حو ل تأجيل اعلان الدولة وذريعة الانتخابات الاسرائيلية

بقلم ممدوح نوفل في 15/04/1999

واجهت الوفود الفلسطينية في كل لقاءاتها الدولية والعربية المكثفة التي عقدتها مؤخرا سؤال هام يتعلق بتوقيت اعلان قيام الدولة فور انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 أيار القادم، وحول مدى تأثير الخطوة الفلسطينية على نتائج الانتخابات الاسرائيلية المقرر اجراؤها في 17 ايار، ومسيرة عملية السلام والاتفاقات التي تم التوصل لها بين الطرفين. وسمعت القيادة الفلسطينية نصائح دولية وعربية كثيرة، ضمنها نصائح المعارضة الاسرائيلية وقيادات الوسط العربي في اسرائيل، بتأجيل اعلان قيام الدولة الى ما بعد الجولة الثانية من الانتخابات الاسرائيلية وتشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة في آب او ايلول القادم. وهناك من أكد استعداده الاعتراف بالدولة في الوقت الذي تحدده القيادة الفلسطينية، حسب قرارات الشرعية الدولية 181و242 وأسس عملية السلام. واقترح آخرون تأجيل الاعلان فترة لا تزيد عن 6 أشهر، وتحدثت دول السوق الاوروبية المشتركة عن فترة حدها الاقصى عام واحد. ولا نذيع سرا اذا قلنا بأن في الهيئات القيادة الفلسطينية “سلطة وطنية، لجنة تنفيذية، المجلسين المركزي والتشريعي” اتجاه قوي يؤيد مبدأ التأجيل ويحذر من عواقب الاقدام على الاعلان من جانب واحد. وآخر واسع غير منظم يشدد على ضرورة اعلان قيام الدولة فجر 5 أيار، والشروع في بسط السيادة على كل الاراضي التي احتلت عام 1967 فور انتهاء المرحلة الانتقالية. ويسوق دعاة التأجيل بجنسياتهم وانتماءاتهم المتعددة ودوافعهم المختلفة حجج ومبررات متنوعة أهمها: اولا/ ان إعلان الدولة على أبواب الانتخابات الاسرائيلية يخدم اليمين الاسرائيلي ويضعف مواقف قوى اليسار في انتخابات الكنيست، ويزيد من فرص نتياهو في الفوز من جديد برئاسة الوزراء. ويوفر له فرصة ليستعرض صلابته الايدلوجية، ويقدم له الذرائع لاظهار حزمه السياسي والعسكري ويشن حرب شعواء ضد قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزتها ومؤسساتها، ويعطيه المبرر لاتخاذه قرارات خطيرة يصعب معالجتها لاحقا. أخطرها توجيه ضربة عسكرية لقوى السلطة الفلسطينية والمناطق الخاضعة لها، والاقدام على ضم أقسام واسعة من أراضي الضفة والقطاع المصنفة في الاتفاقات تحت بند C.
ثانيا/ عدم قدرة الدولة الفلسطينية المنوي الاعلان عنها على تجسيد سيادتها وفرض قوانينها وسلطتها فوق ما يزيد على 70% من أراضيها الخاضعة للاحتلال. والاوضاع الفلسطينية الداخلية غير جاهزة للنهوض بمتطلبات الاعلان وتحمل نتائجه السياسية والعملية. وموازين القوى بين الطرفين تحوّل الاعلان الى مغامرة غير محسوبة، وقفزة سياسية شكلية “دونكيشوتية” لاتغير شيئا في حياة الناس، ولا تحسن واقعهم المر، بل تزيدهم قلقا واحباطا، وتزيده تعقيدا ومرارة. وهناك أقلية فلسطينية بسيطة تعتقد أن فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع لم تعد واقعية، ويتصورون انها لم تعد تمثل حلا للصراع، ويتبنون فكرة دولة ثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية.
ثالثا/ توقيت اعلان قيام الدولة من جانب واحد في 5 أيار مرفوض دوليا وعربيا ويؤدي الى تصادم الفلسطينيين مع الادارة الأمريكية وبمعظم دول السوق الاوروبية المشتركة وعدد من الدول العربية. والتأجيل بضعة أسابيع يكسب الفلسطينيين اسنادا سياسيا ودعما اقتصاديا دوليا، ويحاصر مواقف القوى اليمينية المتطرفة، ويؤمن إعتراف اوروبا بالدولة الفلسطينية في حال التأجيل بضع أسابيع. ومن صبر سنين طويلة بامكانه الصبر شهور اضافية قليلة.
بصرف النظر عن دوافع دعاة التأجيل فالقراءة الموضوعية للمبررات المذكورة اعلاه تظهر حسن نوايا بعض أصحابها من فلسطينيين وعرب وقوى دولية، وانطلاقهم من حرص صادق على الحقوق الفلسطينية. وهناك أيضا من إنطلق من مصالح مؤقتة وطرح موقفه بسوء نية ودوافعه غير بريئة. أقلها تجنب المشاركة في تحمل تبعات الاعلان، وتحاشي الصدام مع اسرائيل وأنصارها في العالم. وتعمد القفزعن حسنات وايجابيات الاعلان على مستقبل مسيرة السلام وكل أوضاع المنطقة، وبالغ في تضخيم ردود الفعل السلبية. ولا يمكن فهم موقف مجلسي النواب والاعيان الامريكيين من الموضوع وخضوع الادارة لهما، خارج سياق موقف اللوبي الصهيوني المعادي للحقوق الفلسطينية وضغطه باتجاه دعم نتنياهو في الانتخابات.
واذا كان رأي الأقلية الفلسطينية الداعي للتخلي عن الدولة المستقلة لصالح فكرة الدولة الديمقراطية الموحدة خارج سياق البحث وغير مطروح على أجندة اي من الاطراف في هذه المرحلة، فالادعاء بان ميزان القوى والواقع القائم وبخاصة سيطرة الاحتلال على معظم الارض يفرغ الاعلان من مضمونه ولا يغير شيئا في حياة الناس..الخ تنقصه شمولية الرؤيا لما يجري في كل انحاء ميدان الصراع، ويستسلم للواقع الذي خلقه الاحتلال. ويعرض الحقوق الفلسطينية للتآكل، ولا يرى التفاعلات التي يمكن ان يحدثها الاعلان على نضال الفلسطينيين من أجل تغيير واقعهم، ولا يرى قيمته العملية والمعنوية في تغيير قواعد اللعبة السياسية الجارية وشارفت على نهايتها.
اما تحميل اعلان قيام الدولة “اذا تم في موعده” مسئولية فوز اليمين في الانتخابات فالواضح انه ينطلق من مبالغة مقصوده هدفها قمع وارهاب القيادة الفلسطينية. والبريء منه ينطلق من قراءة خاطئة لطبيعة قضايا الصراع التي تنخرالمجتمع الاسرائيلي منذ سنوات، ويستند لحسابات غير دقيقة لثقل الاحزاب الاسرائيلية فيه. فالمجتمع الاسرائيلي منقسم على نفسه منذ فترة طويلة حول قضايا داخلية وخارجية كثيرة متنوعة. واتجاه حركته نحو اليمين صاعدة، واطروحات اليسار مرتبكة. وكل استطلاعات الراي تبين ان الاحزاب الصغيرة ستنمو على حساب الحزبين الكبيرين، وستزيد عدد مقاعدها في الكنيست ويقوى تاثيرها على القرار السياسي. والفرق بين مرشحي رئاسة الوزراء في الجولة الثانية من الانتخابات سوف يتراوح بين 05% و1% فقط. وأظن أن حسمها لصالح مرشح اليسار لا يتوقف على اعلان قيام الدولة او تأجيله، بل على وحدة اليسار حول برنامج واضح يعالج بجرأة قضايا الصراع الداخلية والخارجية وضمنها الصراع العربي الاسرائيلي، وعلى حجم الجهد المبذول في الشارع لرفع نسبة المصوتين العرب واليهود لصالح مرشح اليسار، ومدى نجاح حزب الوسط “الثالث” بزعامة مردخاي في التأثير على جمهوره الانتخابي “الشرقيين” واقناعهم بمنح أصواتهم في الجولة الثانية لمرشح اليسار “براك”. ولعل مفيد القول ان أخطر المواقف هي التي قد ترتفع لاحقا وتحمل الفلسطينيين في اسرائيل مسئولية فوز مرشح اليمين ” نتياهو” برئاسة الوزراء، وان تلقي القيادة الفلسطينية بهذه المسئولية على الاحزاب والفعاليات العربية في اسرائيل، وتحمل “عزمي بشارة” المرشح العربي لرئاسة الوزراء المسئولية عن هزيمة مرشح اليسار “باراك” اذا هزم.
اما دعوة البعض لتأجيل الاعلان بضع شهور فالواضح انها انسحاب غير منظم من المعركة، وهروب مبكر من مواجهة الحقيقة المرة القائلة بان عملية السلام التي عرفناها في اوسلو وطابا والخليل وواي ريفر انتهت. وعلى أنصار ودعاة التأجيل في السلطة والمنظمة والمجلسين المركزي والتشريعي ان يدركوا بان تاريخ 4 أيار لن يعود وقد لا يتكرر. ودعوتهم للتأجيل “المحدود” الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية، تفقد الفلسطينيين زمام المبادرة وتشكل سابقة خطيرة تفتح الابواب أمام خيارات أخرى، وتحمل في طياتها مخاطر عدم القدرة على الاعلان لسنوات طويلة بغض النظر عن الذي سيفوز في الانتخابات الاسرائيلية. ففوز الليكود فيها يعني اصطدام اعلان الدولة بموقف اسرائيلي رسمي يرفض بالمطلق فكرة قيام دولة فلسطينية يصعب اختراقه كونه يستند الى أغلبية شعبية. وأجزم بان دعاة التأجيل انفسهم سيسرعون الخطى بعد ظهور نتائج الانتخابات نحو التخلي عن التزاماتهم، واختراع حجج مبررات جديدة لتأجيل جديد. وممارسة ضغوط جديدة على القيادة الفلسطينية وتقديم نصائح متنوعة منها: عدم تحمل مسئولية وأد عملية السلام، المحافظة على الاجواء الدولية المساندة للحقوق الفلسطينية، عدم التصادم مع نتنياهو العائد بقوة، وعدم تقديم الذرائع له لالغاء ما أنجز في الاتفاقات..الخ ويخطئ من يعتقد أن فوز اليسار يمهد الطريق امام الاعلان، ويعبد الطريق أمام بسط السيادة الفلسطينية على الارض. صحيح ان حزب العمل لا يعارض من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية، لكن فوزه بفارق بسيط يبقيه خاضعا لابتزازات المتطرفين وعاجزا عن اتخاذ قرارات استراتيجية. وشروطه التعجيزية، وبخاصة ربط قيامها بنتائج مفاوضات الحل النهائي، تدخل الجميع في متاهة المماطلة والتسويف وتجعلها أقرب الى اوهام تفرخ احلام يقظة. وتبقي الدولة اذا قامت “بعد زمن طويل” تحت سقف حكم ذاتي مزين بلباس دولة. خاصة وان قيادة حزب العمل بزعامة براك تصرعلى ان تسفر هذه المفاوضات سلفا عن موافقة فلسطينية: على بقاء مدينة القدس عاصمة موحدة لاسرائيل، واجراء تعديلات اساسية في الحدود وضم اجزاء واسعة من الضفة الغربية، وبقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة كما هي وضمها لاسرائيل. ويرفض عودة اللاجئين..الخ
اعتقد بان القيادة الفلسطينية ترتكب خطأ استراتيجيا ان هي خضعت للابتزاز واعتمدت على الضمانات الدولية غير الملزمة لاحد وأخذت بخيار التأجيل. وربطت المصير الفلسطيني بعد انتهاء المرحلة الانتقالية بنتائج الانتخابات الاسرائيلية، ووافقت على تمديدها بمبادرة ذاتية وبالاستناد فقط الى وعود فردية تقدمها بعض الدول حتى لو كانت الولايات المتحدة الامريكية في مقدمتها. والذاكرة الفلسطينية تختزن مآسي تاريخية وراهنة كثيرة سببتها المراهنة على مثل هذه الوعود. واذا كان التقليل من قيمة المواقف الدولية والعربية قد يلحق بعض الاضرار المؤقتة بالعلاقات الفلسطينية الخارجية، فالمبالغة فيها وتضخيمها يقود الى تقديرات وقرارات خاطئة تلحق بالمصالح الوطنية العليا اضرارا فادحة ذات ابعاد استراتيجية.