حول العلاقة بين قيام الدولة الفلسطينية وأمن إسرائيل
بقلم ممدوح نوفل في 17/02/1999
عند انطلاق عملية السلام عام 1991، حاول رئيس الوزراء الاسرائيلي “شامير” تجنب التفاوض مع وفد فلسطيني مستقل تشكله م ت ف، وقال “الموافقة على التفاوض مع المنظمة يعني اليوم غرفة وغداً مدينة وبعدها دولة”، وأضاف، و”قيام دولة فلسطينية غرب نهر الاردن خطر استراتيجي على أمن اسرائيل وتهديد لوجودها”. فهل أوشكت نبوءة شامير حول الدولة الفلسطينية أن تتحقق، أم أن متطلبات أمن إسرائيل وشروطها التعجيزية ستعطل قيامها ؟
بصرف النظرعن مبالغة شامير وكل قادة الاحزاب الاسرائيلية في حديثهم عن مسالة الامن، فالواضح أنها عقدة تاريخية حقيقية يعيشها الاسرائيليون، اشكناز وسفارديم، مؤيدون ومعارضون للسلام مع العرب والفلسطينيين. نشأت مع المجازر والمحارق التي ارتكبها النازيون في الثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الاوروبين، أضيف لها في الخمسينات كوابيس من الخوف من العرب الذين يسعون لتدمير دولة اسرائيل وذبح اليهود ورميهم في البحر. ويسجل للقيادة الاسرائيلية بانها أتقنت ركوب رياح الحرب الباردة بين المعسكرين “الرأسمالي والاشتراكي” التي هبت على المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية. واقنعت شعبها ومعظم دول العالم أن العرب المدعومين من السوفيتي يعملون على تدمير دولة إسرائيل. وحولت اسرائيل، لمدى أربع عقود، الى قاعدة متقدمة “لحلف الناتو” وقدمتهم لهم خدمات أمنية كبيرة في مواجهة الشيوعية و”دول حلف وارسو” وحلفائهم من العرب والفلسطينيين. وتلقت بالمقابل الكثير من مقومات الحياة، وبخاصة تطورها العسكري وتقدمها العلمي والاقتصادي، وتطورت قدراتها وخبراتها الامنية. ورغم الدعم المادي والسياسي والمعنوي الذي تلقته اسرائيل من الدول الغربية، وتحولها الى دولة كبرى في المنطقة، الا ان قيادتها ومواطنيها بقوا قلقين على وجودهم، وظلوا يخشون على أمنهم من هجوم يشنه العرب من الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري وجنوب لبنان. ويجب الاعتراف بأن الخطاب السياسي والدعاوي للنظام السياسي العربي والفلسطيني قدم، في تلك المرحلة، للقيادات الاسرائيلية المستلزمات اللازمة للإستمرار في إثارة عقدة الخوف والاضطهاد وتضخيمها، وتعميق الحقد والكراهية في صفوف مواطنيها ضد العرب. وحولته الى قنبلة دخانية غطت به سياستها العدوانية، وموهت على أطماعها التوسعية في الاراضي العربية.
ورغم تخلي العرب بعد سنين عن أفكارهم المتطرفة الداعية الى تدمير دولة اسرايل، ورفض الاعتراف بها او الصلح معها ، ودخولهم في مفاوضات مباشرة معها، واعتراف بعضهم بها، الا انهم لم يفلحوا اقناع العالم بان امنهم مهدد بنسبة اكبر من الاسرائيليين، ولم ينجحوا في نزع ذريعة الامن من يد القيادة الاسرائيلية. ولم يتمكنوا من تعطيل استخدامها كمبرر للهروب من دفع استحقاقات صنع السلام على المسارين السوري واللبناني، وإطالة أمد المفاوضات على مسارها الفلسطيني، والتهرب من تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل بين الطرفين، وعدم احترام التواريخ التي تضمنتها.
وبصرف النظرعن المواقف العربية والاسرائيلية السابقة، وعن نتائج سبع سنوات من المفاوضات مع الفلسطينيين، فإنتهاء الفترة الانتقالية التي أسسها اتفاق اوسلو، ومرحلة الحكم الذاتي الانتقالي في 4 أيار القادم 1999، يضع الفلسطينيين والاسرائيليين وجها لوجه أمام مسائل أمنية قديمة وجديدة. فالطرفان إقتربا من موضوع الدولة الفلسطينية، ومن قضايا الحل النهائي، “القدس، الاستيطان، اللاجئون، الحدود، الامن الخارجي والعلاقة مع الجوار، والمياه”، وكلها مسائل ذات أبعاد أمنية حساسة سريعة الاشتعال. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني وعربي، بعد تجربة 30 شهرا من المفاوضات مع حكومة الليكود، على أنه لا أفق للتوصل لأي اتفاق حول هذه القضايا الحساسة مع قوى اليمين الاسرائيلي اذا عادت للسلطة. فقناعاتها الايدلوجية وممارساتها العملية تؤكد انها ستبقى متمسكه بموقفها القائم على مصادرة الاراضي والتوسع في الاستيطان، وجعل الحل الانتقالي حلا نهائيا للقضية الفلسطينة، ومنح الفلسطينيين حكما إداريا ذاتيا موسعا في أحسن الاحوال. وهم يعتبرون قيام دولة فلسطينية غرب نهر الاردن مسألة حياة أو موت، وقضية مصيرية تمس بوجود إسرائيل وبأمنها الإستراتيجي. والمنظرون والخبراء الإستراتيجيون اليمينيون ينظرون لها، اذا قامت، كثعبان يرقد مع دولة اسرائيل داخل فراش واحد وبإمكانه لدغها يوما ما لدغات قاتلة. ويصرون في اي حل نهائي على قضم أكثر من نصف الضفة الضفة الغربية وثلث قطاع غزة، وضم المستوطنات المقامة على أراضيها باعتبارها ضرورات حيوية لأمن اسرائيل. ورغم إدراك الجميع لتفوق اسرائيل عسكريا على العرب مجتمعين وامتلاكها أسلحة نووية، وأن الدولة الفلسطينية سوف تكون ضعيفة عسكريا ومرتبطة إقتصاديا لسنوات طويلة بإسرائيل، فالقوى الاسرائيلية بيسارا ويمينها موحدة حول رفض عودة اللاجئين، وتقاسم المياه الفلسطينية، وبقاء القدس موحدة وعاصمة أبدية لاسرائيل وحدها. ولا خلاف بينها حول مفهوم أمن اسرائيل بابعاده الاستراتيجية، وجميعها تعبر سرا وجهارا عن ثلاث مخاوف أمنية رئيسية: الأول، خطر وقوع هجوم مباغت تشنه الجيوش العربية يوما ما ضد اسرائيل، كما جرى في حرب أكتوبر 1973، تكون أراضي الضفة الغربية وقوات السلطة الفلسطينية رأس حربة له. والثاني تحول الدولة الفلسطينية يوما ما الى دولة معادية تسعى لتحقيق طموحات الفلسطينيين في فلسطين التاريخية وإعادة اللاجئين والنازحين الى بيوتهم. وان تستعين يوما ما بقوى خارجية معادية لإسرائيل، وبالفلسطينيين فيها لتحقيق هذه الاهداف. والثالث، ان يقوم المتطرفون الفلسطينيون بتنفيذ عمليات إرهابية عبرالحدود الجديدة مع الدولة الفلسطينية.
وتؤكد مسيرة عملية السلام والاتفاقات التي تم التوصل اليها ان هذه المخاوف تحكمت بالموقف الاسرائيلي في كل المفاوضات التي تمت في عهد حزب العمل كما الليكود. والمداولات الاولية حول الموضوع الامني تشير الى انها ستتحكم في المفاوضات اللاحقة مع كل الاطراف العربية. وستسعى، كتدبير وقائي، الى فرض قيود عسكرية وترتيبات أمنية تفصيلية، مع كل طرف على انفراد، يتم صياغتها في إتفاقات مشهود عليها دوليا،. وستصر على اخضاع أي إتفاقات أمنية مع السوريين واللبنانيين لرقابة ثنائية مشتركة، ولن تكتفي برقابة أمريكية أو دولية مثلا. أما تقبل فكرة التعايش مع الفلسطينيين في دولتين متجاورتين فستبقى رهن نجاح الفلسطينيين في معالجة عقدة الامن وتطمين المواطنين الاسرائيليين على مصيرهم . فلا يمكن لأي حكومة اسرائيلية، عمالية أو ليكودية، الأخذ بخيارقيام الدولة الفلسطينية إلا إذا توافرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيده، ولا تراه خطرا جديا على أمنها، بل يوفره على نحو أفضل مما هو عليه الان. وعلى المفاوضين الفلسطينيين ان يتوقعوا اسقاط الاسرائيليين في مفاوضات الحل النهائي كل ما له علاقة بامن الفلسطينيين، ارض وشعب، وان يصروا يمينيين ويساريين على ضمان: أولا/ تجريد الضفة الغربية وقطاع غزة من السلاح الثقيل، وضمان عدم قيام الدولة الفلسطينية بتصنيعه. وعدم التزود بالدبابات وبالمدافع المضادة لها، وبالطائرات والأسلحة المضادة لها. وأن لا تمتلك قوة بحرية قوية مسلحة باسلحة ثقيلة حديثة. وذات الشيء ينطبق على القوى الجوية. وستصرعلى بقاء المجال الجوي لمناطق الضفة وغزة والقدس تحت السيطرة الأسرائيلية المطلقة. وبقاء المياه الإقليمية الفلسطينية تحت راقبتها الدائمة وسيطرتها الامنية المطلقة. ثانيا/ ضمان سيطرة الاجهزة الامنية الفلسطينية على الأمن داخل حدود “الدولة الفلسطينية”، ومنع تحول أراضيها الى قواعد إنطلاق لعمليات عسكرية صغيرة او كبيرة ضد إسرائيل، وضد الاسرائيليين وضمنهم المستوطنين. ومنع التحريض ضدها او القيام بأعمال عنف ضد مواقعها المدنية والعسكرية. وضمان استمرار صيغ التنسيق الأمني المشترك وتطويرها حسب الحاجة ووفقا لتطور الأوضاع ميدانيا. واخضاع الامن الفلسطيني لفترة طويلة من التجربة والاختبار. ويمكن اعتبار الشق الأمني من إتفاق “واي ريفر” نموذج مصغر لما ستسعى لفرضه على “الدولة الفلسطينية”. ثالثا/ إجراء تعديلات جوهرية على حدود عام 1967، ونشر الجيش الاسرائيلي على طول الحدود مع الاردن. والاحتفاظ بعدد من القواعد العسكرية القوية، واقامة منشأات الإنذار المبكر، في مرتفعات الضفة الغربية وعلى سواحل قطاع غزة وحدوده مع مصر، وحيث تراها ضرورية لأغراض الأمن الأستراتيجي والأعمال الإستخبارية اللاحقة. مع ضمان حرية وسلامة حركة الجيش الإسرائيلي من والى هذه القواعد، وتعاون الفلسطينيين في حمايتها من أي إعتداءات محلية. رابعا/ ضمان عدم قيام الأجهزة الأمنية العسكرية الفلسطينية ببناء أية تحصنات عسكرية أرضية قوية من نوع زرع الألغام وحفر الخنادق على الحدود وإقامة السواتر وبناء الدشم القتالية..الخ. خامسا/ استمرار مشاركة الجيش الإسرائيلي في الإشراف على المعابر الحدودية المؤدية من والى خارج أراضي السلطة الفلسطينية، بما في ذلك الموانئ والمطارات والممر بين الضفة وغزة. وسوف تصرعلى منع تدفق اللاجئين والنازحين الى أراضي الدولة الفلسطينية اذا قامت. سادسا/ تعهد “الدولة الفلسطينية” بعدم الدخول في أحلاف أو اتفاقات عسكرية معادية لإسرائيل.
ورغم أن شباك مفوم الامن الاسرائيلي الاستراتيجي اهتزت خلال خمسين عاما من الصراع أكثر من مرة، وأكدت التجارب الملموسة، في أكثر من محطة بارزة، ان إحتلال أراضي الغير بالقوة، والتفوق العسكري لم ولا يوفران الامن الكامل لاسرائيل، الا ان مخاوفها الامنية، المقرونة بالمطامع التوسعية، وبالشعور بالتفوق العسكري والاقتصادي والحضاري، تنسيها كل الدروس المستخلصة من التجربة بما في ذلك تلك التي إستخلصها خبراؤها الامنيون من الانتفاضة. وأظن ان استمرار تمسك القيادة الاسرائيلية بمفاهيم الامن القديمة، سوف يعطل تقدم المفاوضات القادمة، ويطيل أمد الصراع سنوات طويلة، ويجعل طريق تطور”الكيان الفلسطيني” إلى دولة مستقلة طريقا مؤلما ودمويا.
ويفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني على أن المطالب والشروط الامنية الاسرائيلية المذكورة اعلاه تبقى الاراضي الفلسطينية تحت الاحتلال ولا تغير شيء في احوال الفلسطينيين، وتفقد اي كيان فلسطيني أدنى وابسط مقومات السيادة والاستقلال حتى لو سمي دولة. ويجب ان يقابلها موقف فلسطيني شديد الوضوح يقوم على إفهام المواطن واقناع المفكر والحاكم في اسرائيل بانهم لا يستطيعون جمع الامن والسلام، والتوسع في الاراضي العربية وقهر الفلسطينيين على سطح واحد. وإقناع العالم بان لا أمن ولا استقرار في المنطقة بدون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي التي احتلت عام 1967، وأن أمنهم واستقرارهم سوف يبقيان مهددان اذا لم تقم لهم دولة، اسوة ببقية شعوب المنطقة، يطورون من خلالها حضارتهم ويوحدون شعبهم.