قبل وبعد انتهاء “أوسلو” والحكم الذاتي الفلسطيني /حلقة 1
بقلم ممدوح نوفل في 01/09/1998
إتفاق أوسلو إنتهى لكن نتائجه وذكراة باقية
في 13 ايلول 1998″سبتمبر” يكمل إتفاق أوسلو سنوات عمره الخمس التي حددت له. وبصرف عن الموقف منه ومن نتائجه، فوقائع الحياة بينت انه كان أشبه بزلزال قلب أوضاع المنطقة رأسا على عقب، وهز أوضاع أهلها وبخاصة الاسرائيليين والفلسطينيين هزة عنيفة لم تهدأ للآن. ومثّل نقطة فاصلة بين حقبة قديمة وأخرى جديدة لا تزال في طور التشكل والتكوين. في حينه فاجأ عرفات ورابين شعبيهما ودول المنطقة والعالم بتوصلهما، بمساعدة نرويجية، الى اتفاق “إعلان مبادئ” لتسوية نزاعهما المزمن. ومن اليوم الاول للاعلان عن وجوده أثار “أتفاق أوسلو” عاصفة من ردود الفعل على مستويات عدة دولية وعربية وفلسطينية. تراوحت بين الترحيب والترقب، وبين المعارضة الشديدة له. وبعد الشروع في تنفيذه، ودخول القيادة الفلسطينية غزة واريحا عام 1994، تعززت مكانته عند غالبية الفلسطينيين وبنيت عليه آمال كبيرة. وظهر من توعده بالقتل وتعرض في سنواته الاولى لمحاولات إغتيال، وعاني كثير من الأزمات القاتلة. بعضها جاء من صّناعه وبعضها الاخر تم على يد أعدائه الا أنه خرج منها جميعها سالما. وبعد فوز الليكود في إنتخابات صيف 1996 أصيب الإتفاق ومهندسيه ومناصريه بنكسة كبيرة. ومع تعقد مسيرة السلام وتعطل تنفيذه زاد الحديث في الاوساط الفلسطينية حول سلبياته وعن الاضرار التي ألحقها بالوضع الوطني وبالقضية الفلسطينية. وبرزت شكوك كبيرة في كل قصته وأعتبره البعض مصيبة كبرى. وإذا كان سابقا لأوانه إصدار حكما نهائيا على الاتفاق فالمصالح الفلسطينية تفرض، في ذكراه الخامسة، على البحاثة والمفكرين فتح كشف حسابه بمسئولية مجردة من الرغبات الذاتية، وإجمال ما له وما علية. فهذه العملية ضرورية لإصدار حكم تاريخي عادل عليه وعلى صّناعه، وتحديد أسس التعامل معه خلال الفترة القصيرة الباقية من عمره الرسمي، والتعرف مبكرا على مصير المرحلة الانتقالية التي أسسها. والإجابة على عدد من الأسئلة القديمة الجديدة: هل كان “اوسلو” مولود شرعي وكانت ولادته طبيعية، وكان أفضل الممكن انتاجه؟ وهل قرب الفلسطينيين من أهدافهم وقرب المنطقة من السلام؟ وما هو مصيره ومصير نتائجه بعد إنتهاء مدته الرسمية في 4 أيار القادم 1999 الخ.
المولود شرعي والولادة طبيعية
في العمل السياسي والدبلوماسي كثير من القضايا المفصلية الحساسة يتم التعامل معها باعتبارها أسرار دولة، وتبقى عادة طي الكتمان فترات طويلة. بعضها يكشف عنها بعد سنوات، وبعضها قد يموت مع موت صّناعها. هذة القاعدة تنطبق على بعض جوانب المفاوضات السرية التي تمت في أوسلو. فأعضاء “الخلية” الفلسطينية التي قادت المفاوضات، لا يعرفون بالضبط متى وكيف إتخذ القرار في إسرائيل بفتح الحوار مع قيادة المنظمة. وبعيدا عن التفسيرات البوليسية التي يطرحها البعض حول “قصة أوسلو” فوقائع الحياة كشفت تسلسل منطقي لأحداث وتطورات سياسية اقليمية ودولية فرضت على الطرفين الإنقلاب على مفاهيمهم وقناعاتهم التي آمنوا بها سنوات طويلة، وأوصلتهم الى طاولة المفاوضات في مدريد وواشنطن. ومنها إنطلقوا لمفاوضات سرية في أوسلو، بعد ان إكتشفوا بأن “طريق مدريد ـ واشنطون” شبه مقفلة، ولا توصل للاتفاقات المطلوبة في الأوقات المطلوبة. وان الوفد المفاوض غير قادر على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل للاتفاق.
وإذا كان التاريخ وحده هو الذي سيجيب بدقة على الأسئلة المتعلقة بالاتفاق، فالقيادة الرسمية للمنظمة مقتنعة بأن أبوعمار وعدد محدود من مساعديه نجحوا في فرض م. ت. ف كمفاوض رئيسي. وأرغموا رابين على التفاوض معها والاعتراف بها كممثل للشعب الفلسطيني وتوقيع اتفاق تاريخي معها. وتجزم بأن اللقاء الأول بين “أبوعلاء” والإسرائيليين “هيرشفيلد” و”بوندك” تم في لندن صدفة. والثابت أن رابين بعد فوزه في الإنتخابات صيف 1992وتوليه رئاسة الحكومة وجد نفسه أمام : صراع مزمن لم تحله الحروب، إنتفاضة مستمرة، قيادة فلسطينية تقترب من الواقعية وتبدي استعدادا للدخول في مساومة تاريخية، ادارة أمريكية راغبة في تواصل المفاوضات وفي ايصالها الى نتائج ملموسة، ومفاوضات اسرائيلية فلسطينية واسرائيلية عربية متعثرة. كانت اسرائيل ترفض التفاوض مع المنظمة، والوفد الفلسطيني المفاوض من الداخل، برئاسة د حيدر عبد الشافي، يصرعلى دور المنظمة ويقول “على كل من يرغب في الإتفاق مع الفلسطينيين أن يتوجه مباشرة نحو م ت ف ويجلس مع قيادتها”. أمام هذا الموقف، وتحت تأثير موقف الناخب الاسرائيلي الذي إنتخبه على أساس الوصول الى سلام مع العرب، حاول رابين كسر جمود مفاوضات واشنطن وقدم إغراءات للوفد الفلسطيني، عله يقبل تجاوز المنظمة ويعفيه من الجلوس معها. الا أن الوفد رفض الاغراءات. ولم يكن أبوعمار غافلا عما يدور، بل كان واقفا للوفد ولرابين بالمرصاد.
بعدها تردد رابين وحاول المراوغة، فتقدم بيريز وطاقم الخارجية بقيادة يوسي بيلن لجس نبض المنظمة واستطلاع مواقفها. وتؤكد الوقائع بأن حكومة رابين أمنت قانونية ذهاب ممثليها سرا الى أوسلو. فقبل وصول “هيرشفيلد” و”بونداك” اليها يوم 20 كانون الثاني 1993 ألغى الكنيست حظر الاتصال مع م ت ف. وعندما التقطت السنارة الاسرائيلية طرف الخيط الفلسطيني حاول رابين الهروب من شر التفاوض مع المنظمة ومع ياسرعرفات، لكنه لم يفلح، ولا حقا لم يصمد طويلا. وبعد عدة شهور من المفاوضات السرية أصبح أحد أبطال قصة اوسلو ونال مع بيريز وأبوعمار جائزة نوبل للسلام، ولاحقا دفع حياته ثمن ذلك الاتفاق.
وبصرف النظر عن الطريقة التي أدارت فيها “خلية اوسلو” المفاوضات فالاتفاق مولود شرعي ولد بصورة طبيعية تماما. فالمفاوضون والموقعون على الاتفاق من الطرفين يمثلون شعبيهما تمثيلا رسميا، وحصلو على مصادقة مؤسساتهما التشريعية. صحيح ان الإتفاق وجد عند الطرفين من توعده وتوعد موقعيه بالقتل والاغتيال، الا أن أغلبية الفلسطينيين والاسرائيليين تقبلوه عند الولاده، ووفروا له هم وعديد القوى الدولية المقررة، عناية فائقة ورعاية عالية وحماية قوية، ومناخا ملائما مكنه من تحقيق نتائج مذهلة بعضها أصبح حقائق موجودة على الأرض، بعضها بقي حتى فترة قريبة ضربا من دروب الخيال الشرقي.
ومهما كانت دوافع مؤيدي ومعارضي الاتفاق والمتحفظين عليه فخمس سنوات من عمره أكدت نجاحه في أدخال شعوب المنطقة أعتاب مرحلة جديدة. وفرض عليهم مفاهيم جديدة. وأحدث تغييرات نوعية في أسس علاقات اسرائيل بالمنظمة وبمعظم الدول العربية. وثبتت نقاط أساسية لصالح هذا الطرف وأخرى لذاك، ليس سهلا الغائها. فقد ساهم في تكريس حل الصراع بالطرق السلمية، وأنهى لإشعار آخر أفكار الحرب، وأفكار اللاحرب واللاسلم، التي كانت سائدة فترة الحرب الباردة. ولم يحصد منها العرب سوى الفقر والتخلف وضياع الوقت، وتعطيل الديمقراطية، وسيادة الاحكام العرفية. وعزز النهج السلمي الذي سلكته مصر بتوقيعها اتفاقات كامب ديفيد. وسهل على الأردن الوصول الى معاهدة سلام مع الإسرائيليين. وأنهى ومعه المعاهدة الاردنية أفكار كانت تنادى بها بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين للاردن، وتحويله وطن بديلا لهم. وأنهيا فكرة الخيار الأردني لحل القضية الفلسطينية التي كانت تتبناها أوساط حزب العمل. وبعد “أوسلو” وإتفاق “وادي عربة” نظم الأردن علاقاته الاقليمية على أساس الاتفاقين، وركز همومه على تصليب أوضاعه وتطوير قدراته، وتشكلت أرضية واضحة لبناء علاقة فلسطينية أردنية شبه متكافئة. وقبول القيادة الاسرائيلية التفاوض مباشرة مع م ت ف ثبّت الخيار الفلسطيني طريقا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبعد الاتفاقات والخطوات العملية الكبيرة التي تمت على الأرض لم يعد بالامكان إعادة اوضاع لما كانت عليه قبل 1967، أي إلحاق الضفة بالأردن وغزة بمصر. ولم يعد مجال للتعاطي مع الافكار التي كانت تدعو لتقاسم الوظيفي للضفة الغربية وشعبها، فالاتفاق لا يسمح بذلك والاردن لم يعد يفكر بالموضوع.
وألد أعداء الاتفاق لا يستطيعون تجريده من انجاز نقل مركز ثقل الحركة الفلسطينية من الخارج للداخل. أو إنكار القيمة العملية والمعنوية لنقل القرار الفلسطيني من العواصم العربية للمدن الفلسطينية. حيث عزز استقلالية القرار الفلسطيني، وحل معضلة انفصال القيادة عن أرضها وشعبها، وتصححت وضعية الهرم الفلسطيني الذي ظل مقلوبا على رأسه منذ تشكيل ت ف عام 1964. وهذه النقلة النوعية أحدثت تطورات هامة على بنية م ت ف وعلاقاتها الداخلية والحارجية. وعزلت القوى المرتبطة بالانظمة العربية “منظمة الصاعقة المرتبطة بسوريا، الجبهة العربية الموالية للعراق، وفتح الانتفاضة المرتبطة بالسوريين والليبين” وأضعفت دورها في الحركة الفلسطينية، وأفقدتها تأثيرها، المحدود اصلا، في القرارالفلسطيني. اما القوى الاخرى فأدى الاتفاق الى تراجع فعل بعضها وضعف وزنها السياسي والجماهيري لدرجة تقترب من التلاشي. وبعضها الآخر”حماس” صعد دوره وكبر حجمه. وهناك من لم يوفق للآن في تأمين استقراره الفكري والسياسي والتنظيمي.
واذا كانت قناعات اليمين الإسرائيلي تقول بان الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فأوسلو وما إنبثق عنه من إتفاقات وخطوات عملية على الأرض أنهى رسميا هذه المقولة التي بنت عليها الصهيونية إستراتيجيتها. وثبت نظريا “الوحدة الترابية” والسياسية للضفة والقطاع. ووضع القيادة الاسرائيلية وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية التي تهربت منها أكثر من أربعين عاما. فإعترفت بأن هناك شعب إسمه الشعب الفلسطيني، ولهذا الشعب ممثل شرعي ووحيد هو م ت ف، وله “سلطة حكم ذاتي” تقرر شؤون حياته. وأقرت بوجود كيان خاص على ذات الأرض لشعب أعتبر يوما ما شعبا زائدا. وسلمت بسيادته على أجزاء من أرضه، وبسيادة ناقصة على أجزاء أخرى. وموضوعية التقيم تفرض الاقرار بأن “أوسلو” حرر أجزاء هامة من الأرض. ومكّن قرابة ثلاثين ألف كادر مع عائلاتهم من العودة الى وطنهم. وأحيا قضية النازحين الذين رحلوا مكرهين في حرب 1967. وأقرت اسرائيل بحقهم في العودة ولو بعد حين. ولا يمكن تلبيس اوسلو تهمة اغلاق طريق متابعة الصراع من أجل تحقيق بقية الحقوق فتأجيل بحث بعض القضايا لا يعني ضياعها اذا وجدت من يتابعها.
وبجانب ذلك أزاح الاتفاق جزئيا كابوس وقهرالاحتلال اليومي عن كاهل أقسام واسعة من الفلسطينيين. وساهم في تحرير “جزئي” ثلاثة ملايين فلسطيني وغيّر أوضاعهم ونقلهم للحياة الكريمة في ظل حكم فلسطيني، وأزال عنهم كثيرا من منغصات الإحتلال. وبنى لهم كيان على “28%” من أرضهم، له “برلمان” و “وزارة” وجهاز إداري قوامه أكثر من 100 ألف موظف ثلثهم قوة أمنية مسلحة. وامتلك الشعب والكيان القضايا الرمزية الضرورية لتميزه عن سواه وبلورة هويته الوطنية” علم، ونشيد، وجواز سفر، وإذاعة وتلفزيون.
وإذا كان عدد من زعماء العالم إحتفلوا يوم 13/9/93 في البيت الأبيض بالنجاح الذي حققته الإدارة الأمريكية في المنطقة، فالإحتفال كان أيضا احتفال بالمولود الجديد. كحقيقة من حقائق الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية. وجديد “أوسلو” كان الإعلان الرسمي عن “قيام سلطة فلسطينية إنتقالية” على جزء من الأرض الفلسطينية، وتعهد أمريكا الراعية للإتفاقات والمهيمنة على السياسة الدولية، ومعها أربعون دولة، بدعم الكيان الفلسطيني ومساعدته ماديا ومعنويا. وما عداه كان تكرار لأمور قديمة، وتثبيت قضايا موجودة منذ سنين طويلة.
وإذا كان ضروري تعريف هذا الكيان وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن “حكم ذاتي” في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء هام صغير من الأرض. ناقص السيادة، محدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور، إذا أجاد أهله إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحريتهم واستقلالهم. ونعته بابشع النعوت من نوع، كيان أوسلو، دويلة مسخ وهزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة اقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يقلل من قدرته على التطور لاحقا الى دولة. فالإنسحاب الجديد من10% من الضفة الغربية، كما يعرض نتنياهو، ينقل ـ اذا نفذ ـ 93 % من الفلسطينيين للسيادة الفلسطينية. والانسحاب من13,5% كما إقترحت اولبرايت، يرفع النسبة الى 94,5%. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن كل تحرير إضافي للانسان، وكل إنسحاب جديد مهما كانت نسبته، وكل بناء لمؤسسة تشريعية او تنفيذية جديدة تزيد من الحقائق التي تؤدي الى دولة. وبديهي القول ان انجازات اوسلو كان لها ثمن..فما هو ؟