نواقص “أوسلو” كثيرة والاعتراف بالأخطاء فضيلة /الحلقة 2
بقلم ممدوح نوفل في 01/09/1998
لا جديد في القول، إن اي اتفاق بين عدوين هو نتاج لموازين قوى لحظة التوصل له. وان قوة الحجة ومهارة المفاوض والقدرة على الاقناع عوامل هامة مساعدة يجب ان تدخل الحساب. وصنّاع أوسلو لا يستطيعون الإدعاء بأنه كامل الأوصاف ولم يكن بالامكان أن يكون أفضل. ولا يمكنهم القول بان “خلية أوسلو” التي ادارت المفاوضات انتزعت أقصى ما أمكن انتزاعه. أو ان الحكومة الاسرائيلية العمالية قدمت أقصى ما استطاعت تقديمه. وأبرع المفاوضين الفلسطينيين لا يمكنه الادعاء بأنه لم يرتكب أخطاء. ومع اقتراب “أوسلو” من نهايه عمره الرسمي، مفيد رفع الصوت والقول بأن موازين القوى، رغم إختلالها لصالح إسرائيل، كان بإمكانها أن تعطي للجانب الفلسطيني، في مسائل جوهرية أكثر مما أخذ. وكان بالإمكان أن تكون مضامين الاتفاق أفضل، وصيغ نصوصه أدق وأوضح، وأكثر إلزاما في التنفيذ. وأن عدم تحقيق ذلك كله تتحمله “الخلية الفلسطينية المصغرة” التي أدارت مفاوضات أوسلو السرية، والجهة التي أدارت ما تلاها من مباحثات ومفاوضات لاحقة.
بعد الإعلان عن الإتفاق ونشره على الملأ ظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة إتجاهات رئيسية: أحدها أيد الإتفاق وأفرط في التفاؤل، وبسط الأمور وتصور بأن “كل شيء يهون بعد دخول م ت ف أرض الوطن”. واعتقد أصحابه بأن تقاطع المصالح التي أفرزت الإتفاق تدفع باتجاه الإلتزام الامين به، وتسريع تنفيذه. والثاني عارض الإتفاق وأفرط في التشاؤم ورفع شعار “اسقاط الإتفاق وإسقاط نهج أوسلو”. وإعتقد بأن “الاتفاق ولد ميتا”، وأنه غير قابل للتنفيذ وانه “سيسقط خلال أسابيع أو شهور معدودة “كما سقط اتفاق “خلدة” اللبناني الإسرائيلي عام 1984″. ولاحقا أطلق أصحاب هذا الإتجاه على الإتفاق إسم “غزة وأريحا أولا وأخيرا”. أما الإتجاه الثالث فظهر عند أهل الأرض المحتلة وتساءل أصحابه عن نصوص الإتفاق حول الإستيطان، والموقف من حقوق الإنسان، واطلاق سراح المعتقلين، وقالوا العبرة في التنفيذ. وجاءت التطورات ووقائع خمس سنوات من المفاوضات لتؤكد بالملموس أن أهل الأرض المحتلة كانوا الأدرى بالأحتلال وسياساته، وأن تقييمهم كان الأكثر واقعية والأكثر دقة. وأن الآخرين من معارضين ومؤيدين فصائل وقوى وشخصيات وطنية وإسلامية شطحوا بعيدا في تقديراتهم، ووضعوا أمنياتهم ورغباتهم محل التقييم الموضوعي. فالإتفاق من جهة بقي على قيد الحياة خمس سنوات نما وكبر خلالها، ومن جهة أخرى تعثرت المفاوضات حوله وحول ما أنتجه من إتفاقات أخرى، وتأخر تنفيذ العديد من بنوده وبنودها.
ورغم نجاح الإتفاق في تكريس نفسه وخلقه حقائق كثيرة وكبيرة على الارض أكثر وأكبر من غزة واريحا، فقد ظل طيلة خمس سنوات موضع جدل فلسطيني فلسطيني، أظنه لن يهدأ في المستقبل القريب. وبقي أنصاره وخصومه على مواقفهم، متمترسين في ذات الخنادق وخلف ذات المتاريس التي تمترسوا خلفها عند الاعلان عنه. وبين فترة واخرى تستذكر القوى الإتفاق وتتناوله بصورة غير موضوعية ومن زاويا ضيقة تخدم وجه نظرها. وكأن التاريخ بعد أوسلو لم يتحرك، والإتفاق بقي جامدا في مكانه، ولم تتطرأ في سنوات حياته متغيرات على أوضاع وعلاقات أهل المنطقة. وكانت كسابقاته خالية من الأحداث الهامة. وظلت المعارضة الفلسطينية الوطنية والإسلامية متمسكة بمواقفها وبشعارها إسقاط اوسلو. ولم تفلح في الخروج من مأزقها الذي وضعها فيه الاتفاق. وعلى أية حال هذه ليست المرة الاولى التي تمتنع فيها القوى الوطنية والإسلامية عن مراجعة ونقد مواقفها الخاطئة بجرأة. لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية منها، الحروب في لبنان، إنشقاق وإنقسام م ت ف، إنطلاق الإنتفاضة وتوقفها، المواقف من المبادرات الدولية السابقة..الخ بعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة، وتم المرور عليها مرور الكرام. ولم نسمع من أي من القوى نقدا ذاتيا جريئا. وكأنهم معصومين عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بأن الاستهتار بذاكرة الشعب، والمركزية الشديدة، وغياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية، وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات هي التي مكنت وتمكن قوى الحركة الوطنية والاسلامية تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من إستمرار العمل بشعارات إستهلكتها الحياة.
وذكرى “أوسلو” مناسبة لقيام أهله ورعاته بمراجعة نقدية مسئولة والإعتراف بالإخطاء التي ارتكبوها بحق الاتفاق وبحق أنفسهم وتطلعاتهم. ولا يستطيع الفلسطينيون الأشد حماسا له إنكار أن ثمنه كان باهظ. وأنه أعطى لإسرائيل سلفا ثمن مشاركتها في عملية السلام، وضمن لها مقدما إعتراف فلسطيني وعربي جزئي بحقها في الوجود قبل أن تعترف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وكرس الاتفاق الاستراتيجية الاسرائيلية القائمة على الاستفراد بالاطراف العربية والوصول الى حلول ثنائية مع كل طرف على إنفراد. وسهل إنفتاح إسرائيل إقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا على عدد من الدول العربية ومعظم الدول الاسلامية والافريقية. وساهم في مسح الصورة التي تشكلت عنها، وبخاصة خلال الإنتفاضة، كدولة عنصرية عدوانية تمارس الإرهاب ضد المدنيين. وأوجد قوة فلسطينية تلتزم أمنها وأمن مواطنيها بما في ذلك المستوطنيين الذين يحرضون ويعملون صباح مساء ضد تنفيذ الاتفاق.
ولا يستطيع أنصار أوسلو إنكار بأنه في الوقت الذي حرر القرار الوطني الفلسطيني من الضغوط والتدخلات العربية، تسبب في توتير علاقة المنظمة مع بعض الدول والحكومات العربية، وأثر سلبا على أوضاع اللاجئين فيها، وأعفاها من مسئولياتها القومية، وحررها من التزاماتها تجاه “قضية العرب المركزية”. كما لا بد من رؤية أن “أوسلو” في الوقت الذي أوجد للفلسطينيين كيانهم الخاص وأقام لهم سلطة وطنية، أسهم في إضعاف م ت ف سياسيا وجماهيريا وفي تفكيك بنيتها التنظيمية. وساهم في شل عمل مؤسساتها، وأضعف دورها ككمثل شرعي لكل الفلسطينيين. وجعلها هيئة معنوية لا حول ولا قوة لها في تقرير مصيرهم. ولا يمكن تجاهل مدلولات وأبعاد أعطائه القوى الدولية الكبرى “الدول المانحة” وبخاصة الإدارة الأمريكية دورا مؤثرا في تحديد التوجهات الفلسطينية. ومنحه إسرائيل، في المرحلة الإنتقالية، حق التدخل في معظم الشؤون الفلسطينية الداخلية، والمشاركة في بلورة وصياغة قضايا وطنية كانت تعتبر قضايا داخلية وكثيرا ما رسم حولها خطوط حمراء.
وحتى لا نظلم “اوسلو” يجب عدم تحميله وحده كامل المسؤولية عن حالة التآكل والاهتراء التي تعيشها المنظمة. فقيادة المنظمة بتلاوينها السياسية والتنظيمية شريك رئيسي في هذا الجرم الكبير. فالمنظمة مصابة بأمراض مزمنة قبل الذهاب الى مدريد عام 1991، وقبل التوقيع على اتفاق أوسلو في 13/9/ 1993، كان أخطرها طغيان الفصائلية على بنيتها، وغياب الديمقراطية في علاقاتها الداخلية ومع الشعب الفلسطيني داخل وحارج الأرض المحتلة، وتبقرط مؤسساتها وتحولها الى هياكل تنظيمية فارغة من أي مضمون. واذا كانت كل الفصائل وكل القيادات الفلسطينية مسؤولة عن زرع هذه الامراض في جسم المنظمة، فاتفاق اوسلو أضاف أمراضا جديدة، وعمق الانقسام السياسي والتنظيمي الذي كانت تعانيه منذ سنوات. وأوصلها الى حالة من الشلل الكامل والاحتضار المميت. وختم دوره وفعله السلبي على أوضاعها حين فرض على قيادتها إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني والغاء معظم بنود نظامها الاساسي، ولم يسمح لها حتى الان صياغة ميثاق ونظام جديدين يلبيان تطلعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ويوحدان طاقات كل قوى الشعب في إطار تنظيمي وطني ديمقراطي موحد. ولاحقا اكدت التجربة بأن القيادة الفلسطينية أخطات حين زجت م ت ف في التوقيع على الاتفاق. وأن تحميل وفد الداخل مسؤولية توقيع الاتفاق يوفر لقيادة المنظمة فرصا أفضل للمناورة في المفاوضات اللاحقة، ويقوي أوراق الضغط على إسرائيل ويقلل من امكانية تلاعبها بتنفيذه. وتجدر الاشارة الى أن بعض القيادات الفلسطينية خشيت قبل أوسلو من تكون قيادة فلسطينية بديلة، وهي ذاتها التي إندفعت بعد أوسلو باتجاه تجيير دور ومهمات م ت ف لحساب السلطة الوطنية، انطلاقا من قناعة، اثبتت التجربة خطأها، بان قيام السلطة الفلسطينية يعني بداية نهاية المنظمة، وأن السلطة الوطنية تمثل بديلها الشرعي القادرعلى القيام بكل مهامها وواجباتها. وجاءت وقائع المفاوضات ووقائع الحياة لتؤكد بأن تمويت وإضعاف المنظمة وتفكيك هيئاتها القيادية وشل دورها لم يقوي السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين انبثقتا عن الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وأن إضعاف المنظمة وسلبها مهامها الأساسية أبقي نصف الشعب الفلسطيني (4مليون) المقيم في الخارج دون أي دور تجاه قضيتة الوطنية، وأفقده الجهة التي يمكنها الاهتمام باوضاع ومعالجة قضاياه قضايا اليومية المعقدة في الدول التي يعيش فيها.
وبينت وقائع المفاوضات بأن الجانب الفلسطيني تصرف بحسن نية، ورضي بالوعود الشفوية غير ملزمة التي قدمها الطرف الآخر حول وقف وتجميد الإستيطان، ولاحقا تكرر الأمر في مواضيع، فتح الممر الآمن بين غزة والضفة، وتشغيل المطار، واستكمال بناء الميناء. اما موضوع الانسحاب فقد ظل محل جدل بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيلين على مدى عمر الاتفاق. وظلت الحكومات الاسرائيلية تماطل وتعرقل وتعطل تنفيذ المقرر منه، وكانت تجد في نصوص الاتفاق ما يسمح لها بذلك. أعتقد أنه كان بإمكان المفاوض الفلسطيني إنتزاع صيغ أفضل وأدق لمفهوم الانسحاب لو أصر على تضمين الإتفاق ما ورد نصا في برنامج حزب العمل وتصريحات زعمائه في تلك الفترة. في حينه كان الإنسحاب من جانب واحد من قطاع غزة موضع شبه إجماع إسرائيلي. وبينت مفاوضات واشنطن في عهد الليكود بأنه كان أحد الخيارات الأساسية للقيادة الإسرائيلية. فخلال جولات المفاوضات سأل أعضاء من الوفد الاسرائيلي أعضاء في الوفد الفلسطيني: هل مستعدون لإستلام قطاع غزة إذا إنسحبنا منه ؟ وعندما تم الرد على السؤال بسؤال: وماذا بشان وجود المستوطنيين والمستوطنات هناك ؟ كان الجواب عدد المستوطنون هناك أقل من عدد سكان “بلوك” من “بلوكات” أحد مخيمات غزة، وهم بحدود 3000 مستوطن، وبالامكان سحبهم خلال ليلة ظلماء وتحميلهم في قافلة واحدة. وتصريحات رابين الشهيرة التي تمنى فيها “غرق قطاع غزة في البحر” مؤشرعلى إستعداد قيادة حزب العمل في تلك الفترة، من حيث المبدأ، للانسحاب من كل قطاع غزة، وانها لم تكن تفكر في تقسيمه الىِِ B CِA . وبالتأكيد لم يكن رابين يقصد غرق سكان المستوطنات ومعها قوات جيشه المرابطة هناك في البحر، بل كان يفكر في سحبهم في ليلة ظلماء قبل أن يهيج البحر وترتفع مياهه. وبينت المعلومات لاحقا بانه كان يفكر بصوت عال، وكان يهيئ الراي العام الإسرائيلي لتقبل خطوة الإنسحاب إذا اضطر اليها. وحديث “حاييم رامون” عضو قيادة حزب العمل، مع أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين تقطع الشك باليقين. قال له “لو تمسكتم باخلاء مستوطنات غزة لحققتم ذلك فقد كان لدينا قرار داخلي بسحبهم، إذا كان ذلك ثمن التوصل للاتفاق”. وما حصل في موضوع الإنسحاب حصل ما يشبهه في مواضيع أخرى. فالاتفاق خلى من أي نص حول إجراءات متبادلة لبناء الثقة بين الطرفين. وتركزت كلها على ما يجب أن يقوم به الجانب الفلسطيني. وكان بالإمكان الإصرارعلى إدخال نصوص واضحة تعالج قضايا هدم البيوت، ومصادرة الاراضي واطلاق سراح المعتقلين وعودة اعداد من المبعدين، خاصة بعد موافقة المفاوض الفلسطيني على تأجيل بحث موضوع الاستيطان والمستوطنين. واذا كان لا مجال في هذا المقال الدخول في بحث مفصل حول العوامل والأسباب التي دفعت “الخلية الفلسطينية” التي أدارت مفاوضات أوسلو للقبول بتجاوز هذه القضايا الاساسية وسواها، فلا شك في أن المبالغة في قيمة الإعتراف الإسرائيلي الرسمي بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطين، وفي قيمة توقيع الاتفاق، معها كان له دوره في ذلك كله. والمصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض إعتراف خلية أوسلو بأخطائها، حيث أكدت النتائج بأن الإصرارعلى النص في الاتفاق على وقف الاستيطان وبقية القضايا الأساسية الأخرى كان يستحق صراعا فلسطينيا أقوى، حتى لو بلغ الأمر حد تعطيل وتاجيل التوصل للاتفاق فترة أطول. ويمكن القول بأن، التسرع والتصرف بحسن نية، وقلة الخبرة في المفاوضات، وحشرها بوقت زمني ضيق، وإحاطتها بسرية شديدة ساهمت في وقوع هذه الأخطاء وسواه. وتحمل الشعب الفلسطيني نتائجها. واذا كان عمر الاتفاق انتهى فذكراه ونتائجه الايجابية والسلبية باقية، وسيتذكرها الناس ..