قيادة حزب العمل مسئولة عن نجاح الانقلاب ضد اوسلو /الحلقة 3
بقلم ممدوح نوفل في 01/09/1998
وحالة العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية واوضاع عملية السلام المزرية ومصلحة السلام بين الشعبين تفرض على قادة حزب العمل الاعتراف بانهم ارتكبوا خطئا استراتيجيا حين استغلوا ضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني، وقلة خبرة المفاوض وتصرفه بحسن في القضايا الكبرى، وانتزعوا نصوص وصيغ تفاوضية غيبت قضايا جوهرية من الاتفاق، أثرت على دوره لاحقا، والحقت اضرارا فادحة بالتوجهات الرئيسية التي من اجلها ذهبوا الى اوسلو، ودفع الجميع لاحقا ثمنها. ومن يراجع ما نشر من وثائق رسمية ومذكرات شخصية عن مفاوضات أوسلو وعن المفاوضات التي تمت في عهد رابين قبل إغتيالة وعهد بيريز من بعده ،بامكانه ببساطة تحميل قيادة حزب العمل كامل المسؤولية عن النواقص والثغرات الكبيرة والخطرة التي تضمنها الإتفاق عند ولادته. وعن إضعاف مصداقية الاتفاق عند الشعب الفلسطيني. ووضع المصالح الحزبية الضيقة فوق مصلحة صنع السلام الحقيقي والعادل. ويمكنه ببساطة اتهامهم بعدم الصدق في التعامل مع الطرف الفلسطيني ولا تستطيع التنصل من مسؤوليتها عن: الابطاء والتردد والتلاعب وعدم الحسم، وقلة الأمانة في تنفيذ نصوص الاتفاق. وهادنوا الفكر الصهيوني المتطرف، وتساهلوا مع الاحزاب والقوى العنصرية الاسرائيلية المتطرفة وطليعتهم المستوطنيين. وأعطوهم فرصة واسعة لتجميع قواهم، ومنحوهم الوقت اللازم للتخطيط بهدوء لكل أعمالهم المعادية للاتفاق. وبانهم مكنوا المتطرفين من إنتزاع زمام المبادرة. وسهلوا الطريق أمامهم لشن هجوم مضاد ناجح بدء باغتيال رابين تلاه الانقضاض على نصوص وروح الاتفاق، وتوج بنجاحهم في القيام بانقلاب استراتيجي ضد السلام. وحرمان رعاة المفاوضات من اي دور جدي، وتقسيم الحل مع الفلسطينيين الى مرحلتين. تأخذ اسرائيل في الاولى كل مطالبها الامنية والسياسية وتدفع استحقاقاتها والتزاماتها على دفعات متباعدة وبالتقسيط. ولا يمكن تبرئة ذمة الراعي الامريكي من دم الاتفاق الذي سال بغزارة في عهد الليكود. والقاء اصحاب الاتفاق ورعاته اللوم على الظروف الموضوعية وتحميل العوامل الخارجية المسؤولية عن النواقص واثغرات فيه هروب للامام لا يساعد على استخلاص الدروس المفيدة للشعبين. ولانصار صنع السلام في المنطقة.
والكل يتذكرموقف رابين من مخططي ومنفذ مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف التي وقعت بعد التوقيع على اتفاق اوسلو في 15 “رمضان” شباط 1994. في حينه بدلا من الاندفاع في تنفيذ الاتفاق والتوجه لحل عقدة الخليل بمعاقبة المستوطنين وطردهم منها، عاقب أهل الخليل واستولى على قلب مدينتهم، وحشد المزيد من القوات العسكرية لقمع الفلسطينيين، وحماية المستوطنيين وثبت اقدامهم في عدد من أحياء المدينة. وبعد دخول قوات الشرطة الفلسطينية الى غزة وأريحا وقبل شروع حماس والجهاد الاسلامي في تنفيذ عملياها العسكرية، وجهت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضربات قوية لاتفاق اوسلو، وعطلت تنفيذ العديد من بنود بروتوكولات القاهرة. وظهرت داخلها اصوات مهمة، كان أعلاها واقواها صوت اهود براك رئيس الاركان، شككت في امكانية تحقيق الحد الادنى من الامن للمستوطنيين في حال تنفيذ الشق الثاني من إتفاق أوسلو، ووضعت القيادة العسكرية حكومة رابين بين خيارين اما تأجيل تنفيذ الانسحاب وتاجيل اعادة الانتشار في الضفة الغربية، او إعادة النظر في انتشارالمستوطنات وفي حركة المستوطنيين على طرقات الضفة الغربية. وطبعا فضل رابين الخيار الاول على الثاني. ولاحقا وجد رابين في عمليات حماس والجهاد الاسلامي ذرائع ومبررات، وعطل تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو فترة طويلة، ووافق على اقتراح القيادة العسكرية بتقسيم المرحلة الانتقالية الى مراحل متعددة وتقسيم اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة الى مناطق اطلق عليها A B C. وفي مرحلة حاسمة من عمر عملية السلام وعمر الاتفاق اعتقد بيريز وقيادة العمل بان التصلب في المفاوضات مع الفلسطينيين، والتشدد في موضوع الامن، والتساهل مع المستوطنيين، تساعدههم على تعزيز شعبية الحزب وتساعده على الفوز في الانتخابات التي تمت صيف 1996.
ـ اثناء الاحتفال بالتوقيع على اتفاق اوسلو في حديقة البيت الابيض يوم 13/9/ 1993، قال بيريز للمفاوضين الفلسطينيين “علينا ان نستثمر المفاجئة قبل أن تستفيق المعارضة من هول الصدمة، وأن نكون كالطيارين الماهرين الذين يحلقون في أعالي السماء ويطيرون نحو أهدافهم بأقص سرعة”. وبمراجعة سريعة لمواقف قيادة حزب العمل من الاتفاق في عهدي بيريز ورابين يتضح بأن مواقفهم خارج الحكم تختلف نوعيا عنها خلال وجودهم في السلطة.
*لكن الرياح لم تجري كما كانت تشتهيها سفينة حزب العمل وسفن المؤيدين صنع السلام في المنطقة. فنتائج الانتخابات أكدت بأن أغلبية اليهود الاسرائيليين “60% تقريبا” غير ناضجة لصنع سلام حقيقي مع الفلسطينيين. ولم تجد في اتفاق أوسلو ولا في عملية السلام مع الفلسطينيين ما يطمأنها على مصالحها المباشرة والبعيدة. ولم تستطع التعايش مع روح الاتفاق ولم يهضموا نصوصه. ومع الإعلان عن فوز أحزاب اليمين القومي والديني في الانتخابات، وتشكيل حكومة يمينية متطرفة بقيادة تكتل الليكود، تبدلت لغة الكلام الفلسطيني والعربي المتفائل عن عملية السلام. وحل محلها نظرة سوداوية متشائمة حول مستقبل المفاوضات ومستقبل العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وحول مصير الاتفاقات التي تم التوصل لها في عهد حزب العمل. واعتبر البعض نتائج الانتخابات بمثابة انقلاب إسرائيلي أبيض ضد السلام مع الفلسطينيين، وضد التوجهات الدولية التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة وبخاصة الرغبة في حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية
في الرابع من ايار القادم 1999 تنتهي الفترة الانتقالية التي حددها اتفاق اوسلو للحكم الفلسطيني الذاتي. ومن الان وحتى ذلك التاريخ يفترض ان ينتهي الطرفان من مفاوضاتهم حول قضايا الحل النهائي: القدس، الاستيطان، اللاجئين، الحدود، الترتيبات الامنية، العلاقات المستقبلية، والمياة. والمغفل سياسيا هو وحده من يعتقد ان بالامكان التوصل الى حلول مقبولة من الطرفان لهذه القضايا الشائكة والتي يعتبرها الطرفان مصيرية. ولا حاجة لان يكون الانسان نبيا او عبقريا حتى يقول بان شعوب المنطقة سوف تصل الى الرابع من ايار 1996 دون التقدم خطوة واحدة في معالجة قضايا الحل النهائي. وأن حالة الجمود التي تعيشها منذ أكثر قرابة عشرين شهرا سوف تستمر حتى أيار القادم وبعده. ومواقف الليكود العلنية والمضمرة تؤكد بان عملية السلام التي عرفناها قد انتهت، وستبقى المفاوضات اذا استؤنفت تدور في خلقة مفرغة، وتراوح بين الجمود الكامل وبين التحرك الشكلي دون معنى ودون نتيجة وبلا لون ولا طعم ورائحتها لن تكون عطره. والالتزام بتنفيذ بقية قضايا المرحلة الانتقالية أمر مشكوك فيه تماما. فحكومة الليكود متمسكه بموقفها القائم على رفض الدولة الفلسطينية وجعل الحل الانتقالي حلا نهائيا للقضية الفلسطينة، سقفه الاعلى حكم اداري ذاتي، ويفضل ان يبقى ناقصا. وتحاول انتزاع موافقة فلسطينية على مبادلة 10 ـ 13 % من أرض الضفة الغربية بكل الحقوق الفلسطينية التي تتضمنها قضايا الحل النهائي. أي التنازل عن القدس وحقوق اللاجئين وعن المياه وعن قرابة 60% من اجمالي أراضي الضفة الغربية. ولن يقبل نتياهو واركانه بسهولة الاعلان في العام القادم عن تحويل “دويلة الحكم الذاتي” الى دولة مستقلة. فهم يعتبرونها قضية مصيرية، ومسألة حياة أو موت لدولة إسرائيل، ويخطئ من يعتقد بان حكومة الليكود سوف تغير موقفها من الان وحتى ايار 1999.
ويخطأ اكثر من يعتقد بان الادارة الامريكية سوف تمارس ضغوطا فاعلة على نتياهو وحكومته من الان وحتى ذلك التاريخ. فادارة الرئيس كلينتون لديها همومها وشجونها الداخلية التي تشغلها عن قضايا المنطقة خلال العامين القادمين. وهمومها الكبيرة تدفعها الى مهادنة اللوبي الصهيوني الامريكي ومهادنة الكونغرس. والصمت عن مواقف الحكومة الاسرائيلية من عملية السلام قضية مفصلية في عملية المهادنة. ناهيك عن قناعة الادارة الامريكية بان اوضاع المنطقة لا تنذر بانفجار مشاكل جدية. وليس هناك ما يشير الى ان مصالحها يمكن ان تتعرض للخطر. اما المشاكل والضغوط الداخلية التي يمكن ان تتعرض لها حكومة الليكود بسبب جمود عملية السلام، واحتمال انفجار الاوضاع في الضفة والقطاع، ووقوع صدام عنيف مع السلطة الفلسطينية، فالظاهر ان نتياهو قرر سلفا معالجتها بكل الطرق الممكنة والمتاحة له ما عدا طريق التنفيذ الدقيق للاتفاقات. ومن غير المستبعد ان يلجأ الى الانتخابات المبكرة اذا تعرض لضغوط داخلية او خارجية واذا ضمن الفوز فيها. ولا مبالغة في القول بان فوز قوى اليمين الاسرائيلي مرة أخرى في الانتخابات، سواء تمت في موعدها او قدمت، يعني اغلاق كل النوافذ والابواب امام حل النزاع العربي الاسرائيلي بالطرق السلمية، وسيعيد الأوضاع الى أسوء مما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام، وستكون العداوة أكبر والحقد والكراهية أعمق، وسيؤجج الصراع في المنطقة. وستمتد نيرانـه بالتدريج إلى كل الدول والشعـوب المحيطـة بفـلسطيـن حتى لو كان لها مع إسرائيل معاهدات وإتفاقات سلام.
من البداهة القول ان بقايا الفكر الصهيوني اليميني العنصري الاستعماري التوسعي، يحاول جاهدا تأخير حركة التاريخ وإعادة عقارب ساعة الزمن إلى الوراء. واستمرار هذا الفكر مؤثرا في المجتمع الإسرائيلي، ويسيطر على القرار السياسي الرسمي، سيجعل بقية طريق اوسلو قاسية وقد تكون دموية، وطريق التعايش والسلام بين الشعبين طويل ومعقد ومؤلم. ويؤدي حتما إلى إضعاف مميت للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل أشكاله الديني والقومي والوطني. فهذا التفكير الاستعماري العنصري هو المسئول تاريخياً عن نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين، وهو الذي دفع الإسرائيليين الى رفض قرار التقسيم عام 1947، وحقن الشعوب العربية بالعداء لإسرائيل، وفجر أربع حروب كبيرة بينهم. وأخر الإعتراف الإسرائيلي بوجود شعب إسمه الشعب الفلسطيني قرابة خمسين عاماً، وبوجود م ت ف كممثل شرعي ووحيد له، قرابة ربع قرن، وأوصل الشعب الفلسطيني إلى الانتفاضة الشاملة. وهو ذاته الذي يحرك الآن قوى الائتلاف باتجاه تسريع الإستيطان وتوسيعه وقتل ما تبقى من روح اتفاق اوسلو. ويبعث النشوة في نفوس بعض القادة الإسرائيليين كلما نجحوا في طعن الكرامة الوطنية الفلسطينية..
وهذه اللوحة الواقعية السوداوية عن التطورات السياسية المتحملة تبين بوضوح عمق المأزق الفلسطيني العربي القادم. وطبيعة المصاعب والعقد الاستراتيجية الكبيرة التي سوف تواجهها السلطة الفلسطينية قبل وبعد الرابع من ايار 1999. وتؤكد محدودية الخيارات الفلسطينية والعربية في مواجهتها. فاعلان الفلسطينيين والعرب عن وفاة عملية السلام يفرض عليهم التحدث عن بديل لا يملكوه. والتطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمتهم وألزمت الإسرائيليين بالذهاب إلى مدريد، ما تزال قائمة، حتى لو قل إهتمام الإدارة الأمريكية والعالم بصنع السلام في المنطقة. ولا تزال تفرض عليهم السير في دروب التفاوض لحل خلافاتهم كبديل عن طريق الحروب والقتال. واذا كان من الخطأ اقدام العرب والقيادة الفلسطينية على الاعلان عن انتهاء عملية السلام الحالية، فالواضح انهم يرتكبون خطئ أفدح ان هم استمروا في الرهان عليها ابان حكم الليكود لانتزاع حقوقها الكثيرة المغتصبة.
وفي الذكرى الخامس لاتفاق اوسلو يجب القول بصوت مرتفع لكل القوى العربية الرسمية والشعبية: ان تفرقكم وغياب التنسيق فيما بينكم أضعف مواقفكم. ومكّن الجانب الاسرائيلي من دفع العملية نحو الابتعاد كثيرا عن الاسس والقواعد التي قامت عليها. وقناعتكم بان الادارة كلينتون غير راغبة او غير قادر على القيام بدور الراعي العادل والنزيه، تستوجب الفضح، وتستدعي دعوة دول العالم والامم المتحدة لتحمل مسؤولياتها. وربط الاعلان والدعوة بخطوات عملية موحدة ملموسة تجذب تدخلا دوليا أوسع، وتحرك دماء الرعاية الامريكية.
ومن الان وحتى تضح المواقف النهائية لا بد من اتخاذ القيادة الفلسطينية مواقف واضحة وحاسمة ازاء عدد من المسائل الجوهرية. فالتردد والعجز الفلسطيني من الان وحتى ايار القادم 1999 يؤديان الى مزيد من اضاعة الوقت وضياع مزيد من الحقوق، ويضعف امكانية حشد الطاقات العربية. والمصلحة الوطنية، بما في ذلك تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، وترميم ما تضرر من العلاقات العربية الفلسطينية، باتت تفرض على القيادة الفلسطينية حسم أمورها وعدم هدر مزيد من الوقت، والشروع فورا في اعادة ترتيب الاولويات الوطنية. ووضع مسألة تصليب البناء الداخلي، وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية في رأس مهام عملها اليومي. فمواقف حكومة الليكود ضد السلام وضد الاتفاقات تعتمد في كثير من الاحيان على العجز الفلسطيني والعربي. واستمرار الحالة السائدة يؤدي حتما الى اضاعة الوقت ويولد مزيد الضغوط الامريكية. وقد يتسبب في تفجير صراعات تناحرية داخلية. والتطورات المقبلة تحمل في طياتها تعقيدتها كبيرة مرئية وغير المرئية، وتفرض على القيادة الفلسطينية التفكير في حلول طويلة المدى. وتستوجب احياء م ت ف وتفعيل دور مؤسساتها. واعادة النظر في الكثير من مواقفها ومن اساليب عملها في معالجة الهموم والقضايا السياسية والجماهيرية. فضعف الجبهة الفلسطينية الداخلية والارتباك في تحديد الخيارات يبدد الكثير من الطاقات، ويضعف موقف المفاوض الفلسطيني، ويشجع نتنياهوعلى المضي في مواقفه العنصرية المعادية لصنع السلام في المنطقة وللفلسطينيين والعرب كشعوب.
وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح بان الاسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقمتها مهمة تحضير الاوضاع للاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي الفلسسطيمنية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين التي لن تستسلم للواقع الجديد الذي سيخلقه اعلان الدولة.
لا شك في ان تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في إسرائيل، على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين مهمة فلسطينية وعربية ودولية من الدرجة الأولى. فلا يمكن لأي حكومة إسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كحل نهائي للصراع، إلا إذا توفرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيد مثل هذا الخيار. وكل إستطلاعات الرأي العام والدلائل الموضوعية تشير الى أن المجتمع الإسرائيلي يسير في إتجاه معاكس تماما، أي يميل نحو مزيد من التطرف القومي والتعصب الديني، وتقلص نسبة مؤيدي الدولة الفلسطينية. صحيح بأن المفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين يواجهون، بعد أقل من عشرين سنة، مشكلة وجود أكثر من 16 مليون فلسطيني، منهم 8 مليون يعيشون على أرض فلسطين التاريخية، و2 مليون، من الرقم الاخير، يعيشون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية، إلا أن نمو التيار القومي المتعصب يدفع بأغلبية المجتمع الاسرائيلي الى عدم رؤية هذه التطورات وعدم التفكير في حلها الان. وعندما تحين لحظة مواجهة هذه الحقيقة من الصعب التكهن بتوجهات إسرائيل والصهيونية العالمية. والمقدمات التي نعيشها ترجح الميل نحو البحث عن حلول أخرى غير تغيير هوية الدولة اليهودية. ولا شك في ان طمأنة المواطن الإسرائيلي على أمنه ومستقبله من قبل الفلسطينيين والعرب، وازالة مخاوفه، يقوي تيار السلام في إسرائيل، ويضعف مواقف القوى الإسرائيلية المتطرفة. وبالمقابل فإن رفض القيادة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عملية وجدية تؤدي مستقبلاً إلى دولة فلسطينية مستقلة، يقود الى توليد شعور بالإحباط واليأس عند الفلسطينيين. والواضح أن تبديد هذا الخوف وذاك القلق المتبادل يتطلب عملا مضنيا وجهودا كبيرة من قبل قوى السلام من الطرفين.
وبديهي القول بأنه سيمضي وقت طويل قبل قبول الشارع الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وقبل قبول الشارع العربي تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وستدفع شعوب المنطقة ثمن ذلك. فطريق الدولة الفلسطينية ليست سالكة وليست مفروشة بالورود، وميلادها سيمر في مخاض دموي مؤلم وعسير جدا، خاصة بعدما أصبحت المستوطنات تغطي مساحات واسعة من أراضي الضفة والقطاع، وغيرت معالم المدينة المقدسة الجميلة.