ذكريات شخصية عن النكبة
بقلم ممدوح نوفل في 01/08/1998
بعد خمسين عاما من قيام دولة اسرائيل اعترف المؤرخون الاسرائيليون “الجدد” بان الدولة العبرية لم تقم على “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”، بل قامت على حساب وجود ومصير شعب فلسطين. واعترفوا بان كفاح الحركة الصهيونية العالمية من اجل انقاذ يهود اوروبا من مذابح النازيين، و”حرب الاستقلال” التي خاضتها على ارض فلسطين، كانت حربا مدمرة ضد مجتمع آخر متكامل. ارتكبت خلالها مجازر ضد الفلسطينيين، وتم اقتلاعهم وتشريد، وبددت هويتهم الوطنية. وكأن الفلسطينيين هم الذين ارتكبوا المجازر بحق اليهود في اوروبا وساقوهم الى معسكرات الاعتقال الجماعي وأوقدوا لهم المحارق.
والواضح ان رواية مآسي “النكبة” وتأثيرها على حياة الفلسطينيين ليس بالامر الهين، ولعل تحديد نقطة البداية وتاريخها هو الاصعب. فهل بدات “نكبة” الفلسطينيين في 15 أيار 1948 حين حققت الحركة الصهيونية العالمية حلمها التاريخي واعلنت قيام اسرائيل كدولة يهودية في “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل” ؟ أم انها بدأت بالوعد الذي قطعه وزير الخارجية البريطانية “بيلفور” في 2 تشرين الثاني 1917 لللورد روتشيلد باقامة دولة يهودية على أرض فلسطين ؟ أم في 29 تشرين الثاني 1947 عندما أقرت الجمعية العامة للامم المتحدة باغلبية ثلثي الاصوات تقسيم فلسطين الى دولتين يهودية وعربية ام بالهزيمة المرة التي لحقت عام 1948 بالحركة الوطنية الفلسطينية ومعها الجيوش العربية التي زحفت عام 1948 لنجدة الفلسطينيين ولانقاذهم من المجازر وتحرير أرضهم من الصهاينة.
ربما ليس مهما الآن بعد خمسين عام ترجيح تاريخ محدد او حادث او قرار على سواه للبدء في تأريخ “نكبة” الفلسطينيين، الا ان الاحداث الرهيبة التي تعرضوا لها في الفترة الواقعة ما بين تشرين 1947 وايار 1948 كانت حاسمة في تحديد مستقبلهم وتقرير مصير ارضهم وهويتهم وتوجهاتهم، وبدء مرحلة جديد مؤلمة وقاتمة من تاريخهم. من الطبيعي ان يكون الخيال الخيال الفردي والجماعي الفلسطيني قد اسهم في نسج وتضخيم بعض صورها المأساوية. خاصة اذا كان الراوي من مواليد عام 1944، وابن بلدة “قلقيلية” تبعد عن مياه البحر الابيض المتوسط 14 كلم فقط. شاءت “الاقدار” لها ان “تنتكب” وكان نصيبها من ظلم العالم، ممثلا بهيئة الامم المتحدة، للفلسطينيين مدمرا، ومن القهر والهزيمة التي الحقتها قوات الحركة الصهيونية الصهيونية بالجيوش العربية مأساويا. فقرار التقسيم عام 1947، والتوسع الاسرائيلي اللاحق في منطقة المثلث عام 1948، واتفاقات رودس عام 1949 جردت بلدتي “قلقيلية” أكثر من 90% من مساحة أراضيها السهلية مصدر رزقها الرئيسي ولم تحتل. وتحولت الى محطة اساسية لاستقبال اللاجئين من ابناء كفرسابا، عرب ابو كشك، مسكة، بيارعدس، الشيخ مونس، الطيرة. وبقيت حتى حرب حزيران عام 1967، بلدة حدودية ضمن المناطق العربية التي سميت لاحقا بالضفة الغربية للاردن. فصلها عن اسرائيل خط سكة الحديد الواصل بين تركيا وسوريا وفلسطين ومصر. واصبحت اراضيها الواقعة غرب السكة، المتداخلة مع اراضي كفار سابا وجلجولية وراس العين والطيرة ورعنانا ورمات غان، محتلة وصارت جزءا من أرض دولة اسرائيل.
واعترف بان ذاكرتي لا تستطيع اليوم وبعد مرور خمسين عاما على “النكبة” الفصل بين ذكرياتي الشخصية والذاكرة الجماعية لاهل البلدة. ففي ذاكرتي يتداخل ما هو شخصي مع ذكريات الاهل والاقارب والجيران والاصدقاء ورفاق مدرستي الابتدائية عن المآسي والكوارث التي لحقت بالبلدة، وعن الحنين الجماعي لبياراتها وسهولها، والمعارك الدفاعية المتنوعة التي خاضها أهل بلدتي، وابناء القرى المجاورة لها، في مواجهة هجمات التشكيلات العسكرية اليهودية واهمها معارك : الطيرة، بيارعدس، قلمانيا، كفار سابا، رامات هاكوفيش، وعين ورد، وفلامية، ومعارك البيارات وبخاصة بيارة الداعور. واحفظ صورا لصمودهم في اطار الجهاد المقدس والفتوة والنجادة وجيش الانقاذ مع القوات العراقية التي كانت ترابط حولها. وكيف شرع شباب البلدة في تنظيم الحراسات الليلة والنهارية في محيطها.
وتختزن ذاكرتي عن تلك الفترة، عجز الجيوش العربية عن وقف المجازر ضد الفلسطينين، وفشلها في حماية المدن والقرى والبلدات المجاورة والقريبة من بلدتنا. مما دفع بمعظم اطفالها وشيوخها ونسائها الى الهرب نحوها وهم يحملون ما خف حمله وغلى ثمنه، على أمل العودة بعد فترة وجيزة الى بيوتهم واراضيهم. واتذكر الان كيف اضطربت اوضاع اهل البلدة مثلها مثل كل القرى والبلدات والمدن الفلسطينية المنكوبة. فمسجدها الوحيد الملاصق لبيتنا ومدرسة البنات ومدرسة الذكور تحولت الىملاجئ للمهاجرين الهاربين من المعارك ومن المجازر. حقا لقد قلبت النكبة اوضاع وحياة رجال ونساء واطفال بلدتنا راسا على عقب. وكان نصيبها من اللاجئين كبيرا فاق طاقتها على استيعابهم في بيوتها. فقد حل فيها مايزيد على نصف عدد سكانها البالغ عددهم في حينه 7000 نسمة. بعضهم استقر وما زال يعيش فيها للان، والبعض الآخر مر بها ورحل عنها بسبب قلة الرزق وشحة موارد المياه فيها، وتابع طريقه نحو المدن الداخلية الاخرى وباتجاه دول الشتات. فأهل البلدة كانوا يعتمدون بالاساس على ما كانوا يجنونه من بياراتهم ومن زراعة ارضهم الواقعة غرب سكة الحديد، ومن تربية المواشي، ومن التجارة مع الطيرة والطيبة ويافا وتل ابيب واللد والرملة. لكن الهزيمة افقدتها كل هذه الموارد، وأصبحت حالة اهلها متساوية في الفقر الشديد الى حد كبير مع حالة اللاجئين الذين وفدوا اليها. وظهر جوع حقيقي في بيوتها وفي صفوف اللاجئين. ولولا كميات التمر الكبيرة التي قدمتها الحكومة العراقية لهلك قسم من السكان.
واذا كان فوج القوات العراقية الذي وصل اليها بقيادة سعيد القرشي لم يفعل الكثير في الدفاع عن اراضيها، فالتمر العراقي الذي قدمه بكميات كبيرة للبلدة ساهم في انقاذ فقرائها، مهاجرين وانصار، من موت شبه محتم. وأتاح لصغارها فرصا للعمل. فقد اشتغل اولاد البلدة في جمع بزور”عجم” التمر وبيعها للافران، وكنت واحدا من اطفالها الذين باعو “قفة” التمر بقرش واحد فقط. وممن اشتغلوا في جمع الحطب واغصان الاشجار وجذور الخضروات الجافة للطبخ على نيرانها. واهتموا بتربية الدجاج والارانب كمورد رزق للاسرة، وجمعوا الحشائش والاعشاب البرية الخضراء لاطعام الارانب والاغنام التي كثرت تربيتها في البيوت. ويسجل لهيئة لامم المتحدة.. بانها راعت الموقع الحساس لبلدتنا، واقامت فيها عام 1950 مستشفى في مبنى كان الجيش العراقي يستخدمه كمركز اسعاف. وفتحت مدارس لتعليم ابناء اللاجئين، ما زالت قائمة للان. واخذت بعين الاعتبار الحالة البائسة لاهل بلدتنا بعد تشكيل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين عام 1950، وصرفت لهم بطاقات اعاشة “كروت مؤن” ومساعدات تموينية طارئة وثابتة تختلف عن بطاقات اللاجئين الاصليين الحقيقيين لجهة انواع وكميات التموين المصروفة. فحصة المواطن من اهل البلدة كانت تساوي نصف حصة اللاجئ الاصيل. وحصلت عائلتي على “كرت مؤنة لاجئ” اسوة بالسكان الآخرين حمل رقم 58610405. وكانت تلك المساعدات الدولية المورد الرئيسي لرزق الناس وتموينهم. ولن انسى زحمة طوابير استلام الاطفال حليب الصباح، والمشاجرات التي كانت تقع في طوابير استلام التموين يوم توزيعه على السكان.
وبعد قيام دولة اسرائيل ورحيل الجيوش العربية عنها، أدرك بعض اهل قلقيلية ان القصة ستطول، وتضامنوا مع بعضهم في توفير الممكن من فرص العمل. ولم يبق بابا للرزق الا وطرقوه. وفكر بعضهم في الهجرة، وعقد شبابها المتعلم العزم على السفر للخارج. وسافر من استطاع ودخل البعض دول الخليج بطرق غير شرعية، ومات عدد منهم داخل “خزانات” صهاريج الوقود. واشتغل بعض شبابها في “الحرس الوطني” الذي تم تشكيله بهدف حماية البلدة، وكانت وظيفتهم الاساسية المرابطة ليل نهار في خنادق حفرت في محيط البلدة لحراسة حدود الدولة الجديدة “اسرائيل”. وكنا نحن الاطفال نمضي وقتا طويلا في التجول بين المواقع الموجودة في اطراف الحارات. وكان بعض رجال الحرس يشغّلنا في احضار حاجة ضرورية من بيته، او شراء مواد ناقصة، خاصة السجاير وعلب الكبريت. ومع تحول محيط بلدتنا الى حدود، رحنا نحن الاطفال نتبارى في تجاوزها والتسلل بين البيارات القديمة، وفي الوصول الى سكة الحديد، ووضع الحجارة او سكب زيوت السيارات وزيت مضخات آبار المياه عليها، على أمل انزلاق قطار اليهود الذي ظل يتحرك على السكة يوميا بانتظام وظل يطلق صفاراته المزعجة في كل مرة يصل فيها مواجهة بلدتنا. واشتغل آخرون من رجال البلدة في بيع بطاقات التموين لجهات دولية. وبادر عدد منهم الى استصلاح ما تبقى لهم من ارض جبلية. فقلعوا الصخور وردموا ارضها بالتراب وزرعوا ما كسبوا من مساحات بمختلف انواع الخضروات. وشرعوا في حفر العديد من الآبار الارتوازية بطرق يدوية بدائية، سنحت لنا نحن الاطفال التسكع حولها ساعات طويلة. وباع كثيرون حلي نسائهم وساهموا في مشاريع حفر الآبار. واشتروا المولدات والمضخات والانابيب لري البساتين. وشكلوا ما يشبه الجمعيات التعاونية الزراعية الصغيرة بعضها مازال قائما حتى الآن.
وعلى مدى سنوات طويلة ظل أهل “قلقيلية” ومن لجأوا اليها يحلمون بالعودة الى اراضيهم ومدنهم وقراهم. وكان حلمهم في السنين الاولى مليئا بالكوابيس المؤرقة عن مطاردة اليهود لهم وفقدانهم ارضهم وهويتهم. وحول تآمر الدول العربية عليهم، وتواطئ العالم ضدهم وظلمه لهم. وظل القدر يحوّل ما يروه في مناماتهم الى حقائق وعذابات ملموسة، قال عنها رجال الدين في البلدة هذا امتحان من الله، “والله يحب ان يمتحن عباده الصالحين”، وعزاها بعضهم الى غضب الله على الفلسطينيين لانهم ابتعدوا عن دينه. ومع الايام والسنين تحولت النكبة الى ذكرى ظل اهل قليقيلية لعدة سنين يحتفلون بها بتعطيل الدراسة في المدارس وتسيير المظاهرات في شوارع البلدة وبالقرب من الحدود مع اسرائيل. وكنا نحن الاطفال نجوب الشوارع فرحين بيوم العطلة نسير في مجموعات، وكنا نرفع الاعلام ويافطات تندد بالتقسيم وتطالب بعودة اللاجئين الى بيوتهم وكان بعضنا يهتف خلف الكبار “تسقط بريطانيا واسرائيل”، “وسيف الدين الحاج أمين”.
ومع ازدياد عذاب وآلام اهل البلدة كان الفقراء منهم يكثرون من التوسل لله ويلجأون للدين اكثر فأكثر، والتحق بعضهم بحزب التحرير الاسلامي. وكانت قلة قليلة تشكك بوجود الله وتكفر بدينه، لانه تخلى عنهم ولم يدافع عن مقدساته في أرض فلسطين المباركة، لكنهم رفضوا الالتحاق بالحزب الشيوعي لان الاتحاد السوفيتي اعترف بدولة اسرائيل. في حينه انضم والدي غير المتعلم عمليا لتيار الملحدين المستقلين، والتحقت والدتي الامية دون دعوة بتيارالمتدينين. وراحت تحثني واخي الاكبر على الصلاة والصيام والاكثار من قراءة القرآن الكريم وحفظ آياته، ونجحت بسرعة في ضمنا لتيارها المؤمن. والتزمت بتوجيهاتها، وانضبطت لاداء الصلوات الخمس في اوقاتها في المسجد الملاصق لبيتنا. وحفظت بسرعة “آية الكرسي” لانها كما تقول امي تقي حافظها من الشياطين وتحميهم من اعتداءات الاسرائيليين.. وبقيت لسنوات طويلة أتسابق مع امام البلدة في الوصول الى المسجد بعد رفع المؤذن آذان الفجر. وكثيرا ما سبقته وكنت اصطف خلفه مباشرة في اول صف للمصلين. ونلت رضا أحد الاقارب من المؤمنيين الميسورين. ولم يبخل عليّ، فكثيرا ما كافأني بقطعة حلوى، وتحولت مكافآته لاحقا الى أقلام وكتب ودفاتر مدرسية، خاصة في الفترات المتعددة التي امضاها والدي في السجون الاردنية بسبب “التسلل” الى ارض البلدة في اسرائيل لجني ما أمكن من محصولاتها ومن ثمار بيارتها، و”سرقة” ما امكن سرقته من موجودات وممتلكات المستعمرات القريبة من بلدتنا.
فخلال السنوات الاولى من قيام دولة اسرائيل 1948ـ 1956 لم يسلم كل سكان بلدتنا رجالا ونساء مؤمنيين وملحدين مواطنيين ولاجئين بنتائج الهزيمة. وظلوا يترقبون قرارات الامم المتحدة. واحتفظوا باسلحتهم النارية وكان والدي واحدا منهم. وحاول من لم يكن يملك سلاحا امتلاكه. واخفوها عن عيون رجال المباحث والشرطة الذين وصلوا لاحقا للبلدة كممثلين للحكومة “الاردنية” وركزوا عملهم على البحث عن السلاح وجمعه. ولم يقتنع اهل بلدتي بان ثمار بياراتهم وارضهم الواقعة امام نظرهم لم تعد ملكا لهم. وبعد ثورة الضباط الاحرار في مصر عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر انتعشت آمالهم بالعودة، وظهر في البلدة تيار ناصري قوي استوعب الكثير من شباب البلدة، لاحقا كنت واحدا منهم . وقام الكثير من رجالها باعمال خطرة متنوعة داخل اسرائيل. وامتهن بعضهم العمل العسكري ضد المحتلين. واقاموا علاقات رسمية وعملية مع رجال الاستخبارات المصرية. واشتهرت اسماء ودخل السجون الاردنية كثيرون. وامتهن آخرون مهنة التسلل لداخل “اسرائيل”. وقتل كثيرون من ابناء البلدة، كان بينهم اقارب وآباء اصدقاء، وهم ذاهبون “لسرقة” بقرة او حصان او بعض الملابس ومواسير المياه، ونهب كل ما كانت تطاله ايديهم داخل المستعمرات ومن قلب بيوتها. كانوا يبيعونها “باعتبارها مسروقة” بابخس الاثمان، بالكاد كانت تساوي ثمن كمية طحين تكفي لسد جوع الاطفال بضع ايام او اسابيع. وطبعا لم تكن مهمة التسلل الليلي الى اسرائيل سهلة على الاطلاق ولم تكن دائما موفقة وناجحة. فهي ممنوعة من السلطة الاردنية ويعاقب عليها القانون بالسجن، ويزداد عدد ايام الحبس وشهورها اذا كان المتسلل يملك السلاح وكانت العقوبة تصل الى بضع سنين اذا تم استخدامه. وكثيرا ما فاقت البلدة على اصوات اشتباكات مسلحة بين ابنائها المتسللين مع كمائن القوات الاسرائيلية وحرس المستعمرات. كانت البلدة في مثل تلك الليالي تصحو بكاملها من نومها لاستطلاع الحدث، والتضامن مع من حلت به الكارثة، والبقاء على اهبة الاستعداد للتحرك باتجاه المسجد او البيوت الطينية القديمة القوية لحماية الذات من رد فعل الاسرائيليين وقصفهم البلدة بالقذائف. فاهلها كانوا وما زالوا يؤمنون “بان لبيوت الله رب يحميها”. ويؤمنون بان الله قادرعلى منع قذائف المدفعية والطائرت من اصابة بيوت العبادة اذا أراد. وكان الجميع رجالا ونساء يرددون في تلك الليالي داخل بيوتهم وعلى ابوابها “الله يستر، ويا رب يا رحيم اعم عيون الاسرائيليين وارحم الشباب ونجيهم”. وكثيرا ما كان والدي احد الذين بحاجة ماسة لهذا الدعاء.
وكان سقوط شهيد او جريح او تأخر احد المتسليين يعرفه فورا ابناء البلدة عبر اصوات البكاء والعويل كانت تطلقه النساء والاطفال وكان يتردد في سماء البلدة بتواصل ودون انقطاع. وعند سماعه كان الجميع يقف على باب الدار، وكان الرجال يتوجهون فورا باتجاهه. وكنا نحن الاطفال نستيقظ قلقين مضطربين نتمسك باطراف ثياب امهاتنا اذا تعرضت البلدة للقصف ونخرج للازقة عند توقفه. كنا نسير في الازقة بين الرجال، وكان قلقنا يهدأ قليلا ونحن نستمع لاقوالهم ونسرق الاخبار منهم ونعود بها لامهاتنا ونحن خائفين مضطربين. كانت البلدة تعيش حالة حزن حقيقي مع وبعد كل حالة استشهاد. وكان اهلها يحرصون على اظهار التضامن مع اسرة الشهيد بالسير في الجنازة بعد الصلاة على جثمان الشهيد، والتردد على مجالس العزاء مدة ثلاثة ايام متواصلة لاخذ خاطر اهل الشهيد واقاربه. وكان هذا النمط من الحياة يوفر لنا نحن الاطفال فرصة سماع قصص عن التسلل للمستعمرات والاشتباكات مع اليهود. وعن الشجاعة والجبن، وعن الحياة والموت، والجنة والنار، ومقام الشهداء عند الله، وعن سلوك الاجهزة الاردنية. كانت كلها روايات مشوقة ومخيفة، واقرب الى الروايات البوليسية. وكان لها مفعولها في ذاكرتنا وكان خيالنا يفعل فعله فيها ايضا.
حقا لقد ازعج المجاهدون والمتسللون من اهل بلدتنا على مدى اكثر من خمس سنوات سكان المستعمرات المجاورة، وبثوا الخوف والقلق والرعب في نفوسهم. في حينه لم تستسلم الحكومة الاسرائيلية امام مواقف وسلوك اهل البلدة العدواني و”التخريبي”. فرفعت من وتيرة ضغطها على الحكومة الاردنية لتتحمل مسؤولياتها في حماية الحدود. وقدمت شكاوي كثيرة للجان الهدنة والرقابة الدولية المنشرة على الحدود بين الطرفين. ولم تتورع عن توجيه نيران مدافعها وشاشاتها الثقلة ضد منازل البلدة وضد مراكز الشرطة والجيش. ولاحقا راحت تتصيد ابناءها عند اقترابهم من الحدود. وقتل قناصتها عددا من الشباب والنساء والاطفال كان بينهم اقارب وزملاء في المدرسة. واتبعت القوات الاسرائيلية بعدها نهجا هجوميا وراحت تطارد المتسللين حتى اطراف البلدة. وقامت خلال سنوات 1950 و 1951و 1952 بغارات كثيرة على بعض بيوتها وآبارها. وقال ديان عام 1953 سأحرث قلقيلية حرثا. وفي عام 1967 تذّكر ديان مقولته ومكنه انتصاره من ترجمتها. فهجّر اهلها، وشغّل الجرافات في حرثها ومحوها من الخارطة كما فعل بقرى ابو غوش ويالو وعمواس. وأبقي سكانها مشردين ولم يسمح لهم بالعودة اليها الا بعد فترة شهر، وبعد تدخل امريكي مباشر بناء على طلب عدد من الشخصيات الفلسطينية. وبعد ان قرر هو وحكومته ابتلاع قلقيلية وكل الضفة الغربية.
ومع ارتفاع وتيرة الضغوط الاسرائيلية على الحكومة الاردنية شدد رجال المباحث والشرطة والجيش الاردني الخناق على المتسللين. ورفعت المحاكم من مستوى الاحكام بحق كل من كان يلق القبض علية متسللا. وزجوا بالمشهورين منهم في السجون لفترات طويلة دون ذنب، كان والدي واحدا منهم. ولم توفر لعائلاتهم مصدر رزق بديل. عاشت اسرتي في حينه على المبالغ البسيطة التي كان يدفعها لنا المتسللون بدل استخدامهم رشاش والدي.
ورغم الاجراءات الاردنية والاسرائيلية ظلت المناوشات الواسعة بين اهل البلدة وسكان المستعمرات والقوات الاسرائيلية متواصلة حتى عام 1956. واقتنعت القيادة الاسرائيلية بان الهجمات المحدودة التي كانت تقوم بها قوات جيش الدفاع الاسرائيلي ضد البلدة غير كافية لردع اهل قلقيلية. فقررت القيام بعملية تاديبية واسعة ضدها. وفي الساعة التاسعة ليلا يوم 10/10/ 1956 شنت القوات الاسرائيلية هجوما واسعا على البلدة. واشتركت الطائرات في قصفها، وتقدمت قواتها من ثلاث اتجاهات وركزت هجومها على مركز البوليس ودمرته تدميرا كاملا وقتلت من فيه، ودمرت آبار المياة التي حفرها اهل البلدة. واستبسل افراد الحرس الوطني والحامية النظامية في التصدي للدبات التي دخلت البلدة، واستشهد منهم أكثر من عشرين رجل. وقتلوا اعدادا كبيرة من القوات المهاجمة وضمنهم قائدها “بيرمي”، تذكره بعض الضباط الاسرائيليين، بعد احتلال البلدة عام 1967، واقاموا له مكان قتله في “تلة صوفين”، نصبا تذكريا بسيطا ما زالت بقاياه موجودة هناك. وتختزن ذاكرتي عن تلك المعركة صور الشهداء وهم في خنادقهم وبين حطام مخفر المدينة المنسوف. وصورة تشييعهم. واتذكر قول طفل زميل في المدرسة “انا وامي واختي زعلانين من الله لانه اخذ ابوي”.
في بلدتي قلقيلية اكملت تحصيلي الدراسي الثانوي. حاولت الالتحاق بجامعة دمشق او بيروت العربية الا ان المخابرات الاردنية منعتني من مغادرة البلدة بسبب انتمائي لحزب سياسي محظور “حركة القوميين العرب”، ودخول السجن لفترة قصيرة بسبب مشاركتي في مظاهرات نيسان 1963 من اجل الوحدة الثلاثية السورية المصرية العراقية. وعبر بعض الاقارب تمكنت من دخول دار المعلمين. واشتغلت معلم 1964ـ 1967 تنقلت خلالها على عدة مدارس بسبب نشاطي السياسي. وعندما وقعت الهزيمة كنت معلما في القدس في مدرسة عبد القادر الحسيني في وادي الجوز.
اظن ان هذه السطور من سيرة بلدتي قلقيلية و”نكبتها”، وضمنها اسرتي، كافية لتفسير سيرتي الذاتية وخياراتي اللاحقة. وتجيب على كل الاسئلة المتعلقة باحترافي العمل السياسي، وبالتحاقي عام 1961 بحركة القوميين العرب. ولماذا انخرطت في منظمتها العسكرية “ابطال العودة” عام 1964، واحترفت العمل العسكري في اطار الثورة الفلسطينية وم ت ف بعد عام 1967. حيث غادرت الضفة الغربية للاردن للضفة الشرقية بناء قرار حزبي، وساهمت في تأسيس الجناح العسكري للجبهة الشعبية عام 1968. ولاحقا في شق الجبهة الشعبية وتاسيس الجبهة الديمقراطية عام 1969. وتفسر أيضا اصراري بعد ايلول 1970 على متابعة النضال السياسي والعسكري من سوريا عام 1970ـ 1971، وانتقالي الى لبنان 1971. ومشاركتي لاحقا في المهام الدفاعية والهجومية التي قامت بها الثورة في لبنان من عام 1971 وحتى عام 1988. واحتلال العديد من المهام القيادية في اطار الثورة ومنظمة التحرير منها عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، عضو في المجلس المركزي لمنظمة التحرير، عضو المجلس العسكري الاعلى لقوات الثورة.
واذا كان ما ورد في “ذكرياتي عن النكبة” لا تعطي الاجابة الكاملة والشافية عن اسباب تركي العمل العسكري وانتقالي عام 1988 الى تونس للالتحاق باللجنة العليا للانتفاضة وبعدها باللجنة العليا للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية التي انطلقت من مدريد ام 1991 فأظنها تقدم الاطار والارضية لذلك.