قبل وبعد زيارة الرئيس كلينتون لغزة وبيت لحم وتل أبيب
بقلم ممدوح نوفل في 09/12/1998
في 12/ كانون الاول الجاري يبدأ الرئيس كلينتون زيارة للمنطقة تدوم ثلاثة أيام. يزور خلالها تل أبيب وغزة وبيت لحم، وتجنب الإحراج السياسي وإستعاض عن زيارة الأماكن المقدسة في القدس بزيارتها في بيت لحم. وسيحل ضيفا على السلطة الفلسطينية ويلقي كلمة أمام حشد من أعضاء البرلمان الفلسطيني والمجلس التشريعي وأركان مؤسسات السلطة الفلسطينية. وستحط طائرته في مطار غزة رغم الزوبعة الإسرائيلية التي أثيرت حول الموضوع. وسيستعرض ثلة من حرس الشرف الفلسطيني، وتعزف له فرق موسيقة فلسطينية النشيدين الأمريكي والفلسطيني. وسيكون في إستقباله وزراء السلطة وقادة منظمة التحرير، وخليط كبير من جماهير قطاع غزة فقط. ولن يتمكن أبناء مدن ومخيمات الضفة الغربية من المشاركة في الإستقبال بسبب عدم إلتزام الحكومة الإسرائيلية تنفيذ بنود إتفاق “واي ريفر” المتعلقة بالممرين الآمنيين. وستتغيب قيادات المعارضة عن المشاركة في الإستقبال إحتجاجا على عملية السلام والاتفاقات التي تم التوصل لها، وعلى الإنحياز الأمريكي لإسرائيل.
أما خليط المستقبلين الغزاويين ومعهم أبناء الضفة من امام شاشات التلفزيون، فيعتبرون الزيارة حدث تاريخي، ويحرصون على نجاحها. ويرون فيها إنتصار لهم في صراعهم مع الإحتلال حول رموز السيادة الوطنية ومضامينها الجوهرية. ويتمنون، دون أوهام، ان تقربهم الزيارة من قيام دولتهم أسوة ببيقة شعوب الارض، وتمكنهم مباحثات كلينتون، زعيم أقوى دولة تتولى بمفردها قيادة العالم، من نيل حقوقهم الوطنية المغتصبة، وتذوق طعم الثمارالحقيقية لعملية السلام المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات. فالاجئون ينتظرون حل قضيتهم ولو بعد حين بالعودة أو التعويض حسب قرارات الشرعية الدولية. والنازحون ينتظرون الشروع في تنظيم عودتهم حسب نصوص إتفاق أوسلو. وعائلات آلاف المعتقلين تتطلع الى دور أمريكي مباشر وفعّال في إطلاق سراح أبنائهم الذين أعلنوا من سجونهم ومعتقلاتهم إضرابا مفتوحا عن الطعام. وأصحاب الأراضي المصادرة والمقام على بعضها مستوطنات ومعسكرات يأملون إستعادة أراضيهم التي ورثوها عن الآباء والأجداد. وآخرون منهم يتمنون ان تحمي الزيارة بقية أراضيهم من المصادرة، وتزيل خوفهم من دعوة شارون المستوطنيين بالركض السريع وصعود التلال والجبال وإقامة المستوطنات عليها. وكلهم يتطلعون لدور دولي فعّال يوقف التوسع في الإستيطان.
وعلى الطرف الآخر من الخط الأخضر سيكون بإنتظاره بجانب أعضاء الحكومة الإسرائيلية أركان أحزاب المعارضة، وتجمعين كبيرين من الجمهور الإسرائيلي، أحدهما يمثل المعارضة اليسارية والآخر يمثل قوى الائتلاف اليميني الحاكم. كلاهما حريص على توطيد التحالف الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي وإستمرار الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل. وسيطالب الأول الرئيس كلينتون بحماية عملية السلام على مسارها الفلسطيني، والضغط على حكومة الليكود لتنفيذ الإتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وعدم الدخول في مغامرات عسكرية في جنوب لبنان والانسحاب منه بسرعة، وإستئناف المفاوضات مع السوريين كمدخل يوصل الى أمن وإستقرار الأوضاع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية.، أما الثاني فسوف يندد بشدة بضغوط إدارة كلينتون على نتياهو وفرضها إتفاق “واي ريفر” على الإسرائيليين، ومحاولتها فرض تنفيذه بحذافيره وإعطاء مزيد من الأراضي التي “وهبها الرب لبني إسرائيل”، وتعريض أمن اسرائيل ووجود المستوطنات والمستوطنيين لأخطار جدية. وسيطالبوه بالضغط على السوريين واللبنانيين لوقف عمليات حزب الله وتأمين سلامة مدن وقرى الجليل.
وسيسمع كلينتون خلال لقاءاته الرسمية والشعبية مع الفلسطينيين تأكيد واضح وصريح على تمسك أغلبية الفلسطينيين بخيار السلام كخيار إستراتيجي والمضي قدما في دربه الشاق والطويل رغم تجربتهم المرة مع اسرائيل. وسوف يحصل على مصادقة المجلس المركزي وموافقة المؤتمر الشعبي على إلغاء بنود ميثاق منظمة التحرير المطلوب الغاؤها لانها تتحدث عن تدمير دولة اسرائيل. وفي اللقاءات الثنائية والثلاثية المضيقة والموسعة التي سيجريها مع قادة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، سيسمع منهما ذات الإتهامات العلنية المتبادلة والمتداولة صباح مساء حول عدم الإلتزام بإتفاق “واي ريفر” وخرق بنوده وتجاوز مواعيد تنفيذها، وسيلمس تزايد الشكوك المتبادلة وعدم الثقة وإتساع الفجوة بين مواقفهما. فهل سيتمكن الرئيس كلينتون ومساعدوه من تلبية المطالب الكثيرة المتناقضة للقوى الحزبية في الشارعين الفلسطيني والاسرائيلي !؟ وهل سيتمكن من إعادة قطار “واي ريفر” الى سكته التي بناها بنفسه، بعد أن أخرجه نتنياهو عنها، وإفتعل أزمة كبيرة مع ركابه وأعلن رسميا تجميد حركته عليها ؟ وهل تقرب الزيارة الفلسطينيين من أهدافهم المرحلية والنهائية ؟ وهل سيتمكن من إطفاء فتيل الإشتعال البطيء الذي وصلته النار في جنوب لبنان ؟
أسئلة كثيرة تطرحها زيارة كلينتون للمنطقة، لا سيما وأنها تتم في فترة مفصلية وحرجة من عمر عملية السلام على جميع مساراتها. فالمسارين السوري والبناني معطلين منذ عامين، وحلت لغة الحرب والقتال فيهما محل لغة السلام، ونسيهما أهل المنطقة منذ تولى حزب الليكود السلطة، ولا أحد يتذكرهما إلا عندما تتدهور الأوضاع في جنوب لبنان كما حاصل في هذه الايام. وبصرف النظرعن جدول أعمال الرئيس كلينتون المعد مسبقا فالاعمال العسكرية التي شهدها جنوب لبنان قبل الزيارة فرضت علية بحث أوضاعهما بصورة تختلف عن السابق. وسيجد نفسه ملزما ببذل جهود اساسية لتحريكهما والعمل على تجنب ما هو أسوء. وسلفا يمكن القول أن مواقف نتنياهو وأركانه، وتضعضع وحدة حكومته بعد إتفاق “واي ريفر”، تغلق الأبواب أمام أي جهد رئيسي أو فرعي يبذله الرئيس كلينتون لإستئناف المفاوضات السورية واللبنانية ـ الاسرائيلية. ومن غير المرئي أن يتراجع السوريون عن موقفهم القائم على وحدة المسارين وضرورة استئناف مفاوضاتهم من حيث توقفت في عهد حزب العمل. ويرجح أن تنتهي زيارة كلينتون للمنطقة دون تحقيق نتائج ملموسة تمنع تفجر الأوضاع وإشتعال النيران في جنوب لبنان بعد عودته الى بلاده. وستقوى أكثر فاكثر كلما اقترب الاسرائيليون من الانتخابات. فالسوريون واللبنانيون ادركوا ان وجود نتياهو في السلطة لم يمنح الحلول على مساريهما الاولوية التي قدروها.
إما بشأن مهمته المركزية المتمثلة في معالجة أوضاع المسار الفلسطيني الإسرائيلي وانقاذ اتفاق “واي ريفر” الذي رعاه بنفسه، واستئناف المفوضات حول المرحلة الثالثة من الانسحاب المعلقة وقضايا النهائي المؤجلة، فأركان الادارة الامريكية يعرفون أن الزيارة بحد ذاتها أصبحت أمرا غير فيه من قبل كل القوى اليمينية المتطرفة وطليعتها تكتل الليكود وأركان حكومة نتياهو. والتراجع في نظرها عن الدعوة التي وجهها نتنياهو لكلنتون فضيلة و”ليس عيب”. وبما انه تمسك بالدعوة وصمم على الزيارة فسيتعاملون معه بإعتباره زائرا ثقيل الظل فرض نفسه عليهم، وسيغلقون أمامه الدروب المريحة والسهلة القليلة الباقية، ويفتحون له كل الطرق الصعبة والوعرة جدا ويجعلوها ممرا اجباريا له ولحاشيته. وسيعقّدون مهمته المعقدة أصلا. وأركان البيت الابيض يدركون أكثر من سواهم طبيعة وحجم المشاكل التي تنظر رئيسهم. لاسيما وان وقائع نصف الاول من الفترة المحددة “14 أسبوع” لتنفيذ إتفاق “واي ريفر” بينت أنه كان أقرب الى حقنة مسكنات أعطيت لمريض مصاب بداء خبيث. فبعد تنفيذ المرحلة الاولى “عادت حليمة لعادتها القديمة” كما يقول المثل العربي، وعاد نتياهو لذات الأساليب في خرق ونقض الإتفاقات والتلاعب في تنفيذها. وأظن ان الرئيس كلينتون يعرف تماما أن قرار حكومة نتنياهو تجميد تنفيذ بقية إتفاق “واي ريفر”، ليس ردة فعل وإنفعال عابر على حادث وقع هنا أو هناك، بل نتيجة طبيعية لقناعات الإتلاف الحاكم في إسرائيل وأيدلوجيته المتطرفة ومفاهيمه الأمنية وأطماعه التوسعية في الضفة الغربية، ولا أساس لادعاءات نتياهو بأن الفلسطينيين لم يلتزموا بتنفيذ الإجراءات والخطوات الأمنية المطلوبة منهم، وأنهم يخرقون الإتفاق عندما يطالبون باطلاق سراح السجناء السياسيين، ويتمسكون بحقهم في إعلان دولتهم بعد إنتهاء فترة المرحلة الإنتقالية التي حددها إتفاق أوسلو إذا لم يتم التوصل الى إتفاق حول قضايا الحل النهائي قبل4 أيار القادم. وأظن ان لا أحد يتجنى على نتياهو عندما يقول أن إتفاق “واي ريفر” سقط ضحية الصفقة التي عقدها مع حزب المفدال. حيث فضل إنقاذ حكومته من التفكك والانهيار، وتأجيل حل الكنيست والذهاب لانتخابات مبكرة، على التقدم على طريق السلام مع الفلسطينيين. وسيحاول إغراق كلينتون في دهاليز المسائل الأمنية، ومشاكله الداخلية الحقيقية والمفتعلة.
وطالما أن أن هم نتياهو الرئيسي في هذه المرحلة هو المحافظة على وحدة الائتلاف، وإطالة عمر حكومته أطول فترة زمنية فلا أظن أن زيارة كلينتون ولقاءاته الثنائية والثلاثية بالاسرائيليين والفلسطينيين ستحل هذه المعادلة المعقدة، حتى لو أسفرت عن بيانات مشتركة تؤكد التزام الطرفين بأسس عملية السلام، وبتنفيذ مستحقات إتفاق واي ريفر. فمثل هذه البيانات تكرار لمواقف سابقة لم يتردد نتنياهو عن نقضها. وتجربته الحية مع إدارة كلينتون في تنفيذ الشق الأول من اتفاق “واي ريفر” وقبله اتفاق الخليل تشجعه على ذلك. وعلى اعادة كلينتون وحاشيته وسلتهم فاضية من أي أشياء ثمينة.
واذا كان من المشكوك فيه أن تمارس إدارة كلينتون ضغوط حقيقية على حليفتها اسرائيل والزامها دفع بقية استحقاقات “واي ريفر” فبالامكان سلفا تقدير مصير قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالجولان وجنوب لبنان، ومستقبل مسيرة مفاوضات الحل النهائي عندما تبدأ حول قضايا اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه والعلاقات المستقبلية. ولعل مفيد أن يضع الفلسطينيون والسوريون في الإعتبار بأن الشيء الذي لم يأخذوه قبل وخلال زيارة كلينتون لن يحصلوا عليه من الآن وحتى ظهور نتائج إنتخابات الكنيست المبكرة أو العادية. وعليهم تحضير أوضاعهم الداخلية لمواجهة الاحداث الساخنة التي ستشهدها المنطقة في العام القادم. والشروع في تحرك جدي لإحياء التضامن العربي وعقد قمة عربية يتوجه العرب بعدها موحدين نحو الادارة الامريكية والامم المتحدة والتجمعات الدولية لعقد مؤتمر دولي جديد حول السلام في الشرق الاوسط على غرار مؤتمر مدريد الذي عقد اواخر عام 1991. وأتمنى أن لا تقوم المعارضة الفلسطينية قبل وخلال وبعد زيارة كلينتون بأي عمل سياسي وجماهيري يعقد مستقبلا الاوضاع والعلاقات الداخلية. أو أعمال عسكرية تعرقل المساعي الوطنية لإنتزاع ما يمكن انتزاعه من الحقوق الفلسطينية، وتبرر للادارة الامريكية قصوراتها، وتغطي مواقف نتنياهو الحالية، وتقدم له الذرائع والمبررات لعدم الإلتزام بالاتفاقات القديمة والتحلل من الجديدة التي قد يتفق عليها خلال زيارة كلينتون.