الحلقة 2 عملية السلام نسفت مرتكزات النظام السياسي القديم
بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999
القسم الثاني إنقسام سياسي عميق له ما يبرره
بعد صراع مع الذات ومع الادارة الامريكية حول شروط المشاركة في المؤتمر وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على المشاركة في عملية السلام وفقا للشروط المجحفة التي تضمنتها رسالة الدعوة الامريكية السوفيتية. فالخيار الآخر كان يعني وقوفها عكس تيار دولي اقليمي جارف، وتعرضها لخطر التصفية السياسية ان لم تكن الجسدية ايضا كما حصل مع اباو جهاد وابواياد وابوالهول. لاسيما وأنها خرجت من حرب الخليج مطاردة دوليا وعربيا بالاضافة للمطاردة الاسرائيلية المتواصلة. ومصنفة ضمن القوى التي آزرت النظام العراقي في إحتلال الكويت. وبعد إبلاغ وزير الخارجية الأمريكية “جيمس بيكر” بالموافقة المبدئية على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بشقية الثنائي والمتعدد الاطراف، إرتفعت وتيرة الخلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، بلغ حد التشكيك في شرعية قيادة م ت ف. وامتد الخلاف للداخل. وإنقسم النظام السياسي في الداخل والخارج على نفسه إنقساما عميقا، إختلف عن كل الإنقسامات التي سبقته. وكان للإنقسام السياسي ما يبررة، ولوجود معارضة وطنية قوية لمفاوضات السلام ضرورات وطنية. فالمسائل المطروحة على بساط البحث تمس المصير الوطني برمته، والمشاركة الفلسطينية حسب رسالة الدعوة تتعارض مع ميثاق الاطار الجامع للجميع “المنظمة”. واسسها ناقصة وتهدد استقلالية القرار الفلسطيني حيث تقرر أن تكون في أطار وفد أردني ـ فلسطيني مشترك، وأن لا يضم الوفد المفاوض أي ممثل عن الخارج والقدس. وأن يتم تناول القضايا الفلسطينية على مرحلتين من المفاوضات “انتقالية ونهائية”.
ورغم أن المشاركة في عملية السلام تمت بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني، وبعده المجلس المركزي واللجنة التنفيذية، أعلن جناح من النظام السياسي الفلسطيني رفضه لمؤتمر السلام، وظهر تعبير “القوى المعارضة لفريق مدريد”. واعلنت المعارضة الحرب ضد مؤتمر السلام وضد القيادة الفلسطينية التي وافقت على المشاركة فيه. ورفضت الأخذ بمبدء تولي الاغلبية دفة القيادة واحتفاظ المعارضة بمواقفها، وأعلنت إنسحابها من الاطر القيادية التنفيذية للمنظمة، وشكلت اطارا خاصا بها جمعها كلها خارج أطر منظمة التحرير. وتبنت فكرة إجراء إستفتاء شعبي حول المشاركة في عملية السلام. وكأن إجراء مثل هذه العملية في الداخل والخارج يمكن أن تتم، في حينه، بقرار فلسطيني، وكأن الدول العربية وقوات الاحتلال ستوافق على اجراء مثل هذا الاستفتاء. وكثر الحديث في أدبيات المعارضة وبياناتها عن أسس اتخاذ القرارات السياسية في المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وطالب بعض أطراف المعارضة “باعتماد النصاب السياسي مقابل العدد الميكانيكي للاصوات في الهيئات للمنظمة”، أي استبدال “ديمقراطية التراضي” بإعتماد عدد الفصائل والتنظيمات وليس عدد أعضاء الهيئات، كأساس لتقرير المواقف الوطنية، ورسم التوجهات السياسية المركزية لمنظمة التحرير. وإشتق البعض “شعبية وديمقراطية وحماس” من هذه المقولة فكرة تعليق أعمال الهيئات الوطنية المشتركة، وإجراء “حوار وطني شامل” خارج الأطر والمؤسسات التشريعية، وهي صيغة رديفة “لديمقراطية التراضي”. وعليها إستند في الطعن في شرعية تفويض الهيئات القيادة للمنظمة لوفد من الداخل للتفاوض بإسمها. وشكلت جبهة رفض جديدة، خارج أطر المنظمة، مكررة تجربة جبهات الرفض الفاشلة في السبعينات. ولم تتورع عن نقل خلافاتها وصراعاتها الى قلب الإنتفاضة وأطرها القاعدية والقيادة. وفرضتها كأولويات على حساب القواسم الوطنية المشتركة، في حين كانت المصلحة الوطنية العليا كانت تفرض وعدم إنزلاق العلاقات الوطنية عن مساره الديمقراطي، وعدم نقل الخلافات الى أطر الانتفاضة، وبقاء تصارع الأفكار والآراء ضمن دائرة الأهداف الإستراتيجية للشعب الفلسطيني. ورفضت المعارضة القيام من داخل المؤسسة بدور المراقب لمسيرة التفاوض ومدى تطابقها مع قرارات المؤسسات التشريعية، وإشعال الضوء الاصفر والأحمر في الشارع لتعطيل كل محاولات تجاوزها، ومنع الأغلبية الإقتراب من المنزلقات السياسية الخطرة التي تلحق أضرارا إستراتيجية بالقضية الوطنية. ورفض الاخذ بمقولة توحيد طاقات الجميع، معارضة وقيادة، للنهوض بالمهام المشتركة التي يمكن إشتقاقها في مواجهة سياسة الإحتلال. وبعد صراع مع المبعوث الامريكي “بيكر” ومع الذات وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على تشكيل الوفد المفاوض من الداخل، والعمل من خلال المؤتمرعلى تحسين شروط المشاركة الفلسطينية.
بالمشاركة في ذلك المؤتمر دخل النظام السياسي انعطافة سياسية وتنظيمية حادة. وإنتقل الى واقع جديد، وعبر مرحلة جديدة نوعية من حياته وعلاقاته الداخلية والخارجية ما زلت مستمرة حتى الآن. وإذا كان لا مجال في هذه الورقة للبحث التفصيلي في المواقف التفاوضية للطرفين في مفاوضات مدريد ـ واشنطن، وفي تكتيكات القيادة الفلسطينية لتعطيل تلك المفاوضات وتكريس مشاركة م ت ف مباشرة فيها، والتخلص من صيغة الوفد المشترك، فوقائع الحياة السياسية تأكدت أن قيادة الخارج كانت تضمر موقفا يعتبر الشروط التي فرضت على المشاركة الفلسطينية، وبخاص صيغة تشكيل الوفد من الداخل وفي اطار مشترك مع الاردن، مؤامرة إسرائيلية أمريكية أردنية ضد م ت ف وضد الإستقلال الفلسطيني. هدفها شطب القرار الوطني المستقل، وخلق قيادة بديلة، وإحياء الخيار الأردني من جديد بعدما أنهته الانتفاضة. وصممت منذ البداية على السيطرة على دور الوفد والتحكم في مواقفه وتحركاته وأظهار ذلك للعالم وللقيادة الإسرائيلية. ورغم إعلان الوفد قبل ذهابه الى مدريد، عن ولائه لقيادة م ت ف، بلغ حد مطالبتها بإصدار قرارات وكتب تكليف رسمية لكل عضو من أعضاء الوفد، إلا أن القلق من القيادة البديلة بقي مسيطرا على ذهن قيادة م ت ف في الخارج، وظل متحكما في مواقفها وتوجيهاتها للوفد. ومن جانبها لم تقصر قيادة المعارضة في الخارج في مهاجمة الوفد المفاوض، وفي تحريض القيادة الشرعية ضده، وتخويفها من القيادة البديلة، رغم معرفتها أن الوفد ينفذ سياسة فلسطينية ولا يقررها. وبعد انعقاد مؤتمر مدريد وإنطلاق جولات المفاوضات واحدة تلو الاخرى ظلت مواقف قيادة م ت ف تدفع الوفد باتجاه التشدد والتطرف، وبذات الوقت كانت ترسل إشارات للأمريكان والإسرائيليين تبدي فيها مرونة سياسية مشروطة بجلوسها مباشرة خلف طاولة المفاوضات. خلاصتها أن الحل مع قيادة م ت ف أسهل من الحل مع وفد لا يملك القرار. وخلال مفاوضات واشنطن أخطأ شامير مرتين، الأولى حين إعتقد بأنه وحدة الذي يعمل على تعطيل تقدم المفاوضات على مسارها الفلسطيني، والثانية عندما هرب من الضغوط الأمريكية باتجاه الإنتخابات. فتعطيل التقدم في المفاوضات كان هدفا للقيادة الفلسطينية في الخارج بمقدار ما كان هدفا له. ونتائج إنتخابات أيار 1996 أطاحت به وأخرجته من مبنى رئاسة الوزراء وأخرجت حزبه من السلطة.
بعد فوز حزب العمل في الإنتخابات، وجدت نفسها حكومة اسرائيل الجديدة برئاسة رابين أمام اللوحة التالية: صراع مزمن لم تحله الحروب، وإنتفاضة مستمرة، وقيادة فلسطينية تقترب من الواقعية وتبدي إستعدادا للدخول في مساومة تاريخية، وإدارة أمريكية راغبة في تواصل المفاوضات وفي ايصالها الى نتائج ملموسة، ومفاوضات إسرائيلية فلسطينية واسرائيلية عربية متعثرة. وبعد فتحها ملف المفاوضات تبين لها أن طريق مدريد ـ واشنطن شبه مقفلة، وأن الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة د. حيدر عبدالشافي غير قادرعلى تقديم التنازلات اللازمة للتوصل للإتفاقات المطلوبة في الأوقات المطلوبة. ويصر صباح مساء على دور مباشر لقيادة المنظمة. ويقول جهارا “على كل من يرغب في الإتفاق مع الفلسطينيين أن يتوجه مباشرة نحو م ت ف ويجلس مع قيادتها”. أمام هذا الموقف، وتحت تأثير موقف الناخب الإسرائيلي الذي إنتخبه على أساس الوصول الى سلام مع العرب، حاول رابين كسر جمود مفاوضات واشنطن وقدم إغراءات للوفد الفلسطيني عله يقبل تجاوز المنظمة ويعفيه من الجلوس معها. إلا أن الوفد رفض الإغراءات. ولم يكن أبوعمار بغافل عما يدور، بل كان واقفا للوفد ولرابين بالمرصاد. ومرة أخرى خلقت المفاوضات فرصة كبيرة لتعزيز موقع الداخل في إطار النظام السياسي الفلسطيني، وبلورة صيغ جديد من العلاقة التنظيمية الرسمية بين الداخل والخارج، وداخل الفصائل. إلا أن قيادات الداخل ترددت مرة أخرى في تحمل مسؤولياتها الوطنية ولم تستثمر الفرصة، وقبلت أن يبقى دورها تنفيذي وإستشاري محدود. وحرص الوفد المفاوض أكثر فاكثرعلى إظهار ولائه لقيادة م ت ف. ولاحقا إلتزم حرفيا بالتعليمات الخطية والشفوية التي كان يتلقاها، وأبدى إنضباطا مذهلا للأسس العلاقات الداخلية شبه العسكرية، رغم قناعته في كثير من الأحيان بعدم صوابيتها وتلحق أضرارا بالموقف التفاوضي الفلسطيني.
بعدها تردد رابين في فتح مفاوضات مباشرة مع قيادة م ت ف وحاول التهرب والمراوغة، فتقدم بيريز وطاقم الخارجية الاسرائيلية بقيادة يوسي بيلن باتجاه جس نبض المنظمة وإستطلاع مواقفها. وعندما إلتقطت السنارة الإسرائيلية طرف الخيط الفلسطيني حاول رابين الهروب من شر التفاوض مع المنظمة ومع ياسرعرفات، لكنه لم يفلح، ولم يصمد طويلا. وبعد 8 أشهر من المفاوضات السرية توصل سرا ممثلوا م ت ف والحكومة الاسرائيلية في في 18/آب/1993 في اوسلو لاتفاق “اعلان المبادىء حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية”. وأصبح رابين أحد أبطال قصة الأتفاق السري الذي عرف باتفاق أوسلو، ونال مع بيريز وأبوعمار جائزة نوبل للسلام، ولاحقا دفع رابين حياته ثمن ذلك.
أوسلو مولود شرعي لكنه لم يعالج الصراع المزمن
بصرف النظر عن الطريقة التي أدار فيها الخارج الفلسطيني “خلية أوسلو” المفاوضات فاتفاق أوسلو مولود شرعي ولد بصورة طبيعية تماما. فالمفاوضون والموقعون على الإتفاق من الطرفين يمثلون شعبيهما تمثيلا رسميا، وحصل الاتفاق على مصادقة مؤسساتهما التشريعية. ولا مبالغة في القول بأنه كان أشبه بزلزال قلب أوضاع النظام السياسي الفلسطيني راسا علىعقب. وإذا كان سابق لأوانه إصدار حكما موضوعيا نهائيا على الإتفاق ونتائجه الاستراتيجية البعيدة، فوقائع الحياة كشفت تسلسل منطقي لأحداث وتطورات سياسية أقليمية ودولية فرضت على الطرفين التوصل لاتفاق، والإنقلاب على مفاهيمهم وقناعاتهم التي آمنوا بها سنوات طويلة، وتخلوا عن الاساليب التي اتبعوها سنين طويلة لتحقيق اهدافهم.
وبعد الإعلان عن الإتفاق ونشره على الملأ ظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة إتجاهات رئيسية: أحدها أيد الإتفاق وأفرط في التفاؤل، وبسط الأمور وتصور بأن “كل شيء يهون بعد دخول م ت ف أرض الوطن”. واعتقد أصحابه بأن تقاطع المصالح التي أفرزت الإتفاق تدفع أطرافه باتجاه الإلتزام الأمين به، وتسريع تنفيذه. والثاني عارض الإتفاق وأفرط في التشاؤم وطعن في شرعيته، ورفع شعار “اسقاط الإتفاق وإسقاط نهج أوسلو”. وإعتقد بأن “الاتفاق ولد ميتا”، وأنه غير قابل للتنفيذ وانه “سيسقط خلال أسابيع أو شهور معدودة “كما سقط اتفاق “خلدة” اللبناني الإسرائيلي عام 1984″. ولاحقا أطلق أصحاب هذا الإتجاه على الإتفاق إسم “غزة وأريحا أولا وأخيرا”. أما الإتجاه الثالث فظهر عند أهل الأرض المحتلة وتساءل أصحابه عن نصوص الإتفاق حول الإستيطان، والموقف من حقوق الإنسان، واطلاق سراح المعتقلين، وقالوا العبرة في التنفيذ. وجاءت النتائج الاولية للاتفاق ووقائع 8 سنوات من المفاوضات لتؤكد بالملموس أن أهل الأرض المحتلة كانوا الأدرى بالاحتلال وسياساته، وأن تقييمهم كان الأكثر واقعية والأكثر دقة. وأن الآخرين من معارضين ومؤيدين، فصائل وقوى وشخصيات وطنية وإسلامية، شطحوا بعيدا في تقديراتهم، ووضعوا أمنياتهم ورغباتهم محل التقييم الموضوعي. فالإتفاق من جهة بقي على قيد الحياة خمس سنوات نما وكبر خلالها، ومن جهة أخرى تعثرت المفاوضات حوله وحول ما أنتجه من إتفاقات أخرى، وتأخر تنفيذ العديد من بنوده وبنودها. ومهما كانت دوافع مؤيدي ومعارضي الاتفاق والمتحفظين عليه فخمس سنوات من عمره أكدت نجاحه في أدخال الشعبين أعتاب حقبة جديدة في تاريخ صراعهما لا تزال في طور التشكل والتكوين. وأحدث تغييرات نوعية في أسس علاقات اسرائيل بالمنظمة وبمعظم الدول العربية. وثبتت نقاط أساسية لصالح هذا الطرف وأخرى لذاك، ليس سهلا الغائها. وساهم في تكريس حل الصراع بالطرق السلمية وأنهى لإشعار آخر أفكار الحرب، وأفكار اللاحرب واللاسلم التي كانت سائدة فترة الحرب الباردة. ولم يحصد منها العرب سوى الفقر والتخلف وضياع الوقت، وتعطيل الديمقراطية، وسيادة الاحكام العرفية.
وألد أعداء الاتفاق لا يستطيعون تجريده من انجازاته منها: تحرير أجزاء صغيرة هامة من الأرض، وأزاحة نير الإحتلال وقهره اليومي جزئيا عن ظهر قطاعات واسعة من الشعب في الضفة والقطاع. وأنهى ومعه المعاهدة الاردنية الاسرائيلية أفكار كانت تنادى بها بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين للأردن، وتحويله وطن بديلا لهم، وتم ثبيت الخيار الفلسطيني طريقا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحرر القرار الوطني الفلسطيني من الوصاية والإحتواء، ونقله رسميا وعمليا من العواصم العربية للمدن الفلسطينية. وحل معضلة إنفصال القيادة عن أرضها وشعبها، وصحح وضعية الهرم الفلسطيني الذي ظل مقلوبا على رأسه منذ تشكيل ت ف عام 1964. ومثّل محطة فاصلة، في تاريخ النظام السياسي الفلسطيني ومستقبله وأحدث تطورات هامة على بنية م ت ف وعلاقاتها الداخلية والحارجية. فقد وتر علاقاتها مع عدد كبير من القوى العربية الحاكمة والقوى الوطنية غيرالحكومية. وعجل في عزل أطراف النظام السياسي الفلسطيني المرتبطة بالانظمة العربية “منظمة الصاعقة المرتبطة بسوريا، الجبهة العربية الموالية للعراق، وفتح الانتفاضة المرتبطة بالسوريين والليبين” وأضعف دورها في الحركة الفلسطينية، وأفقدها تأثيرها، المحدود اصلا، في القرارالفلسطيني. اما القوى الاخرى فأدى الاتفاق الى تراجع فعل بعضها وضعف وزنها السياسي والجماهيري لدرجة تقترب من التلاشي. ونما ثقل بعضها الآخر “حماس” وصعد دورها. وهناك من لم يوفق للآن في تأمين إستقراره الفكري والتنظيمي. واذا كان اليمين الإسرائيلي ما زال يتصرف باعتبار الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فأوسلو وما إنبثق عنه من إتفاقات وخطوات عملية على الأرض أنهى “نظريا” هذه المقولة. ووضع القيادة الاسرائيلية وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية التي تهربت منها أكثر من أربعين عاما. فإعترفت بأن هناك شعب إسمه الشعب الفلسطيني، ولهذا الشعب ممثل شرعي ووحيد هو م ت ف، وأقرت بوجود كيان خاص على ذات الأرض لشعب أعتبر يوما ما شعبا زائدا في المنطقة.
وإذا كان ضروري تعريف الكيان الفلسطيني الوليد وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن “حكم ذاتي” في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء هام صغير من الأرض. ناقص السيادة، محدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور، إذا أجاد أهله إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحريتهم واستقلالهم. ونعته بابشع النعوت من نوع، كيان أوسلو، دويلة مسخ وهزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة اقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يغير الواقع الجديد. ويفرض على أطراف النظام السياسي عدم التمترس في الخنادق القديمة في مواجهة الحقائق، والخروج منها والشروع فورا في معالجة الاشكاليات الكثيرة والازمات الخطيرة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني منذ ما قبل أوسلو وللآن. وبديهي القول إن إنجازات أوسلو كان لها ثمن. والحديث عن الايجابيات ليس من مهمة البحاثة والطامحين للتصحيح والتجديد، وقد يساهم في التضليل ولا يعالج المشكلات بل يطمسها. اما قمع الحديث عن النواقص والازمات المتنوعة فتجارب الشعوب والدول تؤكد بانه لا يعالجها بل يزيدها تعقيدا، ويفجرها الواحدة تلو الاخرى في اوقات غير مناسبة. ويقطع الطريق على امكانية الاستفادة من العلاج الصحيح ومن استخدامه في الوقت الصحيح. وقديما قالوا “درهم وقاية خير من قنطارعلاج”.