ابوجهاد واصل العمل ليل نهار لخدمة الانتفاضة وادامتها

بقلم ممدوح نوفل في 16/04/1998

الحلقة 2

بعد أقل من ثلاث شهور من انطلاقة الانتفاضة تحرك “شولتس” وزير الخارجية الأمريكي اواخر شباط 1988 الى المنطقة لاستطلاع الأوضاع فيها، ولإستكشاف نوعية الخطوات الدبلوماسية الممكنة. فمجريات الاحداث في شوارع الضفة والقطاع بينت له بأن الاجراءات العسكرية الاسرائيلية الروتينية والاستثنائية غير قادرة على إخماد نيران الانتفاضة بل انها في هذه المرة تغذيها وتقويها أكثر فأكثر. وفي حينه تأكدت الادارة الامريكية من أن الانتفاضة قادرة على التواصل والمحافظة على زخمها القوي فترة اطول بكثير مما يقدره الاسرائيليون. وخشيت من ان يقود تواصلها الى زعزعة الاستقرار الهش في اكثر من موقع حساس في المنطقة، واشتعال النيران المعادية لها. لاسيما وان درجة الحرارة بدات ترتفع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج وفي شوارع وجامعات اكثر من عاصمة عربية. وشهدت المدن العربية انواع متنوعة من التضامن الشعبي والرسمي العربي مع الانتفاضة واهدافها.

ومع تجديد تحركاتها بإتجاه حل قضايا المنطقة، بدأت الادارة الأمريكية بالحديث علنا بصيغة مبهمة عن الحقوق السياسية للفلسطينيين، بعدما ظلت سنين طويلة ترفض إستخدام هذا التعبير، وترفض استخدام مصطلح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وقبل وصوله للمنطقة طرح وزير الخارجية الامريكية شولتس مبادرة سياسية أكد فيها ضرورة الشروع في تسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. في حينه رفضت القيادة الفلسطينية اقتراح شولتس ومارست ضغوطا قوية على شخصيات الداخل ومنعتهم من اللقاء به. حيث رأت في الاقتراح الامريكي خدعة كبرى هدفها انتزاع موافقة القيادة الفلسطينية على شطب نفسها بنفسها لصالح قيادة بديلة، فلسطينية اردنية، تشكلها الادارة الامريكية. وشطب خيار الدولة المستقلة لصالح كيان هزيل تابع لاسرائيل او حل فدرالي مع الاردن او كونفدرالي في أحسن الاحوال.

بعد فشل جولة شولتس في المنطقة انتعشت القيادة الفلسطينية وبخاصة بعد افشالها لقائه بالشخصيات الفلسطينية داخل الوطن المحتل، وتكريس نفسها عربيا ودوليا كعنوان للانتفاضة. واعتبر بعض اعضائها بان ما يجري على الارض هو انقاذ من الله للقضية الفلسطينية، ومنظمة التحرير وقيادتها الرسمية. وبان المعركة حول لقاء شولتس بشخصيات الداخل حسمت مسالة علاقة المنظمة بالانتفاضة في ذهن الادارة الامريكية وبقية حكومات ودول العالم. وتصور بعض اركان القيادة الفلسطينية بان يوم اعلان الاستقلال الفلسطيني بات قريب، وان قيام الدولة الفلسطينية على جزء من ارض فلسطين اصبح حقيقة ويوم قيامها ليس ببعيد. وبالغ بعضهم بقدرات الانتفاضة ونتائجها، بلغ حد رفض البعض “منهم ابواللطف” بان تكون حدود الدولة الفلسطينية المنشودة محصورة في الاراضي التي احتلت عام 1967، وطالبوا بتنبني القيادة الفلسطينية موقفا رسميا خلاصته المطالبة بتنفيذ قرار التقسيم الصادرعن مجلس الامن الدولي عام 1947″. ونبش بعض قادة المنظمة والفصائل حقدهم الدفين على الانظمة العربية التي تآمرت على الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير، وراحوا يتوعدون معتقدين ان يوم تصفية الحساب بات قريب. ولم يخلو الامر من خوف مبطن عند البعض من دور حركة حماس وتيار الاسلام السياسي في المستقبل، وكذلك من الدور المستقبلي الذي يمكن ان تقوم به قيادة الانتفاضة وانعكاس ذلك على دورها القيادي في اطار التنظيم الذي ينتمي اليه اعضائها وفي اطر منظمة التحرير الفلسطينية. كما لم يخلو الامر عند آخرون ايضا من تفاقم الشعور بالذنب تجاه التقصير فترة طويلة مع اهل الداخل. وفي تلك الفترة صعدت قيادة م ت ف من حملتها الاعلامية، ووسعت حركتها السياسية، لتوفير الدعم والاسناد للحركة الشعبية وفضح ممارسات الاحتلال. وطيرت رسائل كثيرة للقادة العرب ودعتهم الى عقد قمة عربية عاجلة، كما دعت رؤساء الدول الاسلامية وزعماء القمة الاسلامية والافريقية التحرك لانقاذ الشعب الفلسطيني. وطالبت مجلس الامن والجمعية العامة للامم المتحدة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. وشكلت لجنة عليا لقيادة الانتفاضة مركزها تونس ضمت عددا من اعضاء اللجنة التنفيذية ومن قادة الفصائل مسؤولي المناطق المحتلة، انبثقت عنها لجنة عمل يومي مصغرة مركزها عمان واخرى مركزها القاهرة تبقى كلها في حالة استنفار وتجتمع يوميا على مدار الساعة. في حينه وافقت قيادة حركة حماس على المشاركة في لجنة الانتفاضة، الا انها سرعان ما انسحبت منها وتبرأت من الشيخ الحوراني الذي مثلها. وشكل كل فصيل لجنته الخاصة لمتابعة التطورات بجانب اللجنة الوطنية العليا للانتفاضة، ووجدت بعض الفصائل في اللجنة العليا للانتفاضة، وضمنها الجبهة الديمقراطية التي كنت امثلها، مدخلا وطنيا لتغطية نفقاتها المترتبة على مشاركتها في فعاليات الانتفاضة، والابقاء على احتياطها المالي كما هو. وراح ابوجهاد يواصل العمل ليل نهار لخدمة الانتفاضة وادامتها، وجعلها همه الاول والأخير. كثف اتصالاته بكوادر فتح وبكل الشخصيات الوطنية في الداخل وحثها على مواصلة الانتفاضة، لم تنقطع مكالماته مع كل من امكنه الاتصال به. ولم تتوقف كتاباته لكل من استطاع ان يوصله رسالة، وقدم مقترحات متنوعة لتحركات جماهيرية فعالة. طار الى عمان والقاهرة مرات عديدة وحصل على موافقة السلطات الاردنية والمصرية على فتح مكاتب خاصة بخدمة الانتفاضة، وزرع فيها كوادر نشيطة تحظى بسمعة طيبة مهمتهتا الوحيدة الاحتكاك بكل قادم من الوطن وتشغلية في خدمة الانتفاضة حسب طاقته وقدراته ومدى استعداده. ولم تتلكأ عناصر “القطاع الغربي” في حركة فتح عن القيام بكل الواجبات التي حددها لها ابو جهاد. ناموا على المعابر المؤدية الى فلسطين من الحدود الاردنية والمصرية، رابطوا في محطات الباصات وسيارات الاجرة واستقبلوا كل قادم ولم يتوانوا عن القيام بكل عمل يجذب القادمين من الداخل اليهم..الخ. اتصل ابو جهاد بالتجار وشجعهم على تقديم الممكن من المواد التموينية للمحتاجين في المخيمات واحياء المدن الفقيرة، وتعهد لهم دفع ثمنها لاحقا. وطلب من المستشفيات تقديم خدماتها الطبية للمحتاجين وبخاصة جرحى ومصابو الانتفاضة وتعهد لهم بتسديد التكاليف كاملة. ارسل بطرق متنوعة مبالغ كبيرة لكل الاطر الشعبية وتحايل على الاجراءات الاسرائيلية ولم يتوانى عن تشغيل تجار العملة من اليهود، شغّل تنظيم فتح واصدقائها وانصارها في الخارج في خدمة الانتفاضة وسد احتياجاتها. وزرع عيونا له في كل مناطق الضفة والقطاع مهمتها الوحيدة رصد كل صغيرة وكبيرة تجري على ارض الوطن ونقلها له. في حينه كان ابوجهاد يقوم بكل هذه الاعمال بترتيب مسبق مع ابوعمار ويطلعه يوميا على كل عمل قام به. وكان ابوعمار يدعم ويساند كل توجهات وتحركات ابوجهاد دعما ومساندة كاملتين، وكانت له ايضا ادواته المباشرة وطرقه ووسائله الخاصة للصلة مع كل الهيئات الفتحاوية والوطنية في الداخل. وكان ابوجهاد يقول “الحياة مدرسة واسعة علومها كثيرة، وشعبنا افضل معلم، وعلينا التعلم من الصغير قبل الكبير”. استشار كل من يمكنه ان يفيد، ولم يخفي اساليب عمله لخدمة الانتفاضة عن المعنيين بالعمل في المناطق المحتلة من الفصائل الاخرى وتعاون معهم دون تحفظ، فتعاونوا معه وتعلم بعضهم من اساليب عمله واستفادوا من طاقات وامكانات م ت ف ووظفوها في خدمة جمهور الانتفاضة المحيط باطرهم ومؤسساتهم الجماهيرية، وادخروا معطم ما لديهم من امكانات للايام العصيبة وكان هناك شيء أهم من الانتفاضة واولى منها بالانفاق.

ومع تواصل الانتفاضة أخذ ابوجهاد يتحدث بتفائلة الزائد عن تجربة حرب التحرير الجزائرية وكيف رحل ربع مليون فرنسي من الجزائر خلال شهور قليلة. في حينه تنبهت أجهزت الاستخبارات الاسرائيلية لما يقوله ويفعله ابوجهاد. دققت في اعماله اليومية، تنصت على اتصالاته التليفونية، حققت مع من وقع من رسله في قبضتهم، راجعت ملفاتها عنه، فادركت مدى الخطورة التي يمكن ان يمثلها في ظروف كالتي تمر بها المناطق، واعتبرته أخطر رجل فلسطيني على استمرار احتلالها للاراضي الفلسطينية، وقررت على اعلى المستويات الخلاص منه واغتياله مهما كان الثمن، ومهما كانت ردود الفعل الفلسطينية والدولية. وظنت انها باغتيالها ستجهظ الروح المعنوية للانتفاضة. وراحت تجمع المعلومات عن تحركاته، ورسى قرارها على تنفيذ المهمة على أرض تونس حيث تعيش اسرة ابوجهاد، وحيث يتواجد بصورة شبه متواصلة. في حينه لم يكن فكر الاحتلال باغتيال قادة فلسطينيين بعيدا عن ذهن ابوجهاد. بل كان يتوقع وقوع اغتيالات في كل لحظة. قبل اغتياله باقل من 48 ساعة اتصل كعادته مع القيادة العسكرية لقوات الثورة الفلسطينية في لبنان للاطلاع على آخر مستجدات الوضع في الوضع في المخيمات وعلى جبهات القتال مع حركة أمل وبخاصة على محور “مغدوشة”. تحدثت معه وتحدث اخوان آخرون وكان ضمنهم الممثل الشخصي للقائد العام. تحدث عن الانتفاضة وعن الوحدة الوطنية الرائعة داخل الوطن المحتل. كما تحدث عن دور التآمر العربي على المنظمة والحروب على المخيمات في تفجير حقد الاهل في الضفة والقطاع ضد الاحتلال. قال من ضمن اشياء اخرى “رجاء الانتباه يا اخوان، هناك قرار اسرائيلي باغتيال من تطاله اجهزتهم من القيادات والكوادر الفلسطينية الاساسية بهدف التأثير على الوضع المعنوي لاهلنا داخل الارض المحتلة. كلنا اهداف وكل ساحات تواجدنا ميادان مفتوحة امامه، خذوا حذركم ولا تهملوا وتعاملوا مع الموضوع بمنتهى الجدية، علينا اليقظة والبقاء احياء حتى نشهد يوم النصر. انا لا اقول هذا الكلام لرفع المعنويات، الانتفاضة يا اخوان بدات تضعضع الكيان الصهيوني واخوانكم مصممون على مواصلة الانتفاضة حتى طرد الاحتلال وهزيمة الاحتلال في الضفة والقطاع يعني هزيمته في كل فلسطين. اسرائيل ليست اقوى من فرنسا، والمستعمرون الفرنسيون رحلوا من الجزائر وتركوا كل شيء بنوه وكانت تعتبرها قطعة غالية من فرنسا، اليهود لن يتمسكوا بالضفة الغربية كما تمسك الفرنسيون بالجزائر” وختم حديثه بالقول ” انتبهوا وابلغوا اهلنا في المخيمات بان يوم النصر قريب، وعودتهم باتت قريبة واقرب مما يتوقعون، وبان منازلهم جاهزة فسنعيطهم احلى بيوت المستوطنات”. بعد تلك المكالمة كان تعليق جميع الحاضرين، الاخ ابوجهاد بانه منتشي بالانتفاضة ومتفائل كعادته ويعمل على رفع المعنويات. ولم يتوقف اي منا عند تحذيره لنا من الاغتيالات الاسرائيلية، فلم يأخذها اي منا على محمل الجد. فقوات الثورة في لبنان مدججة بالسلاح، وقياداتها المركزية والمحلية لم تبخل على انفاق ما يلزم لتأمين سلامتها. وتعيش في المخيمات او على اطرافها وسط غابة المقاتلين ومن عناصر المليشيا، ولديها بيوت سرية تلجأ اليها عندما تشتد الازمات وبخاصة مع السوريين.