعربية، وقناعته هذه تشجعه على المضي قدما في توجهاته. وتجربة نتنياهو في العامين الماضيين مع الادارة الامريكية ودول السوق الاوروبية المشتركة ومع الامم المتحدة ومع العرب بينت له ان بامكانه الاحتفاظ بعلاقته مع الجميع دون دفع استحقاقات صنع السلام، ودون تنفيذ الالتزامات التي شهدوا عليها. صحيح ان الولايات المتحدة الامريكية واوروبا قادرتين على التأثير في القرار الاسرائيلي، الا ان المشكلة لا تكمن في قدرتهما بل في اتفاقهما اولا على مثل هذا التوجه، وثانيا في مدى استعدادهما، فرادى ومجتمعين، على استخدام اوراق الضغط الكثيرة المتوفرة لارغام نتنياهو على احترام ارادة المجتمع الدولي. لاسيما وان اي منهما ـ امريكا واوروباـ لا تشعر بان مصالحها في خطر.
ومن يراجع مواقف الادارة الامريكية في الفترة الاولى من حكم كلينتون وما انقضى من الثانية يستخلص انها لا تتورع عن استخدام معايير مختلفة عندما تكون المواقف الاسرائيلية المعتبرة أمريكيا معروضة بجانب المواقف الفلسطينية والعربية ضعيفة الوزن وقليلة الاعتبار. ولم تمارس اي ضغط جدي على اسرائيل، وضغوطها انصبت على الطرف الفلسطيني ـ العربي. ومواقفها الاخيرة تؤكد الشك باليقين، فالوزيرة اولبرايت قفزت عن اقتراحها بشأن تجميد الاستيطان مؤقتا TIME OUTبعدما رفضه نتنياهو، ولم تكلف نفسها عناء وصول المنطقة وارسلت دينس روس لاثبات الحضور الامريكي. والمبادرة الامريكية التي طالما سمعنا عنها تحولت في جولة ” روس” الاخيرة الى اقتراحات وأفكار معروضة على الطرفين للنقاش وغير ملزمة لاحد. وهذه الافكار تتضمن قطع صغيرة جدا من الحقوق الفلسطينية الواردة في الاتفاقات تنفيذها غير مضمون، والانسحابات المحدودة والمجزئة المعروضة مربوط بشروط “نتتياهية” تعجيزية لا يمكن قبولها. ويسجل لروس انه نجح في تضييع مزيد من الوقت على ابواب أعياد العرب واليهود، وحقن الموقف الفلسطيني حقنة تخدير جديدة. وشجع نتنياهو على التمسك بمواقفه، ومن المشكوك فيه ان يتراجع عنها في وقت لم يعد أحد يتحدث عن سقوط حكومته، والحديث كله صار يتركز حول تضعضع اوضاع الرئيس كلينتون وحول قدرته على استكمال ولايته. لقد حدد نتنياهو موقف حكومته بوضوح من “الافكارالامريكية” حين قال “القضايا العالقة يجب حسمها بين الجانبين مباشرة ولا احدا يستطيع ان يفرض مواقف على اسرائيل في موضوع اعادة الانتشار وحجمه، فهذا يتعلق بامن اسرائيل ولا يمكن لاسرائيل ان تعتمد في امنها على احد”. وابتدع مؤخرا فكرة الانسحاب النوعي والانسحاب الكمي. واظن ان اقصى ما يريد تقديمه في هذه المرحلة هو تنفيذ انسحابات شكلية محدودة لا تغير من الوضع القائم على الارض ولا تؤثر على حركة الاستيطان، والموافقة على تشغيل المطار، وبناء المناطق الصناعية، واستكمال بناء ميناء غزة. شريطة ان يتخلى الفلسطينيون عن بقية حقوقهم في الاتفاقات وان يوافقوا على مشاريعه الاستيطانية وعلى الدخول في متاهات مفاوضات الحل النهائي. والتجربة اكدت ان تصلب نتنياهو المدعوم من الكونغرس ومن الرأسمال اليهودي الامريكي قابله دوما تراجع ادارة كلينتون ـ اولبرايت وليس العكس. ونتنياهو على ثقة بان انصاره في الولايات المتحدة قادرون على حمايته من ردود الفعل الامريكية السلبية، ومن توظيف الطاقات الامريكية في خدمته، وفي مواجهة المواقف العربية والروسية والاوروبية والصينية.
لا شك ان “حالة السلام المزيف” التي تعيشها المنطقة مربحة لنتنياهو على كل الصعد وفي كل المجالات، وهي افضل خياراته ويعمل على ادامتها حتى نهاية عهده. لكنها بالتأكيد ليست افضل الخيارات للشعب الفلسطيني وسلطته، ان لم تكن اسوءها، كما انها ليس الخيار الوحيد المتاح امامها وامام العرب. فحالة “السلام دون سلام” مقلقة ومربكة لكل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية بما في ذلك الحزب الحاكم، وموترة للعلاقات الفلسطينية الداخلية، ولا تساعد في تطوير العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. والاهم أنها لا تصون الارض، وتضعف علاقة السلطة بشعبها وتشل قدرتها على تعبئة طاقاته في الصراع، وتهدر الوقت. لقد جربت السلطة حتى الان تحسين مواقعها على الارض، وتحسين مواقفها الخارجية من خلال التجاوب مع رغبات الراعي الامريكي والاستمرار في المفاوضات والاتصالات الشكلية مع الجانب الاسرائيلي وعدم الاعلان عن تعليق او تجميد المفاوضات واللقاءات. وبينت التجربة ان هذا النهج ساعد ويساعد نتنياهو في تعزيز مواقعه الداخلية ومواقفه الخارجية، ولم يساعد السلطة الفلسطينية في انتزاع حقوق شعبها، او في تفعيل المواقف العربية والدولية. واذا كان الاعلان عن تجميد المفاوضات وتعليق الاتصالات يعتبره البعض تسرعا فلسطينيا في الرد على مواقف نتنياهو ويلحق بعض الاضرار بالعلاقات الفلسطينية الامريكية، فتجربة سبع سنوات من المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ومن العلاقات العربية الامريكية اكدت انه ما لم تكن هناك أزمة حقيقية على الارض الفلسطينية وفي العلاقات فلن تكون هناك مبادرات اوروبية او امريكية جدية. وان استمرارالخضوع العرب لرغبات الامريكان دون مقاومة لا يساهم في تطوير الموقف الامريكي ولا في تفعيله لصالح مبادئ العدل والسلام. ومن المفيد ان تتذكر السلطة بان تراجع نتنياهو عن مواقفه العنجهية التي اتخذها بعد فوزه في الانتخابات، وموافقته بعدها على اتفاق الخليل، لم تتم الا بعد “هبة النفق” وبعد حالة القطيعة والتوتر التي سيطرت في حينه على العلاقات. وتجربة آخرعامين من علاقات السلطة الفلسطينية بحكومة الليكود اكدت ان استمرار ظهورالفلسطينيين والعرب دون خيارات أخرى يلحق أضرار كبيرة وكثيرة بالمواقف التفاوضية وبالمصالح الوطنية والقومية. والواضح ان الوزيرة اولبرايت ومساعدوها لشؤون الشرق الاوسط مقنعين انفسهم بان الاوضاع في الضفة والقطاع وكل انحاء المنطقة يمكنها ان تستمرعلى المنوال الذي انتهى اليه العام الماضي، وان تبقى عليه طيلة العام الحالي وربما الذي يليه، وهذا الاعتقاد يساهم في تلكؤهم عن طرح مبادرة امريكية ملزمة للحكومة الاسرائيلية.
واذا كان خيار التازيم عبر صدام الحركة الشعبية على الارض مع قوات الاحتلال لا يتم بقرار سلطوي وشروطه غير متوفرة وقد يكون له مضاعفات سلبية، وذات الشيء ينطبق على المبادرة في تصادم الاجهزة العسكرية الفلسطينية مع الجيش الاسرائيلي، فخيار رفع مستوى التأزيم السياسي بتجميد كل شيء مع نتنياهو وربط عودة العلاقات وتجديد التنسيق بالتزامه بوقف الاستيطان وتنفيذ الالتزامات الواردة في اتفاق الخليل يمكن ان يتم بقرار ويمكن التحكم في سقفه ومداه. وفي كل الاحوال مثل هذا التوجه لن يضر ان لم ينفع، وفوائده مؤكدة في تحضير الاوضاع الشعبية للنهوض بخطوة قيام الدولة على الارض المزمع الاعلان عنها في ايار 1999. ومفيدة ايضا في تطوير مواقف الدول العربية والاسلامية تجاه تجميد تطبيع علاقاتها باسرائيل، وقد يعجل في عقد قمة عربية. وبجانب التازيم الرسمي اظن ان بامكان السلطة الفلسطينية وقوى المعارض العودة لتعبئة الجمهور الفلسطيني ببعض شعارات الانتفاضة منها مثلا العمل بالتدريج على وقف الشغل في المستوطنات، بالتوازي مع ايجاد حلول لمن تجبرهم لقمة العيش على العمل فيها. والبدء بمقاطعة منتوجاتها ووقف كل أشكال التجارة معها، فمن غير المعقول ان تطالب السلطة الفلسطينية دول السوق الاوروبية المشتركة عدم تقديم تسهيلات على استيراد منتوج المستوطنات وتبقى هي تستورده وتستهلكه، وان يبقى العمال الفلسطينيون يبنوها بايديهم فوق ارضهم وسلطتهم الوطنية تتفرج عليهم.
لقد اعلن الامريكان فشلهم في انقاذ عملية السلام، ومن المفيد ان يدرك الفلسطينيون سلطة ومعارضة بانه طالما بقيت مواقفهم على حالها فسيبقى العالم يعتقد بان الاوضاع في المنطقة والعلاقة مع اسرائيل ليست متفجرة كما يقولون، وبان حالة عملية السلام ليست بالسوء الذي عنه يتحدثون. فهل ستغير السلطة الفلسطينية تكتيكاتها، وستنهض المعارضة من سباتها العميق. ام سيتواصل المشهد الممل الذي نشاهده منذ أكثر من عام ..؟