حرب اكتوبر انجاز عربي بددته الحرب الباردة الحلقة 3
بقلم ممدوح نوفل في 30/04/1998
بعد حرب ايلول 1970 ووفاة عبد الناصر، شهدت المنطقة العربية تغيرات دراماتيكية. فوجود الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية في الاردن انتهى، وتحول ثقلها الى لبنان. وتولى الرئيس السادات زمام الحكم في مصر. ونجح رئيس أركان الجيش السوري حافظ الاسد في قيادة حركة تصحيحية في سوريا وتولى زمام الحكم فيها. وكان الرئيسان السادات والاسد بحاجة ماسة لاثبات صدقية اقوالهما وعزمهما على تحرير الاراضي المصرية والسورية التي احتلت عام 1967، فكلاهما تولى الحكم في اوج صراعات داخلية، وكانت القوى المعارضة تتهمهما بالنزوع نحو ارضاء الادارة الامريكية والتساوق مع مشاريعها التسووية. في حينه عمل الرئيسان على تنشيط التحركات الدولية على أمل تحقيق تقدم ما على هذا الطريق الا ان جهودهما باءت بالفشل. فبعد التطورات في البلدين ورحيل قوات م ت ف من الاردن عام 1971، نامت عمليات البحث الدولية عن حلول للصراع العربي الاسرائيلي، وبقيت أوضاع المنطقة على حالها وعاشت فترة هدوء ثبت لاحقا انه خادع. وآثر الطرفان الاسرائيلي والامريكي التريث وانتظار ما يمكن ان يحدث في مصر بعد عبدالناصر. فالكل يقدر بان مصر السادات غير مصر عبد الناصر من كل النواحي، وفي كل المجالات. في حينه جرت محاولات امريكية للوصول الى اتفاق مصري اسرائيلي حول فتح قناة السويس امام الملاحة الدولية، بمعزل عن معالجة احتلال اسرائيل صحراء سيناء، الا انها لم تسفرعن نتائج تذكر لعدم جديتها، وبسبب طبيعة الشروط المذلة التي حاولت القيادة الاسرائيلية فرضها على القيادة المصرية. وطورت الادارة الامريكية مستويات دعمها المالي والعسكري لاسرائيل تحت شعار المحافظة على التفوق العسكري الاسرائيلي في مواجهة مساعدة السوفييت للمصريين والسوريين على اعادة بناء قواتهما العسكرية، وللضغط على نظام السادات ومنعه من مجرد التفكير باي عمل عسكري ضد اسرائيل. وتركز هم الادارة الامريكية في تلك الفترة على متابعة جبهة الحرب الباردة، وانشغلت في محاربة توسع النفوذ السوفيتي في الشرق الاوسط وفي أرجاء اخرى من العالم. ورفع “كيسنجر” درجة معاداة الادارة الامريكية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتصلب في وجه المصريين والسوريين. وخلق انطباع في الشارع العربي وفي الاوساط الدولية بان اوضاع المنطقة مرشحة للجمود فترة طويلة. ولم يصدق احد احاديث انور السادات المتكررة بانه لن ينتظر طويلاعلى بقاء سيناء تحت الاحتلال الاسرائيلي، وانه سيخوض الحرب لتحريرها اذا لم تفلح الجهود الدبلوماسية في ذلك.
وبعد يأس الرئيسين انور السادات وحافظ الاسد من الوصول الى حلول سياسية تعيد لهم اراضيهم التي احتلت عام 1967، وتعطي الفلسطينين بعضا من حقوقهم المشروعة، اتخذوا قرارا مشتركا بالتحضير لشن حرب واسعة ضد اسرائيل.كان هدفها تحرير ما يمكن تحريره من الارض المصرية والسورية، وتحريك عمليات البحث الدولية عن حلول عادلة للصراع العربي الاسرائيلي من موقع قوة. واتفق الرئيسان على عدم احراج وضع الاردن وتجنيبه عناء وكلفة المشاركة في الحرب التي يخططان لها. فاشتراك الاردن في الحرب يضيف اعباء جديدة على كاهل سوريا ومصر. فقواته قليلة العدد وضعيفة العدة بالقياس لمتطلبات الدفاع عن اطول جبهة مع اسرائيل، ولا تستطيع القيام باية نشاطات هجومية حاسمة وبالكاد تستطيع الدفاع عن حدودها. ومشاركتها يفسح المجال لاسرائيل الحاق خسائر كبيرة مادية ومعنوية بالجانب العربي على الجبهة الاردنية، وقد تندفع لاحتلال اجزاء من الضفة الشرقية. واكتفى الرئيسان بعقد قمة ثلاثية مصرية سورية أردنية يوم11 ايلول “سبتمبر” 1973 في القاهرة تمت فيها مصالحة سورية اردنية، واعلن عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين الاردن وسوريا التي قطعت ابان حرب ايلول 1970. والتزم الرئيس الاسد بوقف النشاط العسكري الفلسطيني من الحدود السورية ضد الجيش الاردني بصورة نهائية وحازمة. واستخدم اللقاء الثلاثي للتموية على لقاء مصري سوري خاص للتدقيق في تحضيراتهما المشتركة للحرب.
وبعد عملية تحضير طويلة وواسعة ومضنية، وعملية تضليل بارعة ومعقدة، شنت الجيوش المصرية والسورية في 6 تشرين الاول “اكتوبر” 1973 هجوما منظما مفاجئا ضد قوات الجيش الاسرائيلي المرابطة في سيناء والجولان. في حينه تساوت القيادة الفلسطينية مع القيادة الاسرائيلية والامريكية في المفاجئة. فرغم ضخامة الجيوش التي شاركت في تلك الحرب، وضخامة التحضيرات التي اجراها الجيشان المصري والسوري الا ان مفاجئة اسرائيل كانت كاملة. لقد قفزت القيادة الاسرائيلية في حينه عن الكثير من ظواهر الحرب وشواهدها على الجبهتين السورية والمصرية، ورفضت التعامل معها بصورة موضوعية ورفضت أخذها كما هي، وتعاملت معها انطلاقا من الفكر الاحتلال العنجهي الذي سيطر على ذهنها فترة طويلة، واستخدمته كاداة قياس للتحركات العسكرية المصرية والسورية. وحتى مساء يوم 5 تشرين الاول “كتوبر” ظلت القيادة السياسية الاسرائيلية ترفض التعامل مع المؤشرات التي نقلت اليها من جبهات القتال ومن رجال استخباراتها المزروعين في سوريا ومصر عن وجود قرار بهجوم مصري سوري مشترك، وكان “موشي ديان” وزير الدفاع الاسرائيلي اكثرهم رفضا لفكرة قيام سوريا ومصر بمثل هذا الهجوم.
حقا لقد نجحت القيادتان المصرية والسورية في اختيار توقيت الحرب “الساعة الثانية بعد ظهر يوم كيبور” احد أكبر واهم الاعياد الدينية الاسرائيلية، حيث يكون جميع اليهود غارقين في صلاوتهم. وأتقنتا القيام باكبرعملية خداع وتضليل عسكرية في تاريخ الحروب التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين. ولم تنطلي الخدعة الاستراتيجية المصرية السورية على القيادة الاسرائيلية وحدها بل وايضا على الاستخبارات الامريكية. وبلغت المفاجئة الامريكية حد اعتراف الرئيس نيكسون بأنه اصيب بالذهول حيث قال في رسالة بعث بها الى كيسنجر يوم 8 أكتوبر، “من الصعب علي ان أصدق ان المصريين والسوريين تحركوا على هذا النحو الضخم بغيرعلم السوفييت، وربما بغير تشجيعهم المباشر. وأكثر من ذلك فانني متضايق من أن الهجوم على اسرائيل كان مفاجئة كاملة لي. فانا اشعر بالاحباط من قصور معلومات مخابراتنا. كما انني في ذهول من فشل المخابرات الاسرائيلية، وقد كنت اعتقد انها أفضل أجهزة المخابرات في العالم، لكنه يبدو لي انهم فوجئوا بطريقة أفقدتهم توازنهم. اما السوفييت فقد بينت وقائع حرب اوكتوبر لاحقا بان الرئيس السادات فوض الرئيس حافظ الاسد بابلاغ القيادة السوفيتية مسبقا بنواياهما وبالحدود التي يراها مناسبة. وآثر السادات ان يقوم الرئيس الاسد بهذه المهمة بسبب تدهور علاقته بهم. وبعد بدء الحرب ونجاح الدفعة الاولى من القوات المصرية في اجتياز خط بارليف حرص الرئيس السادات على المبادرة لاجراء الاتصال الاول مباشرة مع القيادة السوفيتية من غرفة العمليات وأطلعها على مجريات الهجوم، وكسرالجليد الذي غطى علاقة الطرفين قبل الحرب. وأوعز لاركانه ومستشاريه بوضع القيادة السوفيتية في صورة تطورات المعركة اولا باول عبر السفارة السوفيتية في القاهرة. وخلال الحرب كانت القيادة الفلسطينية تتابع اخبار جبهات القتال من خلال وكالات الانباء وما ينقله لها ممثلوها في مصر وسوريا وما تبلغ به رسميا من القيادتين السورية والمصرية. وكانت حالتها المعنوية ترتفع وتهبط تبعا لمجريات الحرب.
بالاجمال سيطرت الاجواء الايجابية المفرحة على صفوف الشارع والقيادة والكوادر والمقاتلين الفلسطينيين. وبجانب الفرح كانت القيادة تتسائل حول دورها في الحركة السياسية التي بدأت خلال الحرب وفي اللاحقة التي ستليها. هل سيتبنى العرب مشاركة م ت ف في البحث عن حلول ام انهم سيقوموا بالمهمة نيابة عنها كما فعلوا بعد هزيمة عام 1948؟ في حينه اعتبر البعض عدم مشاركة الاردن في الحرب يصب سياسيا في صالح م ت ف فمشاركته لو تمت كانت ستمكنه من استعادة تمثيل الفلسطينيين في الفة الغربية بصيغة واخرى، وبالحد الادنى قاسمهم المنظمة التمثيل من موقع قوة.
وبالهجوم العسكري المصري ـ السوري المنسق ضد إسرائيل، والاسناد السياسي العربي الواسع، الذي اقترن بحظر النفطي العربي ضد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان، تغير المناخ السياسي العسكري في الشرق الأوسط في تلك الفترة. وفي احدى لقاءات وفد المجلس العسكري الفلسطيني الاعلى مع رئيس جمهورية المانيا الديمقراطية “هونيكر” في برلين الشرقية في شتاء 1981، وقف هونيكر امام نافذة غرفته وقال لاعضاء الوفد “انظروا هذه هي برلين الغربية، لقد اضطرت حكومة بون، خلال وبعد حرب تشرين “اكتوبر”، على تقنين استخدام الكهرباء وتجميد حركة السيارات لفترة ليست بسيطة. ومن هذا المكان كنت اشاهد بيوت برلين الغربية بدون انارة، وشوارعها شبه خالية من السيارات، بفضل حظر العرب شحن النفط لاوروبا. النفط العربي سلاح فعّال جدا بيدكم حافظوا عليه. ولكن على العرب الحذر في استخدامه فهو سلاح ذو حدين، فاذا لم يحسن استخدامه فقد يدمر اصحابه ويرتد عليهم. اما اذا احسن العرب استخدامه فانا واثق بان الغرب عامة واوروبا خاصة سيضطرون للتحرك لمعالجة قضايا وازمات الشرق المعقدة “.
في حينه ساعدت حرب اكتوبر بنتائجها السياسية والعسكرية الشعوب والحكام العرب على استعادة ثقتهم بأنفسهم، واستعادوا ثقتهم بجيوشهم وبقدراتهما العسكرية. واثبتت بالملموس بان جيش الدفاع الاسرائيلي قوة يمكن ان تهزم وتقهر. وان أسطورة جيش الدفاع الاسرائيلي التي ظهرت بعد حرب حزيران 1967 جاءت نتيجة تقصيرات عربية وليس اكثر. وبعثت فيهم الوعي إزاء قوتهم العسكرية والاقتصادية وبخاصة قوة النفط. وخلال فترة الحرب صدمت القيادتين السياسية والعسكرية في اسرائيل بالمفاجئة، وبقيت لفترة طويلة تعيش في ذهول من هول الصدمة وذيولها. وادرك معظم الاسرائيليين بان العرب لن يسكتوا عن المطالبة بحقوقهم في أرضهم طال الزمن او قصر. وان الاستمرار في احتلال الاراضي العربية يعني استمرار اسرائيل في حالة الحرب، وبقاء المنطقة في حالة قلاقل واضطرابات. وظهرت اصوات اسرائيلية مهمة قالت بان لا حل للصراع مع العرب بالطرق العسكرية. وطالبت بالدخول في بحث سياسي دبلوماسي جدي مع الزعماء العرب ومع الفلسطينيين لانهاء الصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي المدمر والمزمن. ويمكن القول بان حرب تشرين “اوكتوبر” وتفاعلاتها اللاحقة اقنعت العالم بما في ذلك حلفاء اسرائيل بخطا استمرار احتلال اسرائيل للاراضي العربية. وأثرت نسبيا في الفكر الصهيوني الجامد، وساهمت في الحد من طموحاته التوسعية في الارض العربية، وأرست اسسا اولية للتفكير الواقعي في اسرائيل ازاء البحث عن حلول للصراع العربي الاسرائيلي المزمن. وخلال فترة الحرب وقبل ان تستقر الاوضاع العسكرية على الجبهتين السورية والمصرية أصدر مجلس الأمن الدولي في 22 أكتوبر قراره رقم 338 وإعترفت سوريا ومصر بذلك القرار، واستردتا بعض أراضيهما المحتلة في سيناء والجولان، كما إعترفت سوريا لاول مرة بالقرار 242. أما الفلسطينيون فقد انتعشت آمالهم في حل قضيتهم عبر التحركات الدولية الجديدة، وزاد أملهم بانسحاب اسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة وحل مشكلة اللاجئين والنازحين، وقيام كيانهم المستقل. وصعدت في صفوفهم من جديد مفاهيم الدور القومي العربي، وبرزت في الشارع الفلسطيني افكار تتضمن بعض اشكال الاتكالية على الدور العربي في تحرير الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. وتراجع تفكير القيادة الفلسطينية نحو تركيز عملها العسكري داخل الارض المحتلة خطوات جديدة للوراء. وصعدوا وطوروا عملياتهم القتالية من الجنوب اللبناني ضد اسرائيل. وظلوا على موقفهم الرافض للاعتراف باسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242و338 واعتبروهما قرارين ظالمين، لا يخاطبان منظمة التحرير كممثل للفلسطينيين. وأضافوا قرار مجلس الامن الدولي الجديد رقم “338” الى المحرمات الفلسطينية التي لايجوز التعامل معها.
في تلك الفترة، ظهرت في أجواء منطقة الشرق الاوسط بوادر تحركات دولية باتجاه السعي لايجاد حلول سياسية للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي. ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام ضرورة التحرك الجدي للبحث عن السلام في الشرق الأوسط. فلم يعد بمقدروها الاستمرار في التعامل مع النزاع في المنطقة بالمنظور السابق الذي تعاملت به مع قضايا المنطقة منذ عام 1950 وحتى عام 1973. كما لم يعد بمقدورها ترك المسؤولية الأولى في تقديم المبادرات للآخرين سواء اكانوا سوفييت أم اوروبيين. ولم يعد بإمكانها استمرار الظهور امام العرب وحكوماتهم وبخاصة حلفاؤها بمظهر عديم الإحساس وغير المكترث بالمشكلة الفلسطينية وبقضايا العرب الأخرى، خاصة قضية استرداد الأراضي التي احتلت عام 1967. فحظر النفط ضدها وضد أوروبا جاء من أصدقائها وحلفائها في المنطقة. والهجوم السوري ـ المصري المشترك ضد إسرائيل زاد من حدة المنافسة والصراع مع الاتحاد السوفياتي. واستمرار النزاع العربي ـ الإسرائيلي يعني تنامي دور القوى الراديكالية المعادية للولايات المتحدة والأكثر قرباً للشيوعية وللسوفيات. ولهذا بدأت الولايات المتحدة بتحرك جدي باتجاه تحقيق حل سلمي دائم للنزاع العربي الإسرائيلي وللمسألة الفلسطينية، دون أن تقلل من التزاماتها تجاه أمن إسرائيل، ودون ان يتم ذلك على حساب تحالفها الاستراتيجي معها.
واستجابة لرغبة الطرف العربي “مصر وسوريا”، وجدت الإدارة الأمريكية نفسها ملزمة بإشراك السوفيات في ذاك التحرك. لا سيما وأنها أدركت بأن وضع السوفييت في المنطقة العربية بات أقوى بكثير مما كان عليه في عقد الستينات. وانهم اذا لم يكن بامكانهم فرض حلول لقضايا المنطقة فقد بات بإمكانهم تعطيل كل الحلول الاخرى اذا تم استفزازهم واستثنائهم منها. لهذا وبعد التشاور مع القيادة السوفيتية، دعا الجانبان الأمريكي والسوفيتي كلاً من مصر وسوريا والأردن وإسرائيل، إلى الاشتراك في مؤتمر دولي للسلام يعقد في جنيف يترأسه الطرفان بالتناوب وتحضره الامم المتحدة كمراقب. ولم تدع له م.ت.ف بناء على إصرار اسرائيلي وموافقة سوريا على ذلك، علماً بأن السوفيات والمصريين أصروا على حضورها وفق رواية ابوعمار، ولم يمانع الأمريكان في ذلك. وتقرر أن تكون مبادئ القرارين 242 و338 أساسا للمفاوضات. في حينها رفضت سوريا حضور المؤتمر، واعتبرت انفراد السادات بوقف الحرب خيانة وخديعة لها. وعلى الرغم من الغياب السوري وغياب الأردن وم.ت.ف عقد المؤتمر أواخر كانون أول 1973، ودامت أعماله مدة يومين فقط، رفعت بعدها لينظر في مسائل محددة من خلال مجموعات عمل ثنائية مصرية ـ إسرائيلية. ومن الجدير ذكره ان ذاك المؤتمر انتهى عمليا دون أن تعلن أية جهة رسميا عن انتهائه وفشله.
في تلك الفترة طرح الاتحاد السوفيتي وبعض العرب على قيادة منظمة التحرير استثمار الاجواء السياسية الدولية وقدمت فكرتين: الاولى إستثمار ورقة الاعتراف بالقرارين 242 و338، والثانية مرحلة الأهداف الوطنية الفلسطينية، وتمييز ما هو مباشر ومرحلي عما هو تاريخي واستراتيجي، باعتبار ذلك يبين للعالم واقعيتهم وإستعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة ايجاد حلول سياسية عادلة وواقعية. ويساعد الفلسطينيين ممثلين في م ت ف على المشاركة مع الاطراف الاقليمية الاخرى في التحركات السياسية والدبلوماسية الدولية. في حينه رفضت قيادة م ت ف وقيادات كل الفصائل الفلسطينية الفكرة الاولى بالاجماع. وبجانب ذلك الرفض ظهر في الساحة الفلسطينية تيار واقعي وبخاصة في صفوف الحزب الشيوعي، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وحركة فتح، تبنى فكرة مرحلة الأهداف الوطنية الفلسطينية ضمن برنامج مرحلي يقره المجلس الوطني ، وراح يدعو للفكرة بحماس شديد.ونجح هذا التيار لاحقا في تحويل أطروحاته من أطروحات نظرية خاصة به الى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر 1ـ 9/6/ 1974 برنامج “النقاط العشر”. الذي عرف وقتها “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”، وساهم في صعود نجم المنظمة عربيا ودوليا.
وعبر اتصالاته مع المصريين لمس في حينه وزير الخارجية الأمريكية هنري كينسنجر، رغبة الرئيس السادات في توسيع المسافة التي فتحت بينه وبين الاتحاد السوفيتي قبل حرب اكتوبر 1973 عندما طرد الخبراء، وتأكد من رغبته في أن تقوم الولايات المتحدة بنشاط سياسي ودبلوماسي افعل وأوسع بمعزل عن السوفيات. وعلى هذه الخلفية قام هنري كيسنجر في تلك الفترة بعدة جولات مكوكية في المنطقة وحقق ضربة دبلوماسية مذهلة، حين توصل مع المصريين والسوريين والإسرائيليين، إلى اتفاقات فك الاشتباك في سيناء والجولان عام 1974. عادت بموجبه القوات الاسرائيلية الى خطوط وقف اطلاق النار التي كانت تتمركز فيها عند اقراره من قبل مجلس الامن الدولي. وانسحبت من اجزاء هامة من الاراضي المصرية والسورية وضمنها مدينة القنيطرة. ولاحقا توصل كيسنجر الى اتفاقية سيناء الثانية في أيلول1975، انسحبت إسرائيل بموجبها من قطعة أخرى من سيناء. وخلال جولاته المكوكية، وجد كيسنجر في انعدام الثقة بين مصر وسوريا وتزايد حدة الصراع السياسي بينهما، وتعنت القوى الراديكالية الفلسطينية والعربية ورفضها السلام مع إسرائيل، فرصة كبيرة للهروب من مشاركة السوفيات في الوساطة بين الاسرائيليين والمصريين من جهة واسرائيل من جهة اخرى. وفرصة ثمينة لتعطيل البحث عن الحل الشامل والسلام الدائم بين العرب والاسرائيليين. وصاغ استراتيجيته المعروفة “الخطوة ـ خطوة” التي قامت على التوصل إلى اتفاقات ثنائية إسرائيلية عربية. مستجيباً للموقف الإسرائيلي وللاستراتيجية الإسرائيلية التي وضعها بن غوريون، والتي بقي معمولا بها منذ عام 1948 وحتى الآن. ومع تقدم سياسة الخطوة خطوة الكيسنجرية، كان التضامن العربي يتمزق أكثر فأكثر، وكانت الصراعات العربية العربية تتسع اكثر فاكثر، وكانت تقذف بانعاكستها السلبية على الساحة الفلسطينية اولا باول، وبخاصة على الوجود الفلسطيني في لبنان. وكانت النتائج الإيجابية لحرب أكتوبر تزداد تبخراً وضياعاً بتسارع شديد، دون أي استثمارعربي او فلسطيني جدي لها. ورغم ذلك لم يفقد بعض القادة الفلسطينيين الامل في تحقيق بعض المكاسب من التحركات والاتصالات التي كان يجريها الرئيس المصري محمد انور السادات، الا انهم لم يستطيعوا المجاهرة بمواقفهم في مواجهة التيار الشعبي والرسمي العربي الفلسطيي السائد الذي كان يشير للسادات باصابع الاتهامات المتنوعة وضمنها خيانة العرب والفلسطينيين. وفي سياق تنفيذ توجهاته واشغال المنطقة العربية عن خطواته وعن السلام المنفرد الاسرائلي المصري، واخراج مصر من الصراع العربي الاسرائيلي، واضعاف دور منظمة التحرير الصاعد، اطلق كيسنجر مقولته الشهيرة Bye Bye P. l. Oواشعل فتيل الحرب الاهلية في لبنان. وعلى امتداد النصف الثاني من عقد السبعينات غرقت او أغرقت الحركة الوطنية الفلسطينية وكل الاوضاع العربية الرسمية والشعبية في الحرب الاهلية اللبنانية.
وبعد فوز الرئيس كارتر في الانتخابات وقع تبدل نوعي في الادارة الأمريكية إزاء قضايا المنطقة. والفقرة التالية من مذكرات فانس وزير خارجيته تعطي صورة واضحة عن ذلك التبدل: “اتفقنا أنا والرئيس كارتر على أن تقوم الإدارة بدور قيادي فوري لنفخ روح الحياة من جديد في عملية السلام في الشرق الأوسط. وكان هناك قدر كبير من التوافق فيما بيننا على أن أسلوب الخطوة خطوة الذي اتبعه كيسنجر في معالجة النزاع العربي الاسرائيلي قد استنفذ إمكاناته.. وكنا ندرك أن تبنينا لسياسة نشيطة ومتوازنة يحمل معه مخاطرة سياسية كبيرة، ونصحت الرئيس كارتر في تشرين الثاني 1976 بأنه كمسألة عملية لا بد من منح الاتحاد السوفياتي دوراً ما في المفاوضات يساعد على منعه من الإضرار بتوجهاتنا”. ويضيف فانس في مذكراته “ولهذا طلبت من “بريجنسكي” أن يعجل في انهاء عملية المراجعة السياسية التي كان يقوم بها مجلس الأمن القومي الأمريكي”. وفي هدى هذه الرؤية بدأت إدارة الرئيس كارتر بالتحرك لمعالجة أزمات وقضايا المنطقة، مسترشدة بوثيقة عُرفت في حينها بوثيقة ساندرز* وهي من صياغة أنطوني ليك واثرتون ووليام كوانت بالإضافة لمن أطلق اسمه عليها. وهي الوثيقة الأولى في تاريخ الإدارات الأمريكية التي لا تشير إلى الفلسطينيين كلاجئين، واعترفت بأن جوهر الصراع العربي الإسرائيلي أساسه القضية الفلسطينية.
وراح الوزير فانس يجوب منطقة الشرق الأوسط في زيارات مكوكية، ويجري الاتصالات والمشاورات المباشرة مع كل أطراف النزاع. وزج الرئيس كارتر نفسه في العديد من الاتصالات واللقاءات المباشرة مع زعماء المنطقة، شملتهم جميعاً باستثناء قيادة منظمة التحرير. وخلال فترة التحضير من قبل كارتر ـ فانس لاستئناف مؤتمر جنيف للسلام جرت الانتخابات الإسرائيلية، 17 ايار 1977 وانتصر فيها ائتلاف الليكود وهزم تحالف العمل. ومع سقوط حزب العمل وصعود الليكود، أدرك الرئيس السادات إستحالة انعقاد مؤتمر جنيف للسلام من جديد. واستحالة التقدم في عملية السلام على كل الجبهات العربية في وقت واحد. ومع تولي مناحم بيغن السلطة في اسرائيل راح يدير دفة المفاوضات مع الإدارة الأمريكية بصورة مختلفة تماما.
ورغم ميل اسرائيل نحو التطرف واصلت الإدارة الأمريكية مساعيها من أجل إعادة تحريك عملية السلام من جديد، وحاولت التفاهم مع السوفييت وأسفر ذاك التفاهم عن صدور البيان السوفياتي ـ الأمريكي الشهير “فانس-غروميكو” في 1 أكتوبر 1977 الذي حدد شروط التسوية وإنهاء حالة الحرب، وإنشاء علاقات سلام طبيعية على أساس من الاعتراف المتبادل بمبادئ السيادة ووحدة الأراضي والاستقلال. بعد ذلك، أعلن الرئيس السادات يوم 9 تشرين الثاني وبشكل مفاجئ للجميع أنه مستعد للذهاب إلى مدينة القدس لمخاطبة اعضاء الكنيست الاسرائيلي حول مسألة السلام. يوم 19-20 تشرين الثاني نفذ السادات ما كان أعلنه. ومنذ وصوله القدس تراجعت الإدارة الأمريكية عن مضمون البيان الامريكي السوفييتي المشترك. واشاعت بانها قد فوجئت بخطوة السادات وانها لم تكن تحبذها. وفورا أقفلت ملف البحث في عقد مؤتمر جنيف للسلام، وسارت المفاوضات والاتصالات من اجل السلام برعاية امريكية ولكن في منحى آخر مختلف، هو منحى المفاوضات الثنائية المصرية ـ الإسرائيلية. والتي توجت باتفاقات كامب ديفيد الشهيرة، وبالسلام الثنائي المصري ـ الإسرائيلي في 17/9/1978. وبوجب تلك الاتفاقات استعادت مصر كل الاراضي المصرية التي احتلت في عام 1967، ولكنها أججت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.