انتظار العرب والفلسطينين مواقف امريكية نوعية جديدة مضيعة للوقت

بقلم ممدوح نوفل في 02/06/1998

بعد الموافقة الرسمية الفلسطينية على “المبادرة الامريكية”، كثر الحديث في اوساط الفلسطينيين المعنيين بادارة المفاوضات عن توحد الموقف الامريكي الفلسطيني في مواجهة مواقف حكومة الليكود المتعنتة. ومنذ فشل لقاءات نتنياهو بوزيرة الخارجية الامريكية “اولبرايت” في لندن وقبلها في اشنطن، يحاول بعض الفلسطينيين ايهام انفسهم وايهام الاخرين بان الموقف الفلسطيني “المرن” حشر نتنياهو دوليا واقليميا واسرائيليا في زاوية ضيقة، ووضعه امام احد خيارين لا ثالث لهما، اما الموافقة على المبادرة الامريكية غيرالمعلنة رسميا للآن او التصادم مع الادارة الامريكية. فهل صحيح ان هناك مسار فلسطيني امريكي مشترك وموقف موحد في مواجهة تعنت نتنياهو، ام ان المسار الامريكي في عهد كلينتون كان وما يزال يسير بموازاة المسار الاسرائيلي، يتقاطع معه تارة ويسانده تارة اخرى حتى لو تباين معه. وان ما يطرحه بعض الفلسطينيين من رغبات ذاتية اقرب الى احلام يقظة لا افق لها على ارض الواقع ؟
يفترض بوقائع ونتائج المفاوضات التي أجراها الراعي الامريكي على مدى العام الاخير مع الطرفين ان تكون كافية لاقناع جميع القوى والاتجاهات الفلسطينية بان نتنياهو مصمم، حتى لو كره كلينتون، على المضي قدما في تنفيذ برنامجه وتوجهاته الهادفة الى التخلص من اتفاق اوسلو وملاحقه، وفرض صيغة جديدة للعلاقة مع الفلسطينيين، واسس اتفاق جديد لا علاقة له بمدأ الارض مقابل السلام. وهوعلى كل حال حسم الشك باليقين في لقائه مؤخرا “22 أيار” مع السفراء المعتمدين في اسرائيل، حين اعلن عن وفاة اسس سلام اوسلو ولم يكترث بموقف الشركاء الآخرين وترك لهم ان يعلنوا ما يرغبون ويفعلوا ما يشاؤون. حيث قال “هناك تفسيرات خاطئة تقول ان السلام انهار بسبب الحكومة الاسرائيلية الحالية، والحقيقة ان السلام قد انهار قبل عامين”، ويقصد تاريخ فوز حزب الليكود في الانتخابات وتربعه هو على كرسي رئاسة الوزراء. واضاف “عندما توليت رئاسة الوزراء لم يكن لدينا سلام، كان لدينا انهيار لاسس اتفاق اوسلو، فقد اعطينا الفلسطينيين ارضا ولم يكافحوا الارهاب”. وكرر امام سفراء العالم رفض الاقتراح الامريكي “شبه السري للآن” القاضي بانسحاب القوات الاسرائيلية من 1،13% من مساحة الضفة الغربية ونقلها للسيادة الفلسطينية، باعتباره “يعرض أمن اسرائيل للخطر”. واضاف “بعد عمليات التخريب التي وقعت عام 1995ـ 1996أصدر شعب اسرائيل حكمه بانه ليس هناك سلام”.
لا شك في ان نتنياهو لم يكن مجبرا على المجاهرة بهذه الجمل الواضحة والصريحة، بل قالها بكل أريحية، ولم يكن محشورا كما يظن بعض الفلسطينيين. وارادها رسالة نعي صريحة لعملية السلام على مسارها الفلسطيني. ورسالته منسجمة مع مواقفه المعلنة، قبل وبعد لقاءاته الاخيرة مع اركان البيت الابيض آل غور والبرايت وروس، الرافضة للمقترحات الامريكية ولمجمل التحركات الدولية الحريصة على انقاذ عملية السلام. وهي منسجمة أكثر مع افعاله وممارساته العملية الجارية على ارض الضفة والقطاع منذ توليه السلطة وحتى الان. وهي في كل الاحوال ترجمة صادقة وامينة لقناعاته الراسخة وللتوجهات الاستراتيجية الاساسية للتكل الحزبي الذي يقوده، وليست كما يظن البعض مواقف تكتيكية تفاوضية طارئة يمكن زحزحته عنها، لانها لا علاقة لها باسس عملية السلام ومجراها او بالاتفاقات التي وقعها معها الفلسطينيون وشهد عليها الامريكان. ومهما تكن نوايا نتنياهو فالمصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض على المفاوض الفلسطيني التعامل مع اقواله كما هي دون تبسيط، وكما قصدها وكما يفهمها ويترجمها يوميا في علاقاته مع العرب والفلسطينيين. كما ويجب النظر الى تصريحاته المتكررة حول ضرورة احياء عملية السلام وحول الشروع في مفاوضات بشأن قضايا الحل النهائي باعتبارها تكتيك، هدفه المناورة والتغطية على الاستراتيجية الحقيقية وعلى جريمته التي ارتكبها بحق عملية السلام.
ويسجل لنتنياهو بانه نجح في انهاء مفعول عملية السلام التي عرفناها عند الحدود التي بلغتها حتى الآن. واذا كان من غير المتوقع ان يقدم بطريقة فجة على الغاء الاتفاقات التي تم التوصل لها، فالارجح ان يواصل التهرب من تنفيذ ما لم ينفذ منها، وان يتهرب حتى عام 2000 من السير في اي طريق يقود الى اتفاقات جديدة تنشر مزيد من اجواء السلام. وأظن ان انتظار العرب والفلسطينيين ما ستفعله ادارة كلينتون هدر للوقت ويلحق اضرار فادحة بحقوقهم. فالمفاوضات المتعددة الاطراف التي اسست لاسناد المفاوضات الثناية توقفت ونسيها اشد المهتمين بقضايا الشرق الاوسط ولا احد يفكر في احيائها. والمسارين السوري واللبناني مجمدين منذ أكثر من عامين ومن غير متوقع احياء اي منهما خلال عهد نتنياهو. واقتراحه بالانسحاب من جنوب لبنان واعادة ترتيب الوضع فيه هدفه اشعال نيران وليس تفعيل مسار سلام. ويسجل له انه نجح نسبيا في اشغال اوساط دولية وازنة في دراسة ومناقشة اقتراحه. اما الاتصالات والمشاورات التي تجريها الادارة الامريكية مع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي حول نسبة الانسحاب الاسرائيلي من اراضي الضفة الغربية فقد تتمخض “اذا نحجت” عن فترة هدوء مؤقتة في احسن الاحوال، لانها ستكون مقلصة واقل من النسبة التي تسرّع الفلسطينيون وقبلوا بها، وغير منسجمة مع الحقوق الفلسطينية الواردة في الاتفاقات ناهيك عن الطموحات. وهي بالتأكيد لن تعيد الثقة المفقودة بين عرفات ونتنياهو، ولن تكون كافية لتفعيل الحركة على المسار الفلسطيني الاسرائيلي. فبعد تنفيذ الانسحاب الثاني ياتي في آب كحد اقصى استحقاق الانسحاب الثالث، ويليه استحقاق انتهاء المرحلة الانتقالية الذي بات يدق على الابواب ولن يتأخر في فرض ذاته عن حزيران 1999. واذا كانت محاولات اقناع نتنياهو بالانسحاب من نسبة لا تتجاوز 1،13% شبه خالية من المستوطنات، قد اسغرقت اكثر من 16 شهرا ولم تنجح حتى الان فبالامكان تقدير الشهور التي سستستغرقها المفاوضات حول هذه القضايا الجوهرية شديدة التعقيد.
لا شك في ان الادارة الامريكية منزعجة من الحالة التي وصلتها عملية السلام ومنزعجة من مواقف نتنياهو التي بلغت حد تحديها واهانتها علنا. وتدرك أكثر من سواها طبيعة العقد والمشكلات الكبيرة التي ستواجهها مسيرة السلام بدء من صيف هذا العام وحتى منتصف العام القادم، لكنها ولاعتبارات متعددة داخلية وخارجية ما زالت مستعدة لتحمل تبعات سياسة حكومة الليكود المتطرفة وتتحاشى التصادم معها. وغير مستعدة للاعلان عن وفاة عملية السلام الجارية، وليس من مصلحتها الاعلان عن تجميد رعايتها لها وتحميل اسرائيل المسؤولية الكاملة عن ذلك. فهذا الخيار مكلف وله استحقاقات تفرض عليها اتخاذ مواقف غير مستعدة لاتخاذها. فهي من جهة لا تملك بديل متكامل، كالاعلان مثلا عن عملية امريكية جديدة بديلة للعملية الامريكية القديمة الجارية. وافساح المجال امام قوى دولية اخرى لتجرب حظها في رعاية العملية او المشاركة بصورة جدية في رعايتها يعني التخلي عن تفردها في رعاية عملية السلام وعن تقرير مستقبل الشرق الاوسط، ويلحق اضرارا معنوية ومادية بدورها فيه. ومن المشكوك فيه ان توافق ادارة كلينتون ـ آل غور على تبني مبادرة دولية بديلة كالمبادرة المصرية الفرنسية الداعية الى عقد مؤتمر دولي لانقاذ عملية السلام في الشرق الاوسط ليس بسبب تأثرها بمواقف اللوبي الصهيوني في الكونغرس وخارجه فحسب، بل لان هذا الاقتراح يمس دورها كقطب اوحد مقرر للسياسة الدولية وتوجهات الامم المتحدة .
اما بشأن تحميل ادارة كلينتون لاسرائيل المسؤولية عن فشل العملية وعن افشال الجهود الامريكية فالواضح ان الاوضاع داخل البيت الابيض ذاته ليست مؤهلة لذلك، ومواقف الاغلبية الساحقة في الكونغرس تقف بالمرصاد لكل من يحاول تعكير صفو العلاقة التاريخية الامريكية الاسرائيلية. ولعل موقف نيوت غينغرتش الجمهوري رئيس الكونغرس خلال زيارته لاسرائيل الشهر الماضي خير شاهد على ذلك. وافتراض بعض الفلسطينيين بان الخلاف الجاري بين الطرفين سوف يقود الى مواجهة بينهما على غرار ما حصل في عهد بوش وبيكر مع شامير ينطوي على رغبة ذاتية تسقط من حسابها الكثير من الوقائع. فهذه الادارة ومعها المعارضة مقتنعة بان المصالح الامريكية في الشرق الاوسط وبخاصة عند العرب ليست معرضة للخطر من اي جهة معارضة او حاكمة لا الان ولا في المستقبل القريب، وحالة مصالحها في الجزائر نموذج حي ماثل امام الجميع. وتاريخ العلاقة الامريكية الاسرائيلية يؤكد بانها محكومة بمصالح استراتيجية وبثوابت تاريخية راسخة وليس بقضايا سياسية متحركة حتى لو كانت كبيرة ومن حجم عملية السلام التي نتحدث عنها. وسنوات المفاوضات العربية الاسرائيلية وخاصة الاخيرة بينت انه بالرغم من انتهاء الحرب الباردة فان ادارة كلينتون غير مستعدة لبيع مصالح امريكا الاستراتيجية عند الاسرائيليين والتضحية بعلاقتها باسرائيل والتصادم مع حكومة نتنياهو من اجل مشروع علاقة جديدة مع بعض العرب والفلسطينيين. اومن اجل الالتزام ببضعة مبادىء عامة مجردة تتعلق بالعدل والحق وامانة الدفاع عن الاتفاقات التي شهدت عليها، او زيادة مساحة انسحاب اسرائيل بنسبة اثنين او اربعة في المئة من اراضي الضفة الغربية.
باختصار يمكن تلخيص الموقف الراهن للادارة الامريكية على النحو التالي: بقاء عملية السلام على حالها يزعجها لكنه محمول واقل ازعاجا من الازعاج الذي قد ينشا عن التصادم مع حكومة نتنياهو ومناصريها في أمريكا، او من اعلان فشل جهودها وافساح المجال امام قوى دولية اخرى لتشاركها او تحل محلها، في وقت بدأ العد العكسي لانتخابات الكونغرس وانتخابات الرئاسة الامريكية. وعلى العرب والفلسطنيين ان يبنوا حساباتهم على هذا الاساس.
وفي سياق تحديد الموقف الفلسطيني والعربي يمكن القول ان انتظار مواقف امريكية نوعية جديدة غير معروفة ومتناقضة مع المذكورة اعلاه ضياع للوقت. وحديث البعض عن وحدة الموقف الفلسطيني الامريكي في مواجهة مواقف حكومة نتنياهو احلال لرغبات ذاتية محل الوقائع الملموسة، وهروب من مواجهة الحقائق ودعوة لبناء اوهام على سراب. وهي غير صحيحة وضارة بالموقف الفلسطيني على كل المستويات، وتعبر عن حالة عجز في احسن الاحوال. ولا تساعد في تصحيح مسيرة الرعاية الامريكية لعملية السلام. واذا كانت المصالح الوطنية الفلسطينية والاستراتيجية العربية تقتضي عدم التصادم مع الادارة الامريكية في الظرف الراهن واعطاء التباين الامريكي الاسرائيلي مداه وتركه يتفاعل أكثر فاكثر، فمعارضة الموقف الامريكي لا يعني بالضرورة التصادم او الاشتباك معه. واذا كان للادارة الامريكية اسبابها الخاصة للخضوع لابتزاز نتنياهو وانصاره في الكونغرس الامريكي فلا شيء يضطرالعرب والفلسطينيين الى تقييد انفسهم بسياسة الانتظار وتقديم الخدمات المجانية لهذا الابتزاز وتسهيلة، او التغطية على خضوع كلينتون له. وقديما قالوا اذا كنت عاجزا عن رد الظلم افضحه ولا تغطيه. ويبقى التطبيل والتزمير للموقف الامريكي خدعة وتزييف وهروب من الاعتراف بالحقائق المرة..وكأن الفلسطينيين ينقصهم في هذه الفترة اوهام وصدمات وخربطة مواقف.