تعبئة شواغر وزارية ام اعادة تنظيم الاوضاع الفلسطينية؟
بقلم ممدوح نوفل في 18/06/1998
بعد طول انتظار وتهديد المجلس التشريعي بحجب الثقة عن الحكومة وافق رئيس السلطة الوطنية رسميا على اعادة تشكيل الوزارة الفلسطينية. وبات في حكم المؤكد ان ينجز الامر خلال الاسبوعين القادمين. وفي سياق معالجة الموضوع لعل من المفيد التذكير بان الوزارة الفلسطينية مستقيلة “نظريا” منذ شهور طويلة. والكل يتذكر الضجة التي احدثها تقرير الرقابة العامة حول الفساد، واساءة استخدام السلطة، والاداء السيء للوزارة. في حينه ناقش المجلس التشريعي تقرير الرقابة، واعد تقريره الخاص، وتبنى باغلبية ساحقة فكرة اقالة الوزارة ومحاسبة عدد من الوزراء. وساهم التقرير والاستنتاجات في تاجيج الصراع مع السلطة التنفيذية، وقدم غالبية الوزراء، احتجاجا على التقريرين، استقالاتهم بصورة جماعية لرئيس السلطة، الذي قبلها وأجل اعادة التشكيل. فهل عملية اعادة التشكيل او التغيير ضرورية في هذا الوقت بالذات؟ وهل هي خطوة تنظيمية مرتبطة بتطور اوضاع عملية السلام، ام تعبئة شواغر فرضها الله بوفاة وزيرين، واستقالة ثالث بسبب المرض، ورابع احتجاجا على الاوضاع في وزارته وخارجها؟ وهل موافقة رئيس السلطة الوطنية الآن على التعديل ترضية شكلية للمجلس التشريعي الذي هدد بسحب ثقتة بالوزارة، وحدد موعدا لعقد جلسة خاصة بالموضوع ؟ وهل اعادة التشكيل ينهي الخلاف القائم منذ مدة طويلة بين المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية ام انه سيؤججه اكثر؟ اسئلة كثيرة تدور هذه الايام في اوساط القوى الوطنية والمثقفين الفلسطينين، وخلف الكواليس يجري صراع بين المستوزرين من كل الاتجاهات وهم كثرو. اما الناس العاديين فغالبيتهم العظمى تواجه الامر بشيء من عدم الاكتراث بعدما فقدوا الثقة بدور السلطة وبامكانية التصحيح والاصلاح. ويعتبرون ما يجري في القمة صراع مبطن على كراسي السلطة وعلى الصلاحيات وليس اكثر. وفي الحكومة الاسرائيلية يراقبون ما يجري ويعتبرونه مناورة “عرفاتية” هدفها ابتزازهم وابتزاز الادارة الامريكية، وينتظر نتنياهو، وفقا للاتفاقات الموقعة بين الطرفين، اسماء الوزراء قبل اعلانها ليقول رايه ويستخلص ما يريد من مؤشرات سياسية وامنية ليعيد النظر في جوانب كثيرة من العلاقات.
بصرف النظر عن دوافع واهداف الداعين الى اعادة تشكيل الوزارة الفلسطينية والتي لا تخلو من دوافع ذاتية عند البعض، فالتمعن في الاوضاع الفلسطينية الداخلية، وبعلاقة السلطة بشعبها في الداخل والخارج، وبالظروف الاقليمية والدولية المحيطة باوضاعها، وبحالة عملية السلام وآفاق العلاقة مع الاسرائيليين..الخ يؤكد بان قرار اجراء التعديل او التغيير في هذا الوقت بالذات صائب وضروري ويأتي في الوقت المناسب. ويجب ان يكون اوسع من تعديل، وخطوة جدية نحو التغيير النوعي المطلوب. فعموم فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية الحاكمة والمعارضة تعاني عزلة جماهيرية مميتة داخل الوطن وخارجه، واستطلاعات مراكز الابحاث الموثوقة تؤكد ان قرابة 35% من ابناء الضفة والقطاع لا يثقون باي من هذه الفصائل والاحزاب. والسلطة الوطنية تقف على اعتاب مرحلة انتقالية جديدة قاسية جدا من العلاقة مع الاسرائيليين قد تمتد حتى عام 2000م، عناوينها الرئيسية: استمرار تجميد عملية السلام “عمليا” على مسارها الفلسطيني. وتزايد الضغوط الاسرائيلية والامريكية على السلطة الفلسطينية. ومحاولة التلاعب الخارجي والتدخل في الشؤون الفلسطينية الداخلية بادوات وقوى محلية. وتصاعد حدة التوتر السياسي مع حكومة الليكود، وترهل دور الراعي الامريكي، واستمرار التقاعس العربي عن مؤازرة الموقف الفلسطيني في مواجهة سياسية الليكود الرافضة للسلام، والممتنعة عن تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، والماضية قدما في مصادرة الارض، وتوسيع الاستيطان، وتهويد ما تبقى من معالم عروبة مدينة القدس
لا شك في ان قدر الفلسطينيين في هذه المرحلة الانتقالية مواجهة الوضع الراهن والتطورات المحتملة بالاعتماد اولا وقبل اي شيء آخر، على طاقاتهم الذاتية داخل الوطن وخارجه، وعدم انتظار مواقف نوعية داعمة عربية او اسلامية او دولية وامريكية. والمصلحة الوطنية تفرض على القيادة القفز عن الصغائر وتجاوز الحساسيات، والاندفاع بعملية التعديل الوزاري نحو التغيير النوعي المطلوب القادر على النهوض بالاعباء الكبيرة المرئية، ومواجهة القادم الاصعب والاكبر. ولا نذيع سرا اذا قلنا بان هناك تيارا من المنتفعين والمستوزرين داخل الوزارة واجهزة السلطة والفصائل المشاركة فيها، يحاول اجهاظ عملية التغيير المطلوبة. ويسعى لتجريد الموضوع من ابعاده الوطنية السياسية والتنظيمية. ويعمل على حرف النقاش حول الوزارة واظهاره وكأنه صراع على السلطة والنفوذ بين المجلس التشريعي ورئيس السلطة الوطنية. ويصورة وكأنه معركة كسرعظم بين الطرفين. والنتيجة التي يريد ان يصلها اصحاب هذا الخط هي مقاومة التجديد والاصلاح والحفاظ على مواقعهم الذاتية، وحصر الموضوع في املاء الشوارغ وليس اكثر، ولا مانع لديهم من رشوة اعضاء المجلس التشريعي بوزارة خاصة بشؤونه.
ومن المؤسف وطنيا ان الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه لم يسمعوا حتى الآن اصوات الفصائل والاحزاب والقوى الديمقراطية حول سبل تصحيح العلاقة بين السلطة والمنظمة، وحول اثر التشكيل الوزاري الحالي في شل دور منظمة التحرير ككمثل شرعي ووحيد لكل الشعب الفلسطيني. بل ان بعض القوى المشاركة في السلطة تنادي نظريا بالتصحيح والتغيير وتحاول عمليا ابقاء الوضع على ما هو علية حفاظا على مكاسب حزبية وشخصية صغيرة. اما الفصائل والقوى المعارضة للسلطة فالواضح انها مرتبكة تماما، ولم تتخلص حتى الان من أمراضها الفكرية والتنظيمية، وخاضعة لكابوس اوسلو وغير قادرة على تجاوز عقدتها من المفاوضات. ومصرة على عدم التعلم من اخطائها، وبخاصة موقفها السلبي من الانتخابات التشريعية ومن دور المجلس التشريعي. اعتقد بان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على الوطنيين والديمقراطيين الفلسطينيين فصائلين ومستقلين، داخل السلطة وخارجها، الدفع باتجاه ان يكون التعديل مدخلا لمزيد من الديمقراطة في الحياة السياسية الفلسطينية، وتصحيح الاخطاء وردم الثغرات ومكافحة الترهل والفساد، وتوحيد قوى الشعب وتعبئة طاقاته للنهوض بمهام المرحلة وان يحقق :
اولا / احياء وتفعيل دور منظمة التحرير، باعتبارها الممثل لكل الشعب الفلسطيني، والاطار الوطني الواسع القادر على استنهاض واستيعاب كل طاقاته وتفعيلها. فضمنها فقط يمكن صيانة الوحدة الوطنية وتمتينها بين مختلف القوى والتيارات والاتجاهات الوطنية في الداخل والخارج. والتجربة العملية بينت ان الدمج في العضوية بين اللجنة التنفيذية ومجلس الوزراء اضعف دور منظمة التحرير وشل دور قيادتها اليومية وعطل الى حد كبير عمل مؤسساتها، ولم يقوي دور السلطة ولم يفعّل عمل الحكومة ولم يحسن ادائها. اما تعطيل اجتماعات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والاستعاضة عنها بالاجتماع الاسبوعي الموسع جدا “للقيادة” والذي يضم الوزارة واللجنة التنفيذية ولجنة المفاوضات فقد خلق انطباعا وكان هناك من يريد التخلص من المنظمة قبل استكمال مهام التحرر الوطني، وقبل اتضاح آفاق عملية السلام الجارية، وقبل التوصل الى حلول واقعية لقضايا اللاجئين والارض. اعتقد بان الحفاظ على وجود ودور م ت ف ضرورة وطنية لاسيما وان عملية السلام متعثرة وستبقى على حالها لاشعار آخر. وليس بمقدور السلطة وطنية وحكومتها تمثيل كل الشعب ومعالجة همومه اليومية. فهي في الواقع وحسب الاتفاقات، سلطة لنصف الشعب المقيم في الضفة والقطاع. وتفعيل دور اللجنة التنفيذية كقيادة يومية لكل الشعب الفلسطيني وكمرجعية للحكومة، وللجنة المفاوضات، يتطلب عقد اجتماعاتها بصورة دورية منتظمة، وتفرغ اعضائها لمهامهم اليومية الواسعة. واذا كان حق المعارضة رفض المشاركة في الوزارة فالواجب الوطني يفرض عليهم الالتزام بقضايا الشعب والوطن في اطار منظمة التحرير. وإذا جردنا مطلب إحياء دور المنظمة من بعض الشروط السياسية المسبقة وغيرالواقعية التي تضعها المعارضة الفلسطينية المنتمية للمنظمة مثل إلغاء اتفاق اوسلو والانسحاب من كل عملية السلام، يصبح هذا المطلب بمثابة القاسم المشترك بين كل القوى والفصائل الفلسطينية، باستثناء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي لها رؤياها الخاصة في موضوع منظمة التحرير. حيث لا تقر حتى الآن بأن م ت ف هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتطرح نفسها بديل لها.
ثانيا / احداث تغير جوهري في تركيبة الهيئات القيادية الوطنية، وفي آلية علاقاتها بعضها ببعض وفي نظام مراقبتها ومحاسبتها. وان لا يكون التعديل شكلي او املاء شواغر فرضها الله. واعتقد بان استحداث منصب وزير أول يتراس اجتماعات مجلس الوزراء ويكون مسؤولا أمام رئيس السلطة الوطنية، رئيس اللجنة التنفيذية، يسهم في انهاء التداخل القائم في مهام الوزارة ومهام اللجنة التنفيذية، ويساعد على تشغيل المنظمة والحكومة كل في مهامه بشكل أفضل. ويخفف من الاعباء الكثيرة والكبيرة التي يتحملها رئيس السلطة الوطنية رئيس اللجنة التنفيذية. ولا نظلم أحدا إذا قلنا أن الحكومة الحالية مبنية على ذات الأسس التي يقوم عليها بنيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. فالتدقيق في أسماء وانتماءات أعضاء السلطة يبن طغيان الفصائلية والاعتبارات الحزبية والسياسة على أسس تشكيلها، وتكاد تكون من لون سياسي واحد، واقرب إلى سلطة الحزب الواحد. مليئة بالسياسيين وناقصة أخصائيين وخبراء في شتى مجالات العمل المنوطة بها. ويمكن القول أن صيغة التشكيل ساهمت مع عوامل الأخرى في زرع بذور بعض الاشكالات التي شهدتها العلاقة بين السلطة ومنظمة التحرير.
ثالثا/ تدعيم استقرار السلطة الوطنية، واعادة بناء الحكومة على اسس جديدة وعمل ما يلزم من اجل تحسين صورتها الداخلية والخارجية، وتعزيز مصداقيتها في صفوف الشعب في الضفة والقطاع، وتطوير الاداء الفردي والجماعي للوزراء، وبناء وتكوين الادارة الحديثه. وهذا يتطلب الاقدام على عدد من الخطوات الوطنية الجريئة العاجلة حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض الوزراء. وضمنها ابعاد من اتهم بالفساد وبالترهل، واستغلال الموقع، حتى لو تم الحاق الظلم ببعض الافراد. وادخال دماء جديدة كفؤة ومتخصصة ولها مصداقية وسمعة نضالية في صفوف الناس، واحالة المترهلين والمستحقين من كبار السن للتقاعد. واذا كان لابد من مراعاة التمثيل السياسي في تشكيلة الحكومة الجديدة فمن الضروري مراعاة دور ووزن وفعالية القوى في الشارع. وعدم الجمع في كل الاحوال بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية الحكومة. ولا بد من فرض ذوي الكفاءة والاختصاص والسمعة النضالية الحسنة في اطار هذا التمثيل ومن خارجه. والواضح ان ابعاد الكفاءات الوطنية المستقلة عن المشاركة في تحمل اعباء معركة البناء لا يخدم المصلحة الوطنية ولا يساعد على توسيع قاعدة السلطة.
رابعا / اعادة احياء اللجنة العليا لادارة شؤون المفاوضات كمؤسسة وتدعيمها بالكفاءات الملتزمة، وربطها باللجنة التنفيذية للمنظمة باعتبارها المرجعية الاولى للسلطة وللجنة المفاوضات. لاسيما وان قضايا المفاوضات القادمة وجوهرها اللاجئين والارض، تقع ضمن نطاق مهامها. والتجربة أكدت ضرورة احداث تغيير في آلية العمل. وبينت ان جمع البعض بين مهمة وزير ومفاوض، ودمج الاجتماعات، وطرح قضايا المفاوضات العامة والتفصيلة على اجتماع القيادة وفي اطار مجلس الوزراء الموسع، وغياب لجان التفاوض المتخصصة..الخ تم على حساب التخطيط الدقيق للمفاوضات، وعلى حساب تطوير عمل عدد من الوزارات.
موضوعيا يمكن القول بان اوضاع السلطة الفلسطينية بحاجة الى نفضة تنظيمية وادارية شاملة وحملة تطهير مدروسة، وان اوضاع المعارضة بكل تلاوينها بحاجة الى انتفاضة فكرية وتنظيمية تعزز الديمقراطية داخلها، وتردم الهوة التي تفصلها عن الناس. فهل نضجت الاوضاع لتحقيق هذه التوجهات؟ سؤال مطروح على الجميع، والايام القادمة سوف تعطينا الجواب. والمهم ان يقود التعديل الى توسيع القاعدة الشعبية للسلطة، وتوحيد الطاقات الوطنية.