الحلقة 3/ نشوء وتشكيل السلطة الوطنية
بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999
القسم الثالث واقع النظام السياسي واشكالياته بعد اوسلو
قبل انطلاق عملية السلام من مدريد عام 1991 لم تستطع التوجهات الفلسطينية على مدى 20 سنة نحو “اقامة السلطة الوطنية على أي جزء من الأرض يتم تحريره” شق طريقها للحياة. وبعد حرب 1982 وترحيل قيادة وكوادر م ت ف من بيروت تراجعت الفكرة وانضمت للأحلام والأوهام الفلسطينية، وكاد أصحابها ينسوها. ومع الاعلان عن إتفاق أوسلو عادت الروح اليها، وعاد الصراع الفلسطيني حولها للظهور من جديد. فالاتفاق نص تحت بند هدف المفاوضات “أن هدف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ضمن عملية السلام الحالية في الشرق الاوسط، هو من بين أمور أخرى، إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية ـ المجلس المنتخب ـ للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، وتؤدي الى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الامن 242و338 “. في حينه كانت الخلية الفلسطينية التي أدارت مفاوضات أوسلو بحاجة، لإعتبارات معنوية وسياسية داخلية، مقاربة نص الاتفاق حول السلطة مع نص قرار المجلس الوطني. وحاولت تثبيت تعبير “السلطة الوطنية” بدلا من “حكومة ذاتية انتقالية”، لتؤكد لشعبها وللمعارضة الفلسطينية بأنها لم تخرج عن قرارات المجلس التي وافقوا عليها. وتعبير السلطة مقبولا في نظر الناس، ويتضمن بصيغة واخرى مؤشرات تدل على الاستقلالية. اما الحكومة الذاتية فيشير من حيث الشكل والمضمون الى تبعية كاملة للاحتلال. لكن محاولتها جوبهت برفض اسرائيلي عنيف، وثبت النص الذي طرحه رابين واصر عليه. وبعد إتفاق طابا عاد رابين ووافق على التسمية الفلسطينية وعلى استخدام كلمة سلطة ووزارة ووزراء.
بعد توقيع اتفاق “أوسلو” في حديقة البيت الابيض يوم 13/9/93، وتمهيدا للإعلان عن تشكيل السلطة، عقدت القيادة الفلسطينية سلسلة إجتماعات في تونس، قاطعتها حركة حماس وجميع قوى م ت ف التي عارضت الاتفاق. وكان واضحا للجميع أن أوسلو بالكاد يعالج قضايا المرحلة الانتقالية، وأن القضايا الأساسية “القدس الاستيطان اللاجئيين الحدود..الخ ” مؤجلة الى مفاوضات المرحلة النهائية. وكان مفهوما للداخل والخارج بأن السلطة المنوي تشكيلها ليست بديلة للمنظمة، ولا يمكنها أن تكون كذلك. وبعد تشكيلها ستكون ممثلة لسكان الضفة والقطاع فقط ولفترة زمنية انتقالية حددها الاتفاق بخمس سنوات. ومهامها محصورة في إدارة الوظائف والمجالات التي نص عليها الاتفاق فقط. وتوقف المجتمعون من القيادة أمام عدد من الأسئلة المركزية منها : كيف وعلى أية أسس نشكل السلطة الوطنية كجسم قيادي جديد ؟ هل نشكلها من خارج التنفيذية ونحافظ على تنفيذية المنظمة كمرجعية ؟ أم نضيف مهام السلطة للجنة التنفيذية ونبقيها كما هي؟ هل نضيف للتنفيذية عددا من قيادات الداخل، وكيف نضيفهم بدون عقد إجتماع للمجلس الوطني؟ وما هو دور منظمة التحرير بعد قيام السلطة، وكيف نحل التعارض القادم بين الجسمين ؟ وهل نحافظ على ثقل رئيس اللجنة التنفيذية المعنوي خارج السلطة الوطنية أم نزجه فيها ؟
خلال النقاش أبدى البعض تخوفه على دور المنظمة بعد تشكيل السلطة وعلى وجودها. وأكد الجميع أهمية المحافظة على مكانتها ككيان سياسي وكإطار تنظيمي، وإبقائها سلطة عليا لكل الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد داخل وخارج الارض المحتلة. أما بشان تشكيل السلطة فطرحت أفكار متعددة منها: أن تكون من قيادات الداخل فقط، ولا يدخلها أعضاء التنفيذية، يتم تشكيلها من التنفيذية أساسا مع إضافات محدودة من الداخل، أن تكون غير سياسية وتشكل من التكنوقراط والكفاءات والاخصائيين. أصوات قليلة دعت الى تفويض رئيس اللجنة التنفيذية بتشكيلها وفقا لما يراه مناسبا. وكان الحاضرون من أعضاء التنفيذية ضد الفصل بين الجسمين، ومع تشكيلها من التنفيذية كأساس. ولا بئس عندهم من إستكمال عددها بشخصيات من الداخل، وأن يكون ابوعمار بصفته رئيس التنفيذية رئيسا لها. وبرز إتجاه آخر، من الداخل ومن المستقلين، معاكس لإتجاه أغلبية التنفيذية. دعا الى فصل تشكيل ومهام الجسمين بعضهما عن بعض. وشدد أصحابه على ضرورة تقليص عدد أعضاء التنفيذية في السلطة، إذا كان لابد من مشاركتهم فيها. وأن لا يكون رئيس التنفيذية ضمنهم، وأن يحافظ على ثقله السياسي والمعنوي في إطار م ت ف باعتبارها القيادة العليا لكل الشعب.
وكان المستقلون من الداخل هم الأكثر جرأة في نقد الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وفي تشخيص الأمراض التي تنخر جسم القيادة الفلسطينية ومؤسساتها. وأكثروا من الحديث عن مضار الفئوية والفصائلية في العمل الفلسطيني، وأظهروا مخاطر سحبها على تشكيلة السلطة الوطنية. وذكّروا بما فعلته هذه الظواهر المرضية في الانتفاضة. وقالوا: التفرد بالقرار يتعارض مع الديمقراطية، والفئوية تتعارض مع الوحدة الوطنية ومع الديمقراطية، ومرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة. وخلال النقاش أبدى معظم أعضاء التنفيذية عدم إرتياحهم لهذا الموقف، ودافعوا بقوة عن آرائهم. وانتهت إجتماعات القيادة الفلسطينية في حينه دون اتخاذ قرار محدد. ولخص رئيسها حصيلة المناقشات بالقول: “القرار من صلاحيات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، ومعنا الوقت الازم لاجراء مزيد من المشاورات والاتصالات مع إخواننا العرب وبعض الحلفاء والأصدقاء الاجانب”.
عشية إنعقاد المجلس المركزي الفلسطيني عقدت اللجنة التنفيذية يوم 9/10/93 إجتماعا ناقشت فيه الموضوع. وأقرت الدفع في المجلس المركزي باتجاه تشكيل السلطة من الداخل والخارج، وتكون سياسية ويترأسها ابوعمار، ويشارك فيها أعضاء من اللجنة التنفيذية لم يحدد عددهم. يوم 10 /10/93 بدأ المجلس المركزي دورة أعماله بحضور83 عضوا من أصل 110 أعضاء شارك فيها عدد كبير من المراقبين بلغ عددهم ما يقارب ضعفي عدد أعضاء المجلس. جاءوا من مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بما في ذلك إسرائيل. ورغم كثرة النقاط المدرجة على جدول الأعمال، إلا أن جميع الحاضرين، عاملين ومراقبين، كانوا يدركون أن المجلس المركزي مدعو لإقرار نقطتين أساسيتين: الأولى الموافقة على إتفاق اوسلو، والثانية اتخاذ قرار تشكيل السلطة الوطنية. وكرر عدد من الأعضاء وبخاصة المستقلين تخوفهم الحقيقي على مصير المنظمة بعد تشكيل السلطة. وبعد مناقشات إستغرقت يومين كاملين، صوت أعضاء المجلس على “إتفاق إعلان المبادئ” أمام وسائل الاعلام ونال أغلبية الأصوات. ووافق المجلس بأغلبية 68 على: ” إقامة السلطة الوطنية على كل الأراضي التي ينسحب عنها الاحتلال. ويفوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية وفقا لقرار المجلس المجلس الوطني تشكيل هذه السلطة من الداخل والخارج وتكون م ت ف مرجعيتها، ويترأسها رئيس اللجنة التنفيذية “. في تلك الفترة لم يتعجل أبوعمار في تشكيل السلطة، ورغب في إعلان تشكيلها على أرض الوطن. وأخّر قراره إلى ما بعد توقيع بروتوكولات القاهرة في أيار 1994. ولاحقا أعلن أسماء أعضائها بعد إصرار إسرائيل على تسلم الاسماء قبل دخول الدفعة الاولى من أفراد الشرطة، وسلمها على دفعات. وتهالك بعض أعضاء التنفيذية على دخولها، وفضل آخرون الانتظار. ورحب الشارع الفلسطيني بالخطوة واعتبرها إنجاز هام. أما قوى المعارضة فكررت مواقفها وشككت في شرعية قرار تشكيل السلطة. نظريا كان الخلاف في القيادة الفلسطينية الرسمية يدور حول أفضل صيغ وأسس وأشكال بناء السلطة الوطنية، إلا أنه واقعيا كان يخفي صراعا في إطار المنظمة حول موقع السلطة الوطنية في النظام السياسي الفلسطيني، وحول المواقع الشخصية والتنظيمية. فالكل كان يدرك أن إنتقال مركز ثقل الحركة الوطنية والنشاط السياسي من الداخل للخارج يعني تراجع دور المنظمة. وقيام السلطة الوطنية وترؤس أبوعمار لها يعني إنتقال ثقل القرار الوطني لهذه الهيئة الجديدة وتوليها قيادة العمل الفلسطيني، لاسيما وأن العالم سيرمي بثقله لصالح تكريس دور الجسم القيادي الجديد. في حينه بشر بعض أعضاء التنفيذية بإنتهاء دور المنظمة من الناحية العملية، وقالوا “دعونا نحضّر لاقامة مراسم التشييع في غزة وأريحا “.
إشكالية العلاقة بين السلطة والمنظمة
لا اكتشف البارود اذا قلت بان الدول العصرية والديمقراطية لا تعتمد في تحليل وتشخيص مشكلاتها، ورسم توجهاتها واتخاذ قراراتها على الطاقات الذهنية والفكرية والعلمية للوزراء فقط. وانما على ما تنتجه مراكز الابحاث والدراسات وما تقدمه باستمرار لمركز صناعة القرار. وهذه الدول تحرص دوما على تشجيع مراكز الابحاث والدراسات وتدعمها ماديا ومعنويا، ولا تتدخل في شؤونها البحثية. وتنفق أقسام كبيرة من موازناتها على بنائها كمؤسسات مستقلة، وعلى تطوير مراكز الدراسات في الجامعات الاكاديمية، وتسعى لتمكينها ضم أفضل العقول. وتعطيها الحرية والامان لاجراء ما تشاء من بحوث، وتضع تحت تصرفها ما تطلبه اعمالها البحثية، ولا تحجب عنها اية معلومات. وفي سياق الاجتهاد الفردي في تشخيص اشكالية العلاقة بين السلطة والمنظمة يمكن القول أنه مع تشكيل السلطة الوطنية الاولى في أيار1994 وعبورها الوطن وتوليها عددا محدودا من المجالات في غزة واريحا، دخلت علاقتها التنافسية مع المنظمة حيزها الرسمي والعملي الملموس. وترعرعت في ظل أجواء مأزومة داخليا وخارجيا، وعاشت منذ البداية حالة مد وجزر من التوتر، ولم تشهد يوما حالة توافق وإنسجام. ولعل من المفيد التذكير أن أوضاع م ت ف، المكون الرئيسي للنظام السياسي الفلسطيني، لم تكن على مايرام منذ ما قبل مؤتمر مدريد واتفاق أسلو. وكانت مصابة قبل وبعد رحيلها القسري من لبنان عام 1982، بأمراض متنوعة جوهر بعضها موضوعي غير مصطنع، وبعضها ذاتي، كان مصدرا من “الخارج”. فمنطلقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية التي بنيت عليها عام 1964 هرمت وشاخت. وبقي الميثاق الوطني والنظام الاساسي على حالهما فترة ربع قرن دون أي تجديد أو تعديل. وكثيرا ما تم الإصطدام بنصوصهما الجامدة وغير الديمقراطية، وفي كثير من المحطات السياسية الحاسمة تم تجاوزها. واذا كان لا مجال لاجراء جردة كاملة بمواقع وتواريخ الصدامات والتجاوزات فقرارات دورة المجلس الوطني عام 1974 التي أقرت البرنامج المرحلي، وقرارات الدورة التاسعة عشر التي إعترفت بقراري مجلس الأمن 242 و338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وأعلن فيها عن قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل شواهد تاريخية على ذلك. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن م ت ف، كمؤسسة وفصائل، عانت في تلك المرحلة من تراجع دورها الكفاحي في مواجهة الاحتلال. ومن غياب الديمقراطية وعسكرة علاقتها الداخلية وعلاقاتها مع الناس، ومن انحسار شعبيتها داخل وخارج الوطن المحتل. إضافة الى سيادة نظام “الكوتا” الفصائلية في تكوين مؤسساتها، وهيمنة التنظيمات على تركيبتها من أعلى هيئة قيادية وحتى أصغر مؤسسة أو سفارة. وكانت أطرها القيادة قد ترهلت تماما ومؤسساتها نخرتها البيرقراطية وتحولت الى مجال إرتزاق لآلاف الكوادر، مارست داخلها بطالة مقنعة فترة زمنية طويلة. ولا تستطيع قيادة النظام السياسي الفلسطيني القديم تحميل عملية السلام والسلطة الوطنية وحدهما المسئولية الكاملة عن زرع كل الامراض البنيوية المزمنة في جسد المنظمة وعن الأزمة العريقة التي ما زالت تعانيها حتى الآن. فجميع القوى والفصائل المكونة للمنظمة والمهيمنة على قيادتها ساهمت في بنائها على أسس غير ديمقراطية، ووساهمت في شل عمل مؤسساتها بدء من المجلس الوطني مرورا بالمجلس المركزي واللجنة التنفيذية، وإنتهاء بأدنى لجنة فرعية من لجان المجلس الوطني. وكانت راضية عن تلك الأوضاع ومتعايشة معها ومستفيدة منها.
وبمعزل عن مواقف أطراف النظام السياسي المؤيدة او المعارضة للسلطة الوطنية فلا أحد يستطيع إنكار ان تشكيلها شكل امتحانا حاسما لفكر وطاقات وخبرات الفلسطينيين وقدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وعلى بناء أول سلطة فلسطينية لهم على أجزاء من أرضهم. وعند التشكيل كان مفهوما للجميع أن إمتحان بناء وادارة مؤسسات “الدولة”، وتنظيم حياة مجتمع مدني يضم ما يقارب مليوني إنسان أعقد وأصعب من قيادة الثورة، ومن إدارة شؤون بضعة الآف من الكوادرالعسكرية والمدنية.
واذا كان من المبكر إطلاق أحكام نهائية جازمة على دور السلطة وعلى آفاقها المستقبليه، فمراجعة تجربتها القصيرة يظهر أنها لم تستطع تحقيق ما كان يتمناه الفلسطينيون في الضفة والقطاع. وصورتها حتى الآن فلسطينيا وعربيا ودوليا ليست ايجابية على الاطلاق. ولا نظلم أحدا إذا قلنا ان السلطة الوطنية الاولى حملت منذ البداية إرث منظمة التحرير بصنفيه السلبي والايجابي. وأن اللجنة التنفيذية لم تنجز التحضيرات الضرورية لانجاح عمل السلطة علما بانها كان لديها فسحة كبيرة من الوقت، وفرص التاهيل المطلوب للكوادر توفرت. وهي المسئولة عن تشكيل السلطة على ذات الأسس التي بنيت عليها تنفيذية المنظمة وذات الشيء ينطبق على الثانية. وأنه كان للاشكالات الذاتية والميلاد غير الطبيعي “عملية قيسرية” دورا مركزيا في تغذية الاشكاليات الموضوعية وسرعت نموها. فطغيان الاعتبارات الحزبية والسياسة على أسس تشكيلها وتركيبتها ضيق قاعدتها الشعبية الضيقة أصلا. والتعيينات العشوائية والانتقائية ذات الصبغة الحزبية زادت من طغيان الفصائلية على بنيانها التنظيمي. وأظهرت العصبوية التنظيمية بأبشع صورها. ووسعت الصراع على السلطة بين القادمين من الخارج والمقيمين أصلا فوق أرض الوطن. وبين كوادر مختلف التنظيمات وكوادر التنظيم الواحد. وجعلها أقرب إلى سلطة الحزب الواحد ومن لون سياسي واحد. مليئة بالسياسيين وناقصة أخصائيين وخبراء في شتى مجالات العمل اليومي المنوط بها. كل هذا جرى ويجري في وقت سئم الشارع الفلسطيني من كل الفصائل والتنظيمات والاحزاب بصيغها وعلاقاتها وممارساتها العسكرتارية السابقة، وبات يتطلع الى اطر تنظيمية وأحزاب سياسية أكثر ديمقراطية وأقل بيروقراطية ودكتاتورية. خاصة وأن أي من هذه الفصائل والاحزاب المعروفة لم يحاول تجديد نفسه ودمقرطة أوضاعه الدخلية وعلاقاته الجماهيرية. ولم يحدث أي منها أي تعديل أو تغيير في أسسه ولوائحه التنظيمية. ولم يبادر أي منها الى طرح برامج عملية واقعية تتناسب مع حاجات الناس وتلبي متطلبات اجتياز المرحلة الجديدة التي عبرها النضال الفلسطيني بعد اوسلو وبعد تشكيل السلطة.
وبجانب الصراع على مناصب السلطة أثقلت التعيينات الواسعة جدا كاهل السلطة الفلسطينية بأعباء مالية ضخمة شوشت وشوهت صورتها في عيون شعبها. وخلقت هوة واسعة بينها وبين الناس في قطاع غزة والضفة الغربية. وفرض على السلطة الفلسطينية إنفاق معظم ايرداتها المحلية والمساعدات المالية التي تصلها في مجالات غير منتجة. ويستطيع كل خبير اقتصادي أن يقدر ثقل العبىء المالي الكبير، وأثره على مستقبل الاقتصاد الفلسطيني وعلى علاقات الانتاج فيه، اذا عرف أن م ت ف والسلطة الوطنية مضطرة لدفع رواتب ما يزيد عن مئة الف موظف مدني وأمني وعسكري حتى الان.. منهم ما يزيد عن 30 الف رجل أمن وشرطة. أما المصادمات العنيفة وعدم الاحتكام للقانون وأساليب المعالجة غيرالديمقراطية التي ورثتها عن المنظمة واتبعتها في معالجة قضايا الخلاف مع المعارضة، والاحاديث الكثيرة ـ الحقيقية أو المبالغ فيها ـ عن الرشوة والفساد والمحسوبية..الخ فأظهرت السلطة أمام الجميع بأنها فاشلة ينخرها الفساد وعاجزة عن القيام بالمهام الأساسية الملقاة على عاتقها. ودفعت بقطاعات إضافية من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وبخاصة الواقعيين الديمقراطيين والمتطلعين نحو قيام سلطة ديمقراطية ونزيه، للنفور من السلطة والانفضاض من حولها. ورسمت صورة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية، التي طالما إنتقدها ورفضها نموذجا لحكمه وسلطته.
لاحقا جاءت وقائع المفاوضات التي أدارتها السلطة مع الاسرائيليين، وتعثر تنفيذ الاتفاقات لتضغط على ذهن السلطة كهيئة وكوزراء، ولتجعل من المهام السياسية وبخاصة إدارة المفاوضات وتنظيم العلاقات مع الاسرائيلين، وملاحقة الدول المانحة للمساعدات، مهاما ذات أولوية على سواها من المهام التي تهم حياة الناس. وبهذا غرقت السلطة الفلسطينية في بحر من المشكلات التي أعاقت نهوضها بالمهام وبالالتزامات التي أخذتها على عاتقها.
أما تركيز القيادة على المولود الجديد “السلطة”، وعدم وضوح طبيعة العلاقة بين الجسمين وبقائها ملتبسة، فقد أضعف الوضع المعنوي للمنظمة وبهت وجودها، وأثار تساؤلات شعبية وفصائلية حول دورها ومستقبل وجودها. ولم يمضي وقت طويل حتى سلبت السلطة، عمليا، منظمة التحرير معظم مهامها وشلت حركتها اليومية وحلت محلها دون أن تملأ كل الحيز الجماهيري والخارجي الموجود للمنظمة. وأعطت نفسها منذ اليوم لتشكيلها حق تجاوز اللجنة التنفيذية مرجعيتها الاساسية. وعانت كل مؤسسات المنظمة الرسمية التشريعية والتنفيذية “مجلس وطني، مجلس مركزي، لجنة تنفيذية” من تآكل داخلي ومن تغييب واقعي لدورها، وصارت شبه محالة على التقاعد. وبغض النظر عن النوايا، فالخلط بين مهام الوزارة والوزراء وبين مهام اللجنة التنفيذية ولجنة المفاوضات كهيئة وكأفراد أبقى العديد من المهام الوطنية الكبرى مهملة، ولم تعد تجد من يهتم بها ويتابعها. وتآكل علاقات م ت ف بقوى حركة التحرر الوطني العربية، وعدم متابعة قضايا الفلسطينيين في الخارج، والتخبط في إدارة المفاوضات خير أدلة وشواهد على ذلك. فلا الوزراء أعضاء التنفيذية قادرين على تحمل مسؤوليات إضافية لمهامهم اليومية الكثيرة والمعقدة، ولا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تسمح لهم إن هم حاولوا ذلك. أما أعضاء التنفيذية من غير الوزراء فهم موزعين بين من يقتله الفراغ وعاطل عن العمل. ومنهم من ينتظر عقد إجتماع للهيئة التي ينتمي لها “اللجنة التنفيذية” او إستلام موازنة دائرته. ودوائر وسفارات منظمة التحرير فقدت هي الأخرى من يتابعها، وحرمت من إمدادها بكل المستلزمات الضرورية لعملها. وأظن أننا في غنى عن سوق الشواهد على ذلك فهي كثيرة ومتنوعة ومحزنة. ولا ضرورة لسرد ما يعانيه سفراء ومدراء مكاتب م ت ف وكل العاملين في سفارات فلسطين منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن. فهي تعيش حالة من الشلل والضياع وإضمحلال الموازنات. أما المنظمات والاتحادات الشعبية، المرأة العمال، الطلاب، الكتاب والصحفيين، المعلمين، المهندسين، الفلاحين…الخ فقد تعرضت هيئاتها للشلل والتفكيك، ولم تعد تجد من يلملم أوضاعها. فأمناؤها العامون وأعضاء أماناتها تشتتوا وتبعثروا واستوعبوا في وزارات السلطة الوطنية الفلسطينية. وعملية الاستيعاب والتعيين طالت أيضا العديد من سفراء م ت ف. وكأن وظائفهم ومهامهم في اتحاداتهم ومنظماتهم الجماهيرية وسفاراتهم قد انتهت. أو أن هناك من يفكر في دمج هذه المنظمات في أجهزة السلطة بما في ذلك قوات الأمن والشرطة..
ومن يدقق في الأوضاع القيادة للمنظمة وفي المهام التي تقوم بها الوزارة والمجلس التشريعي، يخرج بإستنتاج رئيسي خلاصته أن القيادة الفلسطينية، وقعت في أوهام حول عملية السلام حين تصورت أنها ستسير في خط مستقيم، وحين اعتقدت أنه لم يعد هناك حاجة وطنية لتفعيل مؤسسات المنظمة القيادية والوسيطة وجيرت دورها لصالح السلطة. صحيح أنه منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن لم يصدر تصريح رسمي أو شخصي من أي مسؤول فلسطيني يمس وجود المنظمة أو ينتقص من دورها، إلا أن “الاعمال ليست بالنوايا” فالانقسام السياسي التنظيمي إستفحل وتعمق وتحول الى نوع من الصراع التناحري بين الاطراف المكونة لها. وندرة إجتماعات هيئاتها القيادية التشريعية التنفيذية أفقدها حضورها الشعبي والرسمي وعطل دورها القيادي. وإستيعاب الكوادر القيادية الاولى للمنظمات والاتحادات الشعبية والسفارات في وظائف رسمية في مختلف أجهزة السلطة، مع بقائهم في مناصبهم السابقة، أضعفها وحولها الى هياكل خاوية، وأفقدها صلتها بمن تمثل وفقدت مبرر وجودها من وجهة نظرهم. ورحم الله ايام التحركات الطلابية والعمالية الفلسطينية في العالمين الغربي والعربي خلال فترة حصار بيروت، واثناء “الزنقات” الكثيرة التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية، فالحالة الفلسطينية الراهنة في أمس الحاجة لها. ويستطيع كل مراقب محايد أن يرى ببساطة ان أدق تشخيص للوضع الوطني الفلسطيني، وأعلى وتائر نقد حالته السائدة، هو الذي يتم بين فترة وأخرى في اوساط القوى المشاركة في السلطة، وبخاصة الوزراء، وذوي المناصب العليا فيها. لكنه، للأسف الشديد، يجري خارج الاجتماعات الرسمية، وداخل الاطرالحزبية الضيقة في أحسن الاحوال.
والتدقيق في مضامين الحديث والنقاش الموسمي، المعلن وغير المعلن، حول الازمة وسبل الخروج منها، يبين بأن بعضه واقعي وشمولي. يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام، ويميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية. ويأخذ بعين الاعتبار ارث الاحتلال الثقيل، ودوره في تعطيل تطورالاوضاع الفلسطينية. ويراعي موازين القوى والظروف الموضوعية المحيطة بالوضع الفلسطيني. اما بعضه الآخر فهو ارادوي هروبي، يسقط دور العوامل الموضوعية الخارجية وممارسات الاحتلال في خلق الازمة وتفاقمها يوميا. ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة. ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير. وهناك ايضا من اهل السلطة من يحاول ان يطمس الحقائق الثابتة ويخفي الوقائع الملموسة، ويغطي “الشمس بالغربال”، ويتلطى بوجود الاحتلال وممارساته اليومية، وبتخلي العرب عن القضية المقدسة.. ويتناسى قصور دورالسلطة واجهزتها في بقاء الازمة تراوح مكانها. اما أوساط قوى المعارضة فاسخن حديثها عن الازمة يتركز حول الامورالسياسية، وبخاصة حالة عملية السلام والمفاوضات والاتفاقات التي تم التوصل لها مع الاسرائيليين، وحول المسؤولية الفردية والحزبية لاطراف السلطة. وكأن الازمة الوطنية محصورة في المفاوضات فقط، والمشاركة في عملية السلام هي السبب الوحيد، والخروج منها هو الدواء..!
إشكالات موضوعية خلقها أوسلو
وبجانب هذه الاشكالات الذاتية واجه الفكرالسياسي الفلسطيني بعد أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية، ولا يزال يواجه، عددا من المعضلات الموضوعية المعقدة. معالجة بعضها لا يتوقف على رغبات الفلسطينيين وحدهم، فالموقف الإسرائيلي لازال حاسم في معظمها إن لم يكن كلها وأهمها. (1) نشوء تناقض حقيقي بين قانونية التزام منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية بالاتفاقات التي توصلت لها مع الحكومة الإسرائيلية، وبين شرعية استمرار المنظمة كمؤسسة وكإطار وطني ملتزم أمام الشعب بقيادة النضال الوطني وتنظيم أشكال النضال المناسبة ضد الاحتلال حتى العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. فالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تلزم م ت ف والسلطة الوطنية بوقف حملات التعبئة العدائية ضد إسرائيل، وبوقف العنف بكل أنواعه ضد قوات الاحتلال، والحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنين المقيمين على الأراضي الفلسطينية، وبمعاقبة كل الأفراد والجماعات الذين يمارسونه. في وقت لم تقدم هذه الاتفاقات حلولا مرضية للشعب الفلسطيني ولم تعالج قضاياه الأساسية ـ اللاجئين، القدس، الحدود، النازحين، المستوطنين والمستوطنات،…الخ. ناهيك عن عدم توقف الاحتلال عن أعماله القمعية للفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرته. (2) عدم القدرة على التوفيق بين متطلبات نهوض السلطة الوطنية بمهمة بناء مؤسساتها المدنية والاقتصادية والعسكرية الأمنية في غزة والضفة الغربية، مع متطلبات الحفاظ على وحدة مؤسسات م ت ف ودورها كإطار وطني قيادي لكل الشعب يضم قوى متعددة متعارضة ومتناقضة في مواقفها من القضايا الجوهرية ومن ضمنها إتفاق إعلان المبادئ الذي مكّن المنظمة من تشكيل السلطة. فمواقف القوى المشكلة للنظام السياسي تتراوح بين من يشارك في السلطة وراض عن تشكيلتها، ومن لايزال داخل المنظمة وخارج السلطة وغير راض عن تشكيلها وعن التزاماتها مع الاسرائيليين. وهناك من هو خارج المنظمة وخارج السلطة ويعارض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية ويعمل بكل السبل على الإطاحة بها، ويتمنى الفشل للسلطة ويسعى لتفشيلها حيث إستطاع ذلك سبيلا. (3) صحيح أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت، إلا أن مسار المفاوضات وتلاعب اسرائيل بالاتفاقات، وحالة السلطة لم تدفع الشعب في الداخل والخارج الى إعتماد السلطة الوطنية كبديل او كوريث كامل للمنظمة قادر على قيادة المرحلة، يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى والاساسية. خاصة وان مسيرة المفاوضات متعثرة والاتفاقات لم تعالج قضايا الصراع الكبرى. وهذه المعادلة تنعش ليس فقط القوى والأفكارالمتطرفة، بل تبعث الحياة من جديد في الافكار والدوفع التي وقفت في الستينات خلف تأسيس م ت ف. وقد تدفع، يوما ما، قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين، الى ادارة الظهر للمنظمة التي نعرفها اذا لم تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ولم تعالج الحلول السياسية قضاياهم بصورة مرضية، ولم يجدوا من يدافع حقوقهم في بلدان الشتات. وقد يتوجهون للبحث ولو “بعد زمن “عن صيغة بديلة يعبرون فيها عن أنفسهم وعن تطلعاتهم، ويتحركون من خلالها للدفاع عن مصالحهم وإستعادة حقوقه المغتصبة. أعتقد ان إستمرار تعثر المفاوضات، وتأجيل اعلان قيام الدولة، وفوز حزب الليكود في إنتخابات الكنيست القادمة، وإقدام نتنياهو على الاعلان رسميا عن ضم ما يهدد بضمه من أراضي الضفة الغربية يسّرع خطاهم في هذا الاتجاه، ويبعدهم أكثر فأكثر عن النظام السياسي الحالي. (4) تمشيا مع روح عملية السلام والتزاما بالاتفاقات شطب المجلس الوطني في دورة غزة “ربيع 1996″ بنود الميثاق المتعارضة مع الاتفاقات، وتلك التي كانت تتحدث عن الكفاح المسلح أسلوبا للتحرير، وبقيت المنظمة للان بدون ميثاق. في حينه لم يحظى شطب تلك البنود بإجماع فصائل وقوى المنظمة أو من هو خارجها، ولم يستفتى الشعب حول الموضوع. صحيح أن ميثاق المنظمة هرم وشاخ قبل الغائه، وكان بحاجة لتطوير منذ زمن طويل، ووصفه رئيس اللجنة التنفيذية قبل سنوت “بالكادوك”، إلا أن بقاء المنظمة دون ميثاق يجعلها أشبه بباخرة تبحر في بحر هائج دون بوصلة تحدد لها تجاه حركتها. ويخطئ من يعتقد بأن التسريع في تمويت المنظمة يمنح الحياة للسلطة ويطيل عمرها، ويعزز مكانتها، ويسرّع في تحولها لبديل مقبول. فالمنظمة كانت ولا تزال وطن اللاجئين عبره يعبرون عن تطلعاتهم الوطنية. وإنتفاء مبرر وجود المنظمة رهن بقيام الدولة المستقلة وحل مشكلة اللاجئين، وليس قيام السلطة الوطنية فقط.