اقطاب الحرب الباردة وادانتهم أمام محكمة التاريخ الحلقة 4
بقلم ممدوح نوفل في 30/04/1998
لم يتوقف تنافس اقطاب الحرب الباردة دوليا واقليميا عند حدود تعطيل الحلول للصراع العربي الاسرائيلي على مدى ثلاثة عقود كاملة، وتفجير خلالها اربعة حروب كبيرة (1956 1967،1973،1982) بل وايضا فجروا بضعة معارك عربية ـ عربية، واسرائيلية ـ عربية اضافية صغيرة، منها تفجير الحرب الاهلية في لبنان عام 1974 واغراق المنظمة والعرب فيها وتجددها عام 1982 ـ 1983، ومعارك المدفعية في جنوب لبنان في تموز 1981التي مهدت الطريق وسهلت على بيغن اتخاذ قرار بحرب 1982، ونسف مقر القوات المتعددة الجنسيات في بيروت عام 1983، وانشقاق فتح وم ت ف عام 1983 ـ 1984، ومسار الحرب على المخيمات 1984ـ1987..الخ بامكانه توجيه اصابع الاتهام المباشر لاقطاب الحرب الباردة في الوقوف خلف بعضها وتفجير بعضها الآخر بصورة مباشرة، ولن يكون متعذرا عليه اثبات ذلك.
لا شك في ان تبني الادارات الأمريكية المتعاقبة لاسرائيل كدولة قامت على اغتصاب الارض الفلسطينية، ودعمها اللامحدود لها ماديا ومعنويا، وتأييدها لكل السياسات الاسرائيلية العدوانية، ودفاعها عن الباطل الاسرائيلي في مواجهة الحق الفلسطيني، كان سببا اساسيا مباشرا في توليد قناعة عند جيلين من الفلسطينيين والعرب بأن أمريكا هي العدو رقم واحد للشعب الفلسطيني، وهي القوة المتجبرة المانعة عنه حقه في العيش فوق ارضه بأمان وسلام في إطار دوله مستقلة مثله مثل بقية شعوب الارض. لقد حاولت منظمة التحرير اكثر من مرة الخروج من خندق المعسكر الذي الذي وضعت نفسها فيه، الا ان أمريكا زعيمة المعسكر الآخر رفضت التجاوب مع تلك المحاولات. ونجحت اسرائيل أكثر من مرة في تخريب بعض المحاولات. وبالرغم من بروز م ت ف في النصف الاول من عقد السبعينات كممثل للشعب الفلسطيني وتسليم معظم دول العالم بهذه الحقيقة، واعتراف العرب واقرارهم في قمة الرباط عام 74 بها رسميا، الا ان الادارة الامريكية لم تحاول احداث أي تغييرعلى موقفها من مسألة التمثيل الفلسطيني، وحافظت على ذات الموقف. ولم تكتفي برفض التعامل مع المنظمة بل اعتبرت قرار قمة الرباط خطئ استراتيجي ارتكبه العرب، وواصلت التصرف حيال المسألة الفلسطيني باعتبارها قضية عربية اسرائيلية.
وفي العام 75 فرض وزير الخارجية الامريكي “هنري كيسنجر” حظرا أمريكيا رسميا على الاتصالات المحدودة وغير الرسمية، التي كان يقوم بها بعض الدبلوماسيين الأمريكيين مع بعض رجالات م.ت.ف. في حينه فرض الحظر استجابة لطلب قدمته الحكومة الاسرائيلية خلال المفاوضات المصرية ـ الاسرائيلية، بشان اتفاقتي سيناء الأولى والثانية. وقبل ذلك التاريخ لم تكن العلاقات ولا الاتصالات بين الطرفين مرسمة، كما لم تكن ممنوعة رسمياً. ولم يسجل قبل عام 75 أية علاقات أو اتصالات رسمية أو ذات شأن، سوى الاتصالات التي تمت قبيل زيارة رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمةالتحريرالفلسطينية لنيويورك عام 1974 لحضور اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة، وأيضاً تلك التي تمت على هامش اجتماعات الأمم المتحدة خلال ذات الزيارة. ورغم قرار الحظر الرسمي فقد قدمت المنظمة للولايات المتحدة خدمات أمنية هامة في العديد من المناسبات لا تستطيع انكارها. لكن تلك الخدمات لم تترك أية آثارعملية على صعيد تحسين العلاقات أو ترسيمها. فخلال الحرب الأهلية في لبنان (75-76) تعرضت السفارة الامريكية في بيروت لبعض الهجمات العسكرية، وتم خطف السفير من قبل جماعات مسلحة، قامت على اثرها م.ت.ف بتأمين الحماية للسفارة الأمريكية. واستمرت الاتصالات الاستخبارية الى ما بعد العثورعلى جثة السفير في شهر حزيران 76. وفي حينه كان للتعاون الاستخباري الفلسطيني-الأمريكي دورا مهماً في كشف هوية الفاعلين. اما النتيجة العملية الوحيدة فكانت إعراب الولايات المتحدة، بهدوء وبسرية تامة عن شكرها وامتنانها للمنظمة على ذلك التعاون وتلك المساعدة، دون أن يترك ذلك الشكر أية آثار عملية على العلاقة بين الطرفين. لاحقا رصدت بعض الاتصالات غير الرسمية بين المنظمة والادارة الأمريكية في إطار الأمم المتحدة. فقد اجتمع “اندرويونغ” مندوب أمريكا في الأمم المتحدة في آب 79 مع زهدي الطرزي ممثل فلسطين في الأمم المتحدة في منزل عبد الله بشارة ممثل الكويت في الأمم المتحدة، لبحث الوضع في المنطقة وكلفه ذلك الاجتماع ثمناً باهظاً، حيث اضطر يونغ التخلي عن منصبه وتقديم استقالته.
وخلال حصار بيروت عام 82 تمت اتصالات فلسطينية امريكية تمهيداً للاتفاق على وقف إطلاق النار، ووضع الترتيبات الخاصة بشأن خروج المنظمة وقواتها من بيروت. وخلال ذات الفترة وقعت اتصالات ومفاوضات رسمية امريكية فلسطينية عبر طرف لبناني ثالث، عرفت في حينها باسم “المفاوضات مع المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط فيليب حبيب”، أسفرت عن توقيع اتفاقية فلسطينية-أمريكية، تضمنت تفاصيل خطة الخروج البري والبحري الفلسطيني من بيروت، وخطة حماية هذا الخروج. وتعهدت الادارة الامريكية بموجبه حماية الوجود المدني الفلسطيني في المخيمات. وعلى هامش ذلك الاتفاق، تعهد “فيليب حبيب” عبر رئيس الحكومة اللبنانية السيد شفيق الوزان، بأن تقوم الادارة الأمريكية بتحريك عجلة التسوية لأزمة المنطقة ودفعها خطوات للأمام، وباتجاه يساعد الفلسطينيين على تأمين حقوقهم المشروعة. وبموجب ذلك الاتفاق توقفت الحرب ودخلت القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات الى بيروت، وانسحبت المنظمة وقواتها والقوات السورية الى خارج بيروت. ولاحقا نكثت الادارة الأمريكية وعودها التي قطعتها فيليب حبيب. وترك عدم التزام الادارة الأمريكية بتعهداتها التي وردت في اتفاقية فيليب حبيب آثاراً سلبية إضافية على العلاقات الأمريكية الفلسطينية وعلى الاتصالات التي تمت لاحقاً. فقد تعمق الشك في العقل الفلسطيني بكل التزام تقدمه الادارة الأمريكية للفلسطينيين، وصار ذاك الاتفاق مثلاً سيئاً ونموذجا سلبياً، كثيرا ما استشهدت به القيادة الفلسطينية، وبخاصة خلال الاتصالات غير المباشرة التي تمت مع وزير الخارجية شولتس عام 88 وفي المباحثات التي تمت في عهد الرئيس بوش عام 1989 ومع الوزير بيكر بعد حرب الخليج عام1990. ويمكن وصف فترة حكم الرئيس ريغان بأنها كانت من أسوء الفترات في تاريخ العلاقات الفلسطينية-الأمريكية. فخلالها شنت الادارة أوسع حملة عدائية ضد المنظمة باعتبارها منظمة ارهابية، وتواطىء وزير الخارجية هيغ مع القيادة الاسرائيلية في التحضير والتخطيط لحرب 82 . وخلالها أغلق مكتب المنظمة في واشنطن ومنع رئيس اللجنة التنفيذية من دخول نيويورك لمخاطبة الأمم المتحدة. وخلال تلك الفترة عام1982 أصدرت الادارة الأمريكية قرارا بإغلاق مكتب لمنظمة التحرير في نيويورك، الا أن المحكمة اعتبرت عملية الاغلاق غير قانونية الأمر الذي أدى الى التراجع عن القرار. ولا ادري اذا كان تغيب الرئيس ريغان عن حضور حفل التوقيع على الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الذي تم في البيت الابيض يوم 13/9/93 كان استمرارا لذات الموقف ام لسبب آخر. ولعل الحسنة الوحيدة التي تمت أواخر عهد ريغان تجاه الفلسطينيين هي قرار الادارة الامريكية بعد اندلاع الانتفاضة، بفتح الحوار المباشر مع م ت ف.
وفي سياق الحديث عن دور قطبي الحرب الباردة ـ السوفييت والامريكان ـ ازاء الفلسطينيين والاسرائيليين تجدر الاشارة ايضا إلى أنهما لم يتورعا عن توظيف واستخدام امكانات الطرفين في صراعاتهما خارج حدود المنطقة، وفي مسائل لاعلاقة لها بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ويمكن القول ان الاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو تفوقوا على الأمريكان وحلفائهم في الحلف الأطلسي في مجال التأثيرعلى المواقف الفلسطينية. ومنذ النصف الثاني من عقد الخمسينات وحتى حرب حزيران 1967 تبنى الاتحاد السوفيتي موقفا مبدئيا داعما للحقوق العربية، وتبنى مواقف العرب في الامم المتحدة وقدم مساعدات مادية ومعنوية لعدد منها وكان ابرزها بناء السد العالي، ومساندة مصر عبد الناصر ابان حرب السويس. وبعد هزيمة العرب في عام 67 طور السوفيت مواقفهم السياسية والعملية المساندة للعرب في استرداد حقوقهم المغتصبة عام 1948 وعام 1967 وبلغت درجة قطع علاقته الدبلوماسية مع اسرائيل ومشاركة القوات المصرية الدفاع عن الاراضي المصرية. ومنذ مطلع السبعينات طور موقفه من نضال الشعب الفلسطيني، وراح يمد خيوط العلاقة باتجاه م ت ف بعدما برزت كقوة سياسية وعسكرية فاعلة في الساحة الفلسطينية والعربية. واعترف بها كممثل وحيد للشعب الفلسطيني وآزار مواقفها في الامم المتحدة وفي مواقع اخرى كثيرة. وبعد اتفاقات كامب ديفيد قدم لها ولبعض فصائلها اليسارية مساعدات عسكرية ولوجستية كبيرة، وشجع بلدان حلف وارسو على اتخاذ ذات الموقف. فقدمت بلغاريا والمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا وكوبا كميات محترمة من الذخائر والاسلحة الخفيفة والمتوسطة للفصائل اليسارية الفلسطينية شحنت مباشرة من مخازنها الى الموانئ السورية ومنها الى لبنان. وقامت ذات الدول بتاهيل مئات من الكوادر العسكرية الفلسطينية سنويا، وقدمت بلدان حلف وارسو منح دراسة جامعية سخية. ويمكن تقدير قيمة هذه المساعدات العسكرية وغير العسكرية للفلسطينيين وعلى العلاقة الفلسطينية السوفيتية اذا علم بان الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مثلا حصلت وحدها سنويا على ما يزيد عل ماية وعشرين منحة عسكرية وما يقارب 200 منحة جامعية. وخلال ذات الفترة شجع السوفييت ليبيا واليمن الديمقراطي على تقديم مساعدات عسكرية سخية للمنظمة وفصائلها وعوضها عن بعضها. فقد التزمت ليبيا بتشجيع سوفيتي بتقديم دعم مالي للجبهة الديمقراطية قيمته مليون دولار شهرياً، عدا عن تسديد اثمان بعض المشتريات العسكرية وشبه العسكرية. وذات الشيء دفع للجبهة الشعبية بزعامة جورج حبش. أما القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل فكانت قيمة مساعدتها مليون ونصف المليون دولار شهرياً عدا مشترياتها. ومنظمة الصاعقة الموالية لسوريا نصف مليون شهرياً. وجبهة النضال الشعبي أربعمائة ألف دولار. عدا عن كميات كبيرة من الأسلحة والتجهيزات العسكرية الأخرى والتموين. وفي حينه قدمت ليبيا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اثنتي عشرة راجمة صواريخ BM21، وبطارية مدفعية عيار131 ملم. وبطارية اخرى من عيار122ملم، وذات الشيء قدم للجبهة الديمقراطية. أما القيادة العامة فكان نصيبها 15 راجمة من ذات العيارن ولمنظمة الصاعقة أربع راجمات. وجبهة النضال الشعبي ست راجمات. عدا عن آلاف البنادق والرشاشات المتوسطة والثقيلة، ومئات القواذف المضادة للدروع R B G ،والمدافع المباشرة غير المرتدة، ومدافع الهاون من عيار120و160ملم مع وحداتها النارية الكاملة. وشملت المساعدات أيضاً بعض احزاب وقوى الحركة الوطنية اللبنانية. منها الحزب الشيوعي، والاتحاد الاشتراكي العربي بزعامة “عبد الرحيم مراد”. ويمكن للمرء أن يقدر قيمتها المالية إذا أخذ في الحساب أن سعر صاروخ غراد واحد يساوي بضع آلاف من الدولارات الامريكية.
وعبر مواقفهم المبدئية المساندة لقضية الشعب الفلسطين وحقوقه المشروعة تمكنوا من الوصول في الفكر السياسي الفلسطيني الرسمي والشعبي إلى درجة الحليف الاستراتيجي والصديق الثابت. واستثمروا ذلك التحالف وتلك الصداقة في شتى مجالات صراعهم الاستخباري والسياسي والاقتصادي ضد العدو المشترك ممثلا بالامبريالية والصهيونية، ووظفوها لصالح استراتيجيتهم الدولية. وتمكنوا عبر التأهيل الحزبي والاكاديمي والتدريب العسكري السنوي لآلاف الطلاب والكوادر العسكرية من التأثير في الفكرالسياسي الفلسطيني. ونجحوا في توسيع انتشار الفكر الماركسي اللينيني في صفوف قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وفي خلق مناخ عام مؤيد لهم تأييداً ساحقاً في الأوساط الشعبية الفلسطينية. ونجحوا في تعميق وتأجيج الكراهية والحقد الشعبي الفلسطيني ضد الغرب عموماً وضد الأمريكان على وجه الخصوص. في حينه سهلت المواقف الأمريكية والأوروبية المنحازة لاسرائيل نظريا وعمليا على السوفيات مهمتهم، وساهمت في دفع وتشجيع قطاعات واسعة من الشباب الفلسطيني نحو هذا الفكر وتلك الأيديولوجية. وبعد تزويد الفصائل اليسارية الفلسطينية بأنواع جديدة وبكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر، طالبوها بتصعيد عملياته العسكرية من جنوب لبنان، وشجعوها على ضرب المستوطنات الإسرائيلية على الحدود الشمالية لإسرائيل. ولم تكن تلك الفصائل بحاجة لمن يشجعها. فقد وجدت في ما امتلكته من أسلحة وسيلة تعوض بها ضعف قدراتها على اختراق الحدود الإسرائيلية اللبنانية بوسطة الافراد. وتعويضا عن الخسائر الكبيرة التي لحقت بها بفعل حرب الاستنزاف التي قررها رئيس الاركان الاسرائيلي رفائيل ايتان. ويمكن القول بان حرب المدفعية التي وقعت في تموز1981 تمت بتشجيع مشترك سوفيتي ليبي سوري. وفي مجال الاستثمارالسوفياتي لعلاقاته مع الفصائل الفلسطينية والكوادرالمستقطبة أيديولوجياً واستخبارياً، نجح السوفياتي في توظيف تواجد بعض الفصائل الفلسطينية اليسارية في صفوف الجاليات الفلسطينية الموزعة في شتى أنحاء العالم لصالح إنجاز العديد من المهام الاستخبارية ضد الأمريكان، وضد بعض الدول الأوروبية. وتم تشغيلها في مهام لا علاقة لها إطلاقاً بالقضية الفلسطينية ولا بالصراع العربي ـ الاسرائيلي. فتحت شعار الوحدة الفكرية والتعاون الأمني وتبادل المعلومات وافقت قيادات أكثر من فصيل فلسطيني على فرز بعض كوادرها في أمريكا وفي اكثر من بلد أوروبي للعمل والتعاون مع جهاز المخابرات السوفيتية تحت شعار تبادل المعلومات ضد الامبريالية العالمية، وضد الـ C.I.A عدوة الشعوب الفقيرة عامة، وعدوة الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص. وفي حينه قدم العديد من الشباب الفلسطيني، بناء على اوامر من قياداتهم الحزبية، خدمات جليلة لأجهزة الـ K.G.B في اكثر من بلد اوروبي، مستفيدين من توجدهم أو تواجد أصدقائهم ورفاقهم وأقاربهم في بعض المواقع الرسمية وغيرالرسمية. ومن خلال هذا النمط من العلاقات الأيديولوجية والاستخبارية نجح السوفيات أيضاً في نشر وبث ما كانوا يريدون بثه من معلومات حقيقية أو تضليلية عن هذه الحادثة أو تلك المسألة. ولا يمكن لاحد انكار دور التعاون الامني وعمليات التأهيل في إكساب آلاف الشباب الفلسطيني خبرات علمية وأكاديمية قيمة. ولعل فرز أحد الفصائل لما يزيد عن 25 شاباً وكادراً فلسطينياً لحماية السفارة السوفياتية ومؤسساتها في بيروت إبان موجة خطف الرهائن في لبنان (85 ـ 86)، وفرزه لما يزيد عن مائة وعشرون كادراً موزعين في شتى دول العالم لصالح التعاون الأمني الفلسطيني ـ السوفياتي، والفلسطيني ـ الألماني الشرقي أدلة على عمق تغلغل الاستخبارات السوفياتية والألمانية الشرقية في صفوف بعض الفصائل الفلسطينية في تلك الفترة. وأعتقد أن ما نشر من معلومات واعترافات في الصحافية السوفياتية والألمانية الغربية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد انهيار سور برلين، ليست الا الندر اليسير مما كان قائماً. ومما لا شك فيه ان الفصائل الفلسطينية استفادت من بعض المعلومات التي حصلت عليها من خلال ذاك التعاون الأمني المشترك، إلا أن السوفيات وحلفاؤهم استفادوا أكثر. لقد نجح السوفياتي والالمان الشرقيون عبر الفلسطينيين في اختراق عدد من سفارات الدول الأوروبية في بيروت، وحصلوا على الأرشيف السري لبعضها واستلام بريد بعضها. وتمكنوا أيضاً من الحصول على معلومات هامة في مجال التكنولوجيا، فقد اشتروا عبر الفلسطينيين معدات وبرامج ومركبات أجهزة الكومبيوتر ومعدات الكترونية أخرى بريطانية ويابانية وأمريكية وألمانية غربية. ونجحوا في توظيف علاقاتهم مع الفلسطينيين في إقامة وتوسيع نفوذهم ونشاطهم في ايران وأثيوبيا وأفغانستان ونيكارغوا والسلفادور. ومما لا شك فيه أن جهاز ال CIA وأجهزة مخابرات دول الحلف الأطلسي لم تقصر هي الأخرى في استثمار ما أمكن استثماره من الشباب الفلسطيني والاسرائيلي في مهام استخبارية مضادة لعدوها الرئيسي ممثلاً بالاتحاد السوفياتي والأنظمة والأحزاب والحركات التقدمية واليسارية العربية.
إن اعتراف عدد من ساسة العالم مؤخرا، بأن انتهاء الكثير من الصراعات الاقليمية والدولية ومن ضنمها ما يسير نحوه الشرق الأوسط هو نتيجة لانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين هي أوضح شهادة وأصرح اعتراف، يمكن للشعوب التي تأثرت بالحرب الباردة أن تستخدمها كأدلة دامغة، وكإدانات ثابتة على الجرائم التي ارتكبت بحقها على يد أقطاب وأطراف وقادة معسكري الحرب الباردة. لقد كان حكم تاريخ البشرية دقيقاً عندما حمّل هتلر والفكر الفاشي النازي والطبقة الألمانية التي حكمت في اواخر الثلاثينات والاربعينات مسؤولية الحرب العالمية الثانية، ومسؤولية القتل والدمار الرهيب الذي لحق باليهود، وبالعديد من شعوب العالم وخاصة الأوروبية والآسيوية والافريقية. والعدالة وإنصاف التاريخ تقتضي الان توجيه التهمة ايضا لاقطاب الحرب الباردة في التسبب في قتل الملايين من البشر بدء من الحرب الكورية اوائل الخمسينات وانتهاء بآخر حرب فلسطينية اسرائيلية، وتحميلهم ايضا المسؤلية عن تدمير أوضاع دول وشعوب عديدة. فالحرب الباردة ابان احتدامها لم تبقي بقعة من بقاع الأرض إلا وأخضعتها للتنافس والصراع. ولم تبقي شعباً صغيراً أو كبيراً، فقيراً أو غنياً إلا وأخضعته لتأثيراتها. وكثير من شعوب العالم كانت ضحية هذه الحرب مثلها مثل شعوب الشرق الأوسط. ولا نتجنى على أحد إذا قلنا أنها بأطرافها ورموزها وأقطابها مسؤولون بصورة واخرى عن قتل ملايين البشر في الحروب الاقليمية التي شهدها العالم في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات. ومسؤولون عن الفقر والجوع والجهل الذي تعيشه الآن معظم شعوب الشرق الأوسط. وهم ليسوا ابرياء من المسؤولية عن بقايا الصراعات العرقية والاثنية والاقليمية التي تدور رحاها الآن في أكثر من بقعة من بقاع الأرض. فحربهم ساهمت في تهيئة الظروف المحلية والاقليمية لنشوء مثل هذه النزاعات المدمرة. وبصرف النظر عن حجم مسؤولية أقطاب الحرب الباردة، أو القيادات الاسرائيلية والصهيونية عما حل بالشعب الفلسطيني منذ عام 1948 وللآن فمصلحة السلام في المنطقة تفرض على جميع من تسبب بمآسيه أن يعترفوا له بمسؤوليتهم. فلا يمكن تصفية ذيول وآثار المرحلة التاريخية الماضية دون تقديم مثل هذا الاعتراف التاريخي. ولا أحد يستطيع أن ينكر بان الشعب الفلسطيني دفع بعد الحرب العالمية الثانية ثمن الجرائم والمجازر التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا، وكان الثمن باهظاً جداً دون أن يكون له ذنب في ذلك. وتكررت وتعمقت قصة مأساته خلال سنين الحرب الباردة.