هل الحركة الدولية الراهنة ستنقذ عملية السلام ؟

بقلم ممدوح نوفل في 20/03/1998

بعد انقشاع سحب أزمة العراق مع الادارة الامريكية، تركزت الاضواء الدولية من جديد على الأزمة التي تعيشها عملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وكثر الحديث في الاروقة الدولية عن ضرورة معالجتها بكل الوسائل. وتجدد الكلام عن مبادرة امريكية واخرى اوروبية، وثالثة امريكية ـ اوروبية مشتركة لانقاذها. وارتفع رهان المراقبين، وبعض اركان السلطة الفلسطينية من جديد حول امكانية تبلور موقف دولي ضاغط على اسرائيل يفرض تنفيذ الاتفاقات التي وقعتها، ويعيد عملية السلام على مسارها الفلسطيني الى مجراها الصحيح. وخلال الفترة واستذكرت القوى الدولية حالة عملية السلام المزرية على المسارين السوري واللبناني، شبه المنسيين منذ استلم الليكود السلطة في اسرائيل. فهل تهيأت الاوضاع الدولية لاعطاء هيئة الامم المتحدة دورا في معالجة الصراع العربي الاسرائيلي على غرار ما حصل مؤخرا في الازمة العراقية ؟ وهل نضجت مواقف القوى الدولية المقررة لفرض حلول على اطراف الصراع في المنطقة..أم ان ما يجري من تحركات هبة حماس مؤقتة قاصرة عن انقاذ عملية السلام، سيحولها نتنياهو الى ما يشبه “طبخة بحص” لا تسمن ولا تغني عن جوع..؟

لا شك في ان نجاح الامين العام للامم المتحدة “كوفي انان”، المسنود بموقف فرنسي روسي صيني، في تجميد التوجهات “الحربية” الامريكية ـ البريطانية ضد العراق، ونجاح مجلس الامن في معالجة ازمة التفتيش عن الاسلحة سلميا، انعشت آمال البعض حول امكانية تطبيق ما حصل مع العراق على جبهة المفاوضات العربية الاسرائيلية، وفسحت المجال لآخرين لاحلال امنياتهم ورغباتهم الذاتية محل الحقائق الصعبة. وظنوا ان تضعضع المكانة الدولية للادارة الامريكية، انهت قدرتها على الاستمرار في التفرد بتقرير السياسة الدولية، وهيأت الفرصة الملائمة لتحرك الامم المتحدة وتدخل الدول الكبرى الاخرى لانقاذ عملية السلام والحد من الغطرسة الاسرائيلية. الا ان التدقيق في التطور المحدود لعلاقة الادارة الامريكية ومعها بريطانيا بالامم المتحدة وبقية الدول دائمة العضوية في مجلس الامن، يفرض حذرا في التقييم، ودقة أكبر عند استخلاص الدروس والعبر، خاصة عندما يتعلق الامر باسرائيل.

وبصرف النظر عن دقة المعلومات الفلسطينية القائلة بان الحركة الاوروبية الاخيرة بقيادة بريطانيا منسقة تماما مع الادارة الامريكية، وانه تم الاتفاق على مضمونها واهدافها في الخلوة التي عقدها الرئيس كلينتون مع رئيس الوزراء البريطاني “طوني بلير” ابان زيارة الاخير للولايات المتحدة الامريكية، فالواضح ان جولتي وزير الخارجية البريطاني “روبن كوك” وسكرتير المنظمة الدولية “كوفي أنان” مدعومتين أمريكيا بصورة واخرى. فدول السوق الاوروبية المشتركة لم ترسل موفدها للمنطقة من خلف ظهر الامريكان، فهي تدرك ان الضعف والارتباك الذي اصاب الموقف الامريكي مؤخرا لم يرق الى مستوى وقوع تبدل في “النظام الدولي الجديد”. وتعي ان العلاقات الدولية لم تصل لمستوى فرض شراكتها للامريكان في تقرير التوجهات الدولية، او فرض نظام دولي آخرجديد. ورضيت بريطانيا ومعها شركائها الاوروبيين، بان يستخدموا من قبل الامريكان كفزاعة في وجه القيادة الاسرائيلية. وقبلوا بان يقوموا بمهمة قوة استطلاع مساعدة في جس نبض الحكومة الاسرائيلية والتعرف على الحدود الدنيا لموقفها من الاسس والعناصر الضرورية لتحريك المسارين السوري واللبناني، وسبل اعادة المسار الفلسطيني لمجراه الطبيعي. وما حمله كل من “كوك” و”أنان” في جعبته كان معروفا سلفا للادارة الامريكية. واطرحاتهما حول اخراج المفاوضات من مأزقها، ومعالجة الاوضاع المتدهورة جنوب لبنان، لا تتعارض مع التوجهات الامريكية.

اما نتائج هذه التحركات على مجرى عملية السلام ذاتها، فمهمة كوفي أنان ينطبق عليها مقولة “رحم الله امرىء عرف حده فوقف عنده”، ولم تتعدى تذكير أهل المنطقة بوجود هيئة الامم المتحدة الحاضر الغائب في هذه المرحلة. وقطع السيد “أنان” الشك باليقين وقال بانه يزور المنطقة وليس في جعبته مبادرات او مقترحات خاصة. وانه يدعم رعاية امريكا لعملية السلام وانه من غير المناسب للامم المتحدة التحرك في الوقت الذي تقوم فيه الادارة الامريكية بدورها. وتركزت زيارته على استطلاع المواقف من اقتراح اسرائيل بالانسحاب من الجنوب، وحول دور الامم المتحدة المحتمل في حال الموافقة علية. او في حال انبعاث اوضاع ميدانية جديدة وظروف اقليمية ومحلية تجعله قابل للتطبيق على الارض. واذا كانت زيارة “أنان” ولقاءاته برئيس السلطة الفلسطينية وبقية زعماء المنطقة مفيدة ضمن حدود التضامن مع الشعب الفلسطيني، وانعاش دور الامم المتحدة تجاه القضايا العربية، فمن الخطأ التعويل فلسطينيا وعربيا على نتائجها على اي من المسارات. فما صح مع العراق لا يصلح مع اسرائيل. وظروف وشروط نجاح أنان على جبهة العراق غير متوفرة للآن على جبهة الصراع العربي الاسرائيلي. والخلافات الاسرائيلية الداخلية حول سبل معالجة موقف جيش الدفاع الاسرائيلي في جنوب لبنان، بينت بان عرض نتنياهو ـ مردخاي للانسحاب من هناك مربوط بشروط لا علاقة لها بصنع السلام في المنطقة ولا بتحريك المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، ولا يمكن للبنان الموافقة عليها وتلبيتها. وهي أقرب لمناورة يمكن ادراجها تحت بند تقديم مواضيع مفيدة لتحريك العلاقات الاسرائيلية العامة، ولتضليل الرأي العام العالمي حول الموقف الاسرائيلي من صنع السلام في المنطقة، واشغاله عن عملية القتل المتعمد التي ارتكبها نتنياهو لعملية السلام على مسارها الفلسطيني، وتهدئة خواطر الجمهور الاسرائيلي الداعي لانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب اللبناني بعد الخسائر غير القليلة التي الحقتها المقاومة الاسلامية اللبنانية بافراد ومعدات الجيش الاسرائيلي.

والحديث بالعام عن الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان سوف يتواصل طالما بقيت المفاوضات على المسار الفلسطيني متعثرة، وسترتفع وتيرته بمقدار نجاح المقاومة اللبنانية في الحاق مزيد من الخسائر بالجيش الاسرائيلي. اما تحديد مضامينه فلن يتم قبل وقوع تطورات كبيرة على الارض. وتدرك القوى الدولية المعنية بصنع السلام في المنطقة ان لا افق في عهد الليكود لتجدد المفاوضات على هذين المسارين وتحبذ تركيز جهودها على احياء المسار الفلسطيني وتزويده ببعض روح الحياة على امل منعه من الانهيار. اما اللبنانيون والسوريون فيدركون جيدا ان لا افق لاي اتفاقات مع حكومة الليكود اذا تجددت المفاوضات على مساريهما، ولا افق لتنفيذ اية اتفاقات يتم التوصل لها معهم. وتجربة اتفاقات الفلسطينيين مع نتنياهو نموذج حي امامهم. وحرص نتنياهو اظهار اهتمامه بالمسارين السوري واللبناني وبالانسحاب من جنوب لبنان فيه محاولة ابتزاز تنازلات اضافية من القيادة الفلسطينية، وتتضمن بداية تمهيد لاعمال حربية اسرائيلية قد تتم لاحقا لوضع مقولة الليكود “لبنان اولا” على نار حامية، ويبدو ان نتنياهو واركان الليكود بدأوا بالتفكير جديا في تفجير الوضع في الجنوب اللبناني فشل محاولات تفجير الوضع عسكريا مع العراق.

اما الحركة الاوروبية ممثلة بزيارة “روبين كوك” للمنطقة، وما رافقها من ضجة سياسة واعلامية كبيرة بمعظمها مفتعلة، رغب الطرفان تضخيمها كل لاعتباراته الخاصة. فقد جاء كوك للمنطقة مباشرة بعد زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الى لندن. وقبل وصوله لاي من دولها حضر احتفالات، والقى خطابات، واطلق تصريحات لم يلمس العرب والفلسطينيون جديدا فيها. ولم يظهر نتنياهو في حينه انزعاجا كبيرا منها. ولم تنتظر حكومته وصول “روبين كوك” لتعلن رفضها لاية مبادرة اوروبية في شأن عملية السلام، فسبقه سكرتيرها داني نافيه وحدد موقفها من التحرك الاوروبي، وكان في منتهى الصراحة والوقاحة عندما حدد لاوروبا دورها وقال ” الدور الاوروبي يجب ان يقتصر على المساعدة في تحقيق التنمية في المنطقة فقط”. وبعد وصول كوك للمنطقة لم يقرأ الفلسطينيون المبادرة البريطانية او الاوروبية التي سمعوا عنها كثيرا وطال انتظارهم لها. وكل ما سمعوه كان حديثا عاما مكررا حول مبدأ الارض مقابل السلام، وعن السلام مع العدل للفلسطينيين مقابل السلام مع الامن للاسرائيليين، وعن ضرورة وضع تدابير واجراءات فورية ضرورية لبناء الثقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وضرورة وقف الاستيطان، ومطالبة الطرفين تجديد التزامهما بتنفيذ الاتفاقات. وشاهد الفلسطينيون على صفحات الصحف وشاشات التلفزة تصرفات جريئة لزعيم الدبلوماسية البريطانية. لكنهم شاهدوا ايضا تحد اسرائيلي، ورد فوري مكشوف، وخرق فج للاعراف والتقاليد الدبلوماسية، وتطاول على وزير بريطاني جاء ممثلا للامم الاوروبية، تربط دولته صداقة حميمة باسرائيل، وساهمت في انشائها وفي امدادها بكل سبل الحياه منذ قيامها وحتى الآن. وتطاول نتياهو على “كوك” لم تكن هفوة غير متعمدة بل كان عملا مدروسا مفتعلا. قصد به فقد اثارة مسائل دبلوماسية ثانوية لتحويل انظار العالم عن المسائل الجوهرية، وسعى من خلاله توتير العلاقة مع بريطانيا مؤقتا، وتخريب زيارة رئيس الوزراء البريطاني “طوني بلير” المرتقبة، وقطع الطريق امام اية مبادرة يفكر الاوروبيون طرحها لاحقا، ورسالة للادارة الامريكية تبين طبيعة المواجهة مع اسرائيل اذا طرحت مبادرتها.

لا شك في ان زيارة “روبين كوك” للمنطقة، وصعوده “الجبل” واستفزاز نتنياهو، واطلاقه تصريحات قوية حول عملية السلام والاستيطان وتنفيذ الاتفاقات..الخ مفيدة للعرب ولعملية السلام، لكنها كانت ايضا مفيدة لبريطانيا، حيث كانت حكومة حزب العمال بحاجة لها لاستعادة ثقة العرب والفلسطينيين بدورها بعد موقفها المتسرع ابان الأزمة العراقية. واذا كان الحماس البريطاني المفاجيء نحو انقاذ عملية السلام ليس خالصا لوجه الله والعرب ومصلحة صنع السلام في المنطقة، وفيه بعض التغطية على الموقف ابان ازمة العراق فموقف الادارة الامريكية من الحركة البريطانية ومن زيارة روبين كوك للمنطقة فيه هو الآخر تعويض لجكومة طوني بلير عن الاذى الذي لحق بها خلال الازمة مع العراق، ومكافئة لها على الدعم غير المشروط الذي قدمته للموقف الامريكي. واذا كانت الايام القليلة القادمة كفيلة بالكشف عن ردود الفعل البريطانية والاوروبية دفاعا عن كرامتها ومصالحها في المنطقة، فما اخشاه هو ان يمر الزمن دون ان يحصل الفلسطينيون من الاوروبيين ومن زيارة “روبين كوك” وما رافقها من مشكلات على اي شيء جديد مفيد لقضيتهم، ودون ان تحصل عملية السلام من اوروبا على الحدود الدنيا من الحماية لمنع اعدائها من قتلها. وان تكون النتيجة النهائية لهذه الضجة: اتهام الاعلام الدولي “روبين كوك” بالتطرف وبمساندة الارهاب، وحتى بالعنصرية ومعاداة السامية..الخ فمثل هذه التهم جاهزة عند الحركة الصهيونية للاستخدام ضد كل من لا يوافق اسرائيل على مخططاتها العدوانية التوسعية. وان يليه اعتذار بريطاني اوروبي يقدم لنتنياهو مقرونا بباقة ضغوط اوروبية على الفلسطينيين للقبول بتشغيل المطار والشروع في بناء الميناء والمنطقة الصناعية وفقا للشروط الاسرائيلية، والسكوت عن حقوقهم الاخرى وبخاصة الانسحابات التي نصت عليها الاتفاقات .

صحيح ان الفلسطينيين لم يتوقعوا من “روبين كوك” وعدا بريطانيا بحجم وعد بلفور الذي قدم للصهيونية عام 1917 لكنهم تأملوا “وعد كوك” بالعمل على توفير حماية دولية تحافظ على وجودهم فوق أرضهم، وتمنع المستوطنون من سرقة ما تبقى منها.. لكنهم مع الاسف الشديد لم يسمعوا شيئا من هذا القبيل.