درء أخطار الانتخابات الاسرائيلية يفرض تنسيق المواقف العربية
بقلم ممدوح نوفل في 13/01/1999
حسم الكنيست الاسرائيلي، يوم 4 كانون الثاني، مسألة الذهاب لانتخابات مبكرة. وقبل حل نفسه قيد الحكومة القادمة، وفرض الحصول على أغلبية مطلقة من الاصوات لإعادة الاراضي التي ضمت لإسرائيل مثل القدس والجولان. وارتفعت بسرعة درجة حرارة الصراع حول مقاعد الكنيست ورئاسة الوزراء. وأصبح الفوز فيها هدفا مركزيا لكل الاحزاب وتعرضت وحدتها للتمزق. وشرعت كلها في تكييف مبادئها ومواقفها السياسية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية لصالح تحقيقه. وبدأت تعطيه أولوية على ما عداه، بما في ذلك صنع السلام مع العرب وتوفيرالامن والهدوء لشمال إسرائيل. وانتهج البعض في حملته الانتخابية تكتيك الهجوم الشخصي المباشر واقتحام مواقع المرشحين الآخرين دون تمهيد ناري مسبق. فوصف شاحاك نتياهو انه “رجل خطر على اسرائيل”، وأقدم الآخر على خلع سترته الواقية للرصاص بطريقة استعراضية أمام تجمع ليكودي بعد إطمئنانه لعدم وجود “غرباء”. ولا تزال المعركة مستمرة، ومع استمرارها ستكشف الاحزاب عن مواقفها الحقيقية، وستتعرض المصالح العربية وعملية السلام لقصف مركز من كل الاتجاهات الحزبية.
ويفترض أن لا يكون هناك خلاف فلسطيني أوعربي بين المؤيدين لعملية السلام والرافضين لها على أن إنتقال معركة الانتخابات من الكنيست للشارع الاسرائيلي أدخل المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية فترة جمود جديدة، وعطل تنفيذ الاتفاقات. وفرض على المفاوضين الفلسطينيين إجازة قسرية مدتها 6 أشهر على الأقل. وقطعت الطريق أمام أي محاولات أمريكية لإحياء المفاوضات السورية اللبنانية ـ الاسرائيلية، وأبقاها على حالها معلقة بين الارض والسماء، كما كانت منذ فوز الليكود في إنتخابات عام 1996. وبادرت وزيرة الخارجية الامريكية “أولبرايت” الى إلغاء زيارتها لإسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية. وبدلا من الاهتمام بإنقاذ عملية السلام وتنفيذ اتفاق “واي ريفر” الذي رعاه رئيسها “كلينتون” حصرت إهتمامها في سبل تفتيش ومحاصرة العراق. والواضح أن جود منسق عملية السلام “دينس روس” في المنطقة غير كاف لإعادة تشغيل ورشة المفاوضات بصورة منتجة.
واذا كانت المصالح الوطنية العليا تفرض عدم تحمل الفلسطينيين المسئولية الرسمية عن تعليق المفاوضات فالقيادة الفلسطينية ترتكب خطئا جسيما اذا راهنت على إستئنافها خلال فترة الانتخابات أو سعت لذلك. فاستئنافها يستخدم لتقطيع الوقت وتضليل العرب، ولن يحقق للفلسطينيين أي مكاسب سياسية أو علملية الارض. ويخلق أوهام في صفوف الفلسطينيين، ويربك مهمة استنهاض طاقاتهم في مواجهة المتطرفين الاسرائيلين، والتصدي للاستيطان الزاحف بقوة في الضفة والقطاع. وقد يخدم الحملة الانتخابية لقوى اليمين ويعطي نتياهو وأركان الليكود فرصة إظهار تحديهم لتطلعات الفلسطينيين، وتوجيه الاهانات المتنوعة للمفاوض الفلسطيني وإذلاله أمام الجميع. فمصالح نتنياهو الانتخابية وشروطه الخمسة لتنفيذ بقية اتفاق واي ريفر ـ تراجع السلطة الفلسطينية عن نيتها إعلان الدولة، وقف المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، جمع الاسلحة غير المرخصة، تقليص عدد أفراد الشرطة، وضرب البنية التحتية للارهاب ـ ذريعة مفتعلة هدفها تغطية قرار تجميد تنفيذ الاتفاقات وتعليق مفاوضات الحل النهائي. وإستفزاز الجانب الفلسطيني، واستدراجه لمعركة سياسية وإعلامية تجعله هدفا مركزيا لحملته الانتخابية. يبرز فيها قوة عضلاته وصرامة اجراءاته الامنية والعسكرية. ويظهر صلابته الايدلوجية ويستعيد خطابه السياسي المتطرف، على أمل وقف تفكك الليكود ولملمة أوضاع الائتلاف الحاكم.
ورغم الأزمات المتنوعة التي يمر بها نتياهو وتكتل الليكود وتحالف قوى اليمين، الا انه من المبكر جدا إطلاق أحكام نهائية حول نتائج الانتخابات، والاعتقاد أن فرص فوز نتانياهو من جديد باتت معدومة خطأ جسيم. فأزماته الكثيرة الداخلية والخارجية لم تسقط كل الأوراق القوية التي يمتلكها. والأشهرالاربعة الباقية على فتح صناديق الاقتراع طويلة وتكفي ليعب بها، ويعمل الكثير من أجل تغييرالصورة. فعملية التسوية مع الفلسطينيين والاتفاقات التي انبثقت عنها، رهينة بين يديه يستطيع التصرف بها وفق أهواء الناخبين وبما يخدم بقائه في كرسي رئاسة الوزراء، والشيء ذاته ينطبق على العلاقة مع السلطة الفلسطينية. ولن يتوانى عن إرتكاب حماقات ضد القيادة الفلسطينية، وفرض الحصار والأغلاق على المناطق الخاضعة لها، وإغلاق المطار..الخ. ونتياهو يعرف أكثر من سواه أن وأد عملية السلام، وتمجيد فضائل الاستيطان وتوسيع رقعته وإطلاق العنان للمستوطنيين للبناء في جبل أبوغنيم،، وتمكينهم من الاسيلاء على بيوت جديدة في القدس والخليل، والتهديد بضم ثلثي الضفة الغربية اذا أعلن الفلسطينيون قيام الدولة من جانب واحد..الخ أنغام تطرب لها آذان قواعده الليكود وتستهوي كوادر اليمين الديني والعلماني المتطرف، وتنسيهم أخطاء حكومة الليكود. وتستنفرهم وتستنهض طاقاتهم وتدفعهم باتجاه صعود التلال الفلسطينية وخلق مزيد من الحقائق على أرض الضفة والقطاع والجولان. وتحفزهم للنزول الى شوارع المدن الاسرائيلية في مواجهة منافسيه في معركة رئاسة الوزراء. وتهيجهم وتحث خطاهم نحو صناديق الاقتراع وصب أصواتهم لصالحه باعتباره المرشح الأكثر حرصا على مصالحهم.
ولن يتردد نتياهو المازوم داخليا وخارجيا عن استخدام الورقة اللبنانية. ولن يعجزعن ايجاد الذرائع والمبررات لتفجير الوضع العسكري في جنوب لبنان. ودفع الجيش الاسرائيلي والاذرع الامنية الاخرى نحو القيام، على أبواب الانتخابات، ببعض العمليات الأمنية الخاصة هنا أو هناك. والتحرش المباشر بالقوات السورية المرابطة في لبنان. معتقدا أن هذه الأعمال تساعده على تكريس نفسه كرئيس للوزراء. وغروره يدفعه لإستخلاص دروس مغايرة للدروس التي إستخلصها بيريز من مجزرة “قانا” التي نفذت على أبواب الانتخابات السابقة. وأظنه يبتهل الى الله أن يمّن علية خلال هذه الفترة بعملية عسكرية أو أكثر تنفذها الجهات الفلسطينية المعارضة لعملية السلام وللاتفاقات التي إنبثقت عنها. صحيح ان تنفيذ عمليات قتالية يظهر فشل حكم الليكود بقيادة نتنياهو في توفيرالامن للاسرائيليين، إلا ان إظهار هذا الفشل إبان فترة الانتخابات يزيد المتطرفين تطرفا ويوحد صفوفهم. وينفرالجمهور الاسرائيلي المعتدل من عملية السلام ودعاتها. ويضعف مواقف المعارضة في الانتخابات، لاسيما وأنها لم تفلح هي الاخرى في وقف العمليات وتوفير الأمن للاسرائيليين إبان فترة حكمها.
لا شك في ان نتائج هذه الانتخابات حاسمة في تقرير ماهية الحل الدائم مع الفلسطينيين. وتقرير مستقبل العلاقات الفلسطينية والمصرية والاردنية ـ الاسرائيلية، ومصيرعملية السلام على مساراتها الثلاث. واذا كانت الاحزاب الصهيونية اليسارية بقيادة باراك وشاحاك لم تتخلص للآن من مفاهيمها العنصرية التوسعية، ففوز اليمين الاسرائيلي فيهما بقيادة نتنياهو هو الأخطر على المصالح والاهداف العربية في استعادة اراضيهم المحتلة وبناء مستقبلهم. وسيكون موجها بالاساس ضد عملية السلام ونتائجها التي تحققت للان. وكاف لدفن فكرة صنع التعايش والسلام بين الشعبين لسنوات طويلة. ويفتح أبواب المنطقة من جديد أمام حروب مدمرة للجميع. وكل من لديه قدر من الادراك السليم لأبعاد ونتائج معركة الانتخابات الاسرائيلية على اوضاع المنطقة لا يمكنه إنتهاج سياسة تقطيع الوقت، والبقاء في موقع المراقب، او الدعوة الى نفض اليدين من عملية السلام الجارية. فالسكوت على صعود التطرف في اسرائيل، وعدم بذل الجهد المستطاع لفوز أنصار السلام خطيئة تدفع ثمنها الشعوب العربية اولا. ودرء الأخطار وحماية المصالح الوطنية والقومية العليا يتطلب شروع الدول العربية في تنسيق مواقفها والتحرك على أكثر من جبهة. أولها التخلص من حالة التمزق والهوان التي تجعل الصوت العربي ضعيفا لا تأخذه القوى الكبرى والمحافل الدولية بعين الاعتبار. وتشجع نتياهو وأركان اليمين على خداعهم والتطاول على الحقوق العربية، ونقض الاتفاقات التي يوقعها مع الفلسطينيين.
وبصرف النظرعن المواقف والبرامج التي تطرحها الأحزاب الاسرائيلية فاتفاق قادة حزبي العمل والليكود، بسرعة على إجراءها بعد أقل من أسبوعين من موعد إنتهاء المرحلة الانتقالية “4 أيار”، مؤشرعلى تقاطع مواقف الحزبين حول جعل مسألة قيام الدولة الفلسطينية قضية إنتخابية مركزية، وإبتزاز السلطة وقيادة م ت ف بشأن الإعلان عن قيامها. فنتياهو يعتقد أن تراجع السلطة وتأجيل الاعلان الى ما بعد الانتخابات انتصار لخطه المتشدد. وقيادة حزب العمل ترى في تنفيذه خدمة كبرى لنتنياهو وبقية القوى المتطرفة. ويطالب بتأجيل الاعلان الى ما بعد الانتخابات دون أن يقدم أي التزامات رسمية بالاعتراف بها لاحقا بجانب. ورغم أن معركة الانتخابات الاسرائيلية لا تزال في بدايتها “فوسطاء الخير”، من الامريكان والاوروبيين والعرب رسميين وخبراء، شرعوا في تكثيف تحركاتهم، وتقديم نصائحهم الودية للقيادة الفلسطينية وحثها على التحلي بالصبر وأخذ زمام المبادر وإخراج ورقة إعلان قيام الدولة من بازار الإنتخابات الاسرائيلية بأسرع وقت ممكن، وتعطيل إستغلالها ضد عملية السلام وأنصاره من الاسرائيليين. ومع اقتراب موعد الانتخابات وإرتفاع حرارتها يتوقع ان تتحول النصائح الدولية الودية الى ضغوط عملية تتخذ أشكال متنوعة.
أعتقد ان المصالح الوطنية والقومية العليا تفرض تحويل هذه الورقة الفلسطينية الثمينة الى ورقة عربية يتم التمسك بها بكل قوة. وعدم التراجع عن إعلان قيام الدولة فور انتهاء المرحلة الانتقالية قبل تعهد قوى اليسار الاسرائيلي بالاعتراف الرسمي بها لاحقا، وادراج حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في برامجها الانتخابية. وضمان إعتراف دول السوق الاوروبية بها عند اعلانها، وإعتراف الادارة الامريكية بحق تقرير المصير اذا تعذر عليها التعهد بالاعتراف بالدولة. وان يحدد مسبقا موعدا جديدا للاعلان. فالتاجيل دون تحقيق هذه الضمانات يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الاستراتيجية الفلسطينية والعربية ويفقد هذه الورقة الثمينة قيمتها. والشيء ذاته ينطبق على التأجيل المفتوح.
واذا كانت كل المؤشرات والدلائل الملموسة تؤكد بأن معركة الانتخابات الاسرائيلية ستكون زاخرة بالمواقف الاسرائيلية المعادية للعرب والفلسطينين ومصالحهم العليا، فمن الخطا أن يتصرف هذا المسئول الفلسطيني أو ذاك العربي وكأن معركة الانتخابات شأن اسرائيلي داخلي محض لا يجب التدخل فيه. خاصة وأن المصير الفلسطيني والعلاقات العربية الاسرائيلية دخلت قائمة القضايا الاسرائيلية الداخلية الرئيسية، تماما كما صارت الاوضاع الاسرائيلية الداخلية قضية فلسطينية وعربية. ولا بد من زج ثقلهم السياسي والمعنوي فيها، لجهة اشعار نتياهو وكل مرشحي اليمين بان مغامراتهم العدوانية في الضفة والقطاع جنوب لبنان لن تكون رابحة. وإفهام الشارع الاسرائيلي بأن التصويت لليمين وعودة نتنياهو لرئاسة الوزراء يجلب الكوارث على الجميع دون استثناء. ولابد من العمل على توحيد المواقف واللوائح العربية بصيغة او اخرى، ورفع نسبة تصويت في الانتخابات لصالح ابعاد نتنياهو عن رئاسة الوزراء، وانتصار القوى المؤمنة بصنع سلام حقيقي بين العرب والاسرائيليين، واذا تعذر العثور عليها، وفقا للمفهوم العربي، فلتعطى الاصوات العربية للأقل خطرا وضرارا على مصالحهم وعلى مسألة صنع السلام العادل.