النظام السياسي الفلسطيني بين الماضي والحاضر والمستقبل

بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999

الحياة اللندنية + نسخة اصلية قدمت الى مواطن
مع انتهاء المرحلة الانتقالية من عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي دون اتفاق، وانتهاء الفترة المحددة لمفاوضات الحل النهائي قبل ان تبدأ، دخل النظام السياسي الفلسطيني، بمكوناته التنظيمية والسياسية والفكرية، مرحلة نوعية جديدة، من سيرته النضالية، شديدة الخطورة والتعقيد. تحمل في طياتها استحقاقات كثيرة ومتنوعة تحدد مصيره لسنوات طويلة قادمة. وقبل ولوج أطرافه هذه الانعطافة النوعية، من الضروري والمفيد وطنيا وقوميا مراجعة سيرته منذ تشكله، واستخلاص عبرها ودروسها المستفادة. فوصول النظام السياسي الفلسطيني مأزقه لم يتم فجأة، وخروجه سالما يعفي الشعب الفلسطيني وشعوب “دول الطوق” من الغرق في مستنقع التطرف والعنف. وطغيان النزعات القطرية على توجهات أطراف النظام الرسمي العربي لا يمثل حصانة لاحد في حال انهياره، او أسره واحتوائه من قبل المشروع الصهيوني.

النشئة طبيعية أما التطور فشوهته النكبة وما تلاها من أحداث
حلقة اولى: نشوء النظام السياسي الفلسطيني وتطوره
في بداية بحث أوضاع النظام السياسي الفلسطيني الراهن واشكالياته الفكرية والسياسية والتنظيمية وآفاقه المستقبلية، لا بد من تعريفه وتحديد قواه الاساسية: فهل هو السلطة الوطنية، أم المنظمة والمعارضة ؟ وهل هو نظام جبهوي ديمقراطي أم نظام الحزب الواحد؟ وهل إنتهت مرحلة م ت ف المكون الرئيسي للنظام ؟ وهل يمكن للسلطة أن تكون بديلا عن م ت ف؟ وما علاقة الداخل بالخارج وما دور كل منهما نحو الآخر. وماذا عن العلاقة مع داخل الداخل..أي بمليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية ؟
يتكون النظام السياسي الفلسطيني حسب الواقع السياسي من : منظمة التحرير الممثل الشرعي لكل الشعب، والسلطة الوطنية، والمعارضة المشاركة وغير المشاركة في السلطة والمنظمة. وهذا التعريف يشمل جميع قوى الشعب في الداخل والخارج، باستثناء فلسطيني إسرائيل الذين لا يزالون خارج النظام السياسي الفلسطيني كله. صحيح ان م ت ف كانت ولا تزال الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني على كل الصعد والمستويات الرسمية العربية والدولية، الا أن الواقع الفلسطيني القائم على الارض لا يمكّن أي طرف من الأطراف المكونة للنظام السياسي، بما في ذلك م ت ف، الإدعاء أنه وحده الممثل لكل الشعب والمعبرعن إرادته. فتآكل مؤسساتها السياسية، وإهتراء أطرها الجماهيرية والعسكرية، وتراجع دورها القيادي “عمليا” لصالح السلطة، وبقاء بعض الاطراف الوازنة في المجتمع “حركة حماس مثلا” خارجها يشكل على الصعيد الوطني “وليس التمثيل السياسي” ثغرة في تمثيل المنظمة لكل الشعب، وثغرة في قدرتها على التعبير الشامل عن الجميع. فحركة حماس قوة فعلية لها ثقلها في الشارع الفلسطيني، وهي في الوقت الراهن القطب القيادي للمعارضة، وقادرة على التأثير في الحركة السياسية العامة.
وبجانب هذه الثغرة يعتبر بقاء علاقة فلسطينيي اسرائيل بالنظام السياسي الفلسطيني على ما هي عليه ثغرة أساسية ثانية. فحجمهم الآن يعادل 14% تقريبا من إجمالي الفلسطينيين في العالم “مليون ومئتا ألف”. ويساوي أكثر من 25% تقريبا من إجمال الفلسطينيين المقيمين على أرض فلسطين التاريخية. ومهما كانت محدودية دورهم راهنا في إطار النظام السياسي الفلسطيني، فوضعهم صار مؤثر، بصيغة وأخرى، في النظام السياسي الإسرائيلي، وعملية التسوية، وفي مستقبل السلام الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي. والمفاوضات حول قضايا اللاجئين وأملاك “الغائب” في اسرائيل تمسهم. ولهم الحق الكامل والمشروع المشاركة في ابداء الرأي بشأن تقرير مصير الشعب الفلسطيني كله، طالما أنهم لا يزالون يعتبرون أنفسهم جزء لا يتجزء منه وجميع قوى الشعب تعتبرهم كذلك. ناهيك عن أهمية إستثمار القيادة الفلسطينية لكل طاقات الشعب في الصراع بغض النظر عن أماكن تجمعه وتواجده، وضمنها طاقاتهم .
وفهم واقع النظام السياسي الفلسطيني الحالي وآفاقه المستقبلية بصورة أشمل وأعمق، يتطلب مراجعة ابرز محطاته التاريخية، والتعرف على أهم مراحل تشكله. ورغم انها كانت دوما متشابكة ومتداخلة فليس عسيرا التعرف على خصوصيتها الوطنية ورسم حدود كل واحدة منها. والمراجعة الاجمالية تظهر حداثته النسبية، وتبدل قواه أكثر من مرة، وبقاء منطلقاتها الفكرية والسياسية متأرجحة بين الوطني والقومي فترة طويلة. مرحلته الاولى بدأت مع بداية القرن وإستمرت حتى النكبة 1947 ـ 1948. يمكن تسميتها بمرحلة نهوض الوطنية الفلسطينية، وبداية تبلور وتشكل نظام سياسي فلسطيني موحد على الأرض، ورسم ملامح صورة الكيان الفلسطيني. فالوطنية الفلسطينية، بأشكالها التي ظهرت مطلع القرن في العهد العثماني، بقيت عاجزة لاعتبارات موضوعية وذاتية، عن تصور قيام كيان فلسطيني مستقل في فلسطين. وبعد الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، وقعت النهضة الوطنية الفلسطينية الاولى، وبرزت فكرة إستقلال فلسطين في إطار إستقلال سوريا الكبرى. في تلك الفترة فرضت التجزئة الاستعمارية للبلاد العربية ووعد “بلفور” عام 1917، على الوطنية الفلسطينية طرح تصورها لمستقبل فلسطين ككيان منفصل عن سوريا الكبرى. وجاء صك الانتداب الذي أصدرته عصبة الامم المتحدة عام 1922، فأجج الوطنية الفلسطينية وعزز فكرة النضال من أجل إقامة كيان فلسطيني مستقل عن الدول العربية. وبرزت مطالبة فلسطينية باقامة حكومة فلسطينية مسؤولة أمام برلمان. خاصة وأن الصك الدولي كلف بريطانيا القيام بمهمة “وضع فلسطين في أحوال سياسية وادارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي فيها”. الا أن “دولة الانتداب” رفضت المطالب الفلسطينية وقاومت أفكارهم التحررية. وظلت مصممة على توفير شروط اقامة الوطن اليهودي. وفي10 اب 1922 وضعت بريطانيا “دستور فلسطين”، رفضه الفلسطينيون.
لاحقا مع تزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين إتسع إنتشار تيار الوطنية الفلسطينية، وتعددت أطر النظام السياسي الفلسطيني، وظهرت قوى وحركات سياسية ومسلحة جديدة. وبرز جليا شعار “إنهاء الانتداب وإستقلال فلسطين”. وغدا هدفا وطنيا تمسك به الفلسطينيون، وخاضوا من أجل تحقيقه، في الثلاثينات والاربعينات، معارك متنوعة. وقبل وقوع الحرب العالمية الثانية، لم تدرك “الوطنية الفلسطينية” خطورة الدعم الدولي الذي تلقته توجهات الحركة الصهيونية العالمية. وعندما وقعت لم تعي التغيرات التي أحدثتها في أوضاع المنطقة وفي العلاقات الدولية، وتحول المهاجرين اليهود الى قومية محددة الملامح، وقوة إقتصادية وسياسية كبيرة. ومع إحتدام المعارك، في النصف الثاني من عقد الاربعينات، بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الجدد والقدامى، تكثفت التحركات الدولية لايجاد حل مناسب للصراع. وبرزت فكرة تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. وخطى الفكر السياسي الفلسطيني خطوات كبيرة على طريق طرح تصور متكامل لمستقبل فلسطين. وبرز في النظام السياسي تياران: الاول قومي، رفض التفاهم مع زعماء اليهود، وتمسك بدولة فلسطينية مستقلة على كل الأراضي الفلسطينية. والآخر، كان الأضعف، دعى الى التعايش مع اليهود في إطار دولة يهودية ـ عربية ديمقراطية موحدة. إلا أن المواقف الدولية، وتعقيدات الصراع، وموازين القوى المختلة لصالح اليهود، حالت دون نجاح هذا الحل الديمقراطي، خاصة أنه كان مرفوضا بالمطلق من الحركة الصهيونية. وكانت النتيجة صدور قرار التقسيم عن الامم المتحدة عام 1947. وبصدوره إنتقل الفلسطينيون الى واقع جديد، ودخل الفكر والنظام السياسي الفلسطينيين مرحلة جديدة. وقررت القيادة الوطنية الفلسطينية ممثلة “بالهيئة العربية العليا”، رفض الاعتراف بقرار التقسيم. فمعظم الأرض كانت لهم (90%ـ95%) وكانت تحت سيطرتهم، وكانو هم الاكثرية واليهود أقلية. وبعد الاعلان عن قيام دولة اسرائيل قررت جامعة الدول العربية في “1/12/1948″ بناء على طلب الفلسطنيين، تشكيل حكومة عموم فلسطين برئاسة الحاج أمين الحسيني. الا انها لم تعمر طويلا ولم تنجح في تكريس ذاتها كجزء من النظام السياسي وقائدة له، وضاع إسمها مع تلاشي معظم قواه واندماج بعضها في أطر الحركة القومية العربية. واذا كانت مواقف القوى الدولية الكبرى حالت، في تلك المرحلة، دون حصولها على الاعتراف الدولي المطلوب فالواضح ان رفض القرار، وتسميتها حكومة “عموم” فلسطين وفرت لتلك الدول غطاء لموقفها الجائر.
تشكل داخل وخارج في النظام السياسي
بوقوع “النكبة” وتجسيد نتائجها السياسية والديمغرافية على الارض، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة اختلفت نوعيا عن تلك التي مر بها في النصف الاول من القرن. بدأت بالهزيمة المرة التي لحقت بالجيوش العربية وبالحركة والوطنية الفلسطينية، واستمرت حتى النهضة الوطنية الثانية، وتشكيل م ت ف عام 1964، وانطلاق الثورة المسلحة 1965عام. يمكن تسميتها بمرحلة الاتكالية الفلسطينية على العرب وانتظار الحلول الدولية. وتبعثرت مكونات النظام السياسي، وتشكلت أرضية حقيقية لقيام جناحين له، الاول في الداخل والثاني في الخارج حيث تواجد اللاجئون. وخلال تلك المرحلة قسمت الارض بين عدد من دول المنطقة “إسرائيل، الاردن، سوريا “، ووضع ما تبقى من قطاع غزة تحت الوصاية المصرية وحافظ على هويته الفلسطينية. وتبعثر الشعب بين داخل وخارج. أي في الشتات، وفوق أرضه التي صار إسمها إسرائيل، وفوق ما تبقى منها خارج نطاق السيطرة والسيادة الاسرائيلية “الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة الحمة”. وتلاشت قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإنتهت مكونات النظام السياسي الفلسطيني. وانخرط طلائع الحركة الوطنية القديمة في حركات وأحزاب قومية عربية واسرائيلية وأممية منها: حزب البعث، حركة الاخوان المسلمين، حركة القوميين العرب، الحزب الشيوعي، حزب التحرير الاسلامي، الاحزاب الاردنية، الاحزاب الاسرائيلية اليمينية واليسارية الحاكمة والمعارضة. وتم تبديد الهوية الوطنية بين “الاردنة” و”الاسرلة” وهوية مواطن اللجوء والشتات. واحتفظت أقلية فلسطينية في غزة بهويتها الاساسية. وظهر منتصف الخمسينات على أرض قطاع غزة عدة تنظيمات سياسية ومسلحة لكنها لم ترق لمستوى تشكيل حركة وطنية مستقلة ونظام سياسي فلسطيني واضح المعالم.
عودة الروح للوطنية وهيمنة قوية للخارج
ورغم نجاح الحركة الصهيونية في النصف الثاني من الخمسينات في توطيد دعائم دولة اسرائيل وبروزها قوة عسكرية كبيرة، إلا أن اللاجئين الفلسطينيين لم يسلموا بوجود دولة اسرائيل، ولم يفقدوا الأمل بالعودة الى بيوتهم وقيام دولتهم. وبعد طول انتظار أدرك طلائع اللاجئين أن إنتظار التحريرعلى يد الغير لا يحرر الأرض ولا يعيد الحقوق المغتصبة. وظهرت في صفوفهم ميول جدية للنهوض من حالة السبات، والقيام بدورعسكري فلسطيني مستقل ضد إسرائيل. وقامت في قطاع غزة عدة تنظيمات فلسطينية تبنى بعضها الكفاح المسلح، لقيت رعاية شبه رسمية من نظام عبد الناصر وجهاز الاستخبارات العسكرية المصري. وتخوفت “دول الطوق” المحيطة باسرائيل من نواياها العدوانية وأطماعها في الأراضي والمياه العربية. خاصة بعد أعلانها، أواخر عام 1963، عزمها إتمام المرحلة الاولى من مشروع تحويل وجر مياه نهر الأردن الى منطقة النقب. وعلى خلفية تلك التطورات عقد الزعماء العرب في كانون اول 1964 أول قمة جامعة لهم في القاهرة. اتخذوا فيها، بدفع من عبد الناصر عدة قرارات منها: “تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية” كأطار لتعبئة وتنظيم وحشد طاقات كل الشعب في الداخل “اسرائيل” والخارج في معركة التحرير”. وفي ذات العام عقد المجلس الوطني الفلسطيني الاول أولى دوراته في القدس وتم ترسيم قيام م ت ف. وصادق على الميثاق “القومي” للمنظمة وعلى نظامها الاساسي. وقرر فتح معسكرات في الدول العربية لتدريب القادرين على حمل السلاح، والشروع في تشكيل كتائب عسكرية نظامية فدائية. ولاحقا في الاول من كانون ثاني 1965 أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عن وجودها كحركة فلسطينية مستقلة تعتمد الكفاح المسلح كأسلوب للتحرير. وقالت “من فوهة البندقية تنبع السياسة”..الخ
وبتشكيل منظمة التحرير، وإنطلاق “فتح” كحركة مسلحة، وإلتحاق قوى فلسطينية أخرى بذات الإتجاه، دخل النظام السياسي مرحلته الثالثة إستمرت حتى إنطلاقة الإنتفاضة عام 1987. يمكن تسميتها بمرحلة عودة الروح للوطنية الفلسطينية. وتمرد طلائع ونشطاء الشعب الفلسطيني في الخارج على البيت القومي، ونهوض النظام السياسي الفلسطيني بمكونات جديد، وإنبعاثه كحركة مسلحة من الخارج. وبعد هزيمة العرب الثانية عام 1967، توحدت الأرض الفلسطينية، وتجمع نصف الشعب في الضفة والقطاع مع الفلسطينيين في إسرائيل تحت نظام سياسي واحد هو الإحتلال الإسرائيلي. وفي الخارج صعدت مشاعر الإنتماء الوطني بشيء من التعصب والتطرف الوطني. وتبلورت الأهداف الوطنية، وتحددت بتحرير الأرض “كلها” من الإحتلال وإقامة الدولة المستقلة، وعودة اللاجئين والنازحين.
وبعد صراع داخلي قصير توحدت قوى النظام الفلسطيني في إطار م ت ف كنظام جديد يمثل كل الشعب. باستثناء جناحها الملتحق بالتيار الديني، الذي ظل منخرطا في اطار الحركات الدينية العربية وبخاصة حركة الاخوان المسلمين. وحاول بعض أطرافها معالجة مشكلة اليهود في فلسطين نظريا، وتبنى فكرة دولة فلسطينية ديمقراطية موحدة يتعايش فيها العرب واليهود على قدم المساواة أمام القانون. وعلى امتداد عقدي السبعينات والثمانينات نشأ شكل من أشكال الوحدة والصراع بين الدور القومي والوطني المستقل. توج بتجذر الوطنية الفلسطينية عند كل أطراف النظام السياسي في الخارج. واذا كان لا مجال، في هذه المادة، محاكمة مواقف النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة “الثورة” في الاردن 1967ـ 1971، ولبنان 1972 ـ 1982 فالثابت أنه (1) نجح في إحياء القضية الوطنية وجعلها قضية دولية لها أولوية في المعالجة. وكرس الترابط الوثيق بين الامن والاستقرار في المنطقة وبين حل المسالة الفلسطينية. (2) بعث حياة جديدة في الوطنية الفلسطينية وأيقظ روحها في صفوف كل الفلسطينيين بلغ عند البعض حد “الشيفونية” أحيانا، وخلق حركة فلسطينية قوية مستقلة، ووحد الشعب حول أهداف وطنية واضحة، وأشرك معظم تجمعاته في الخارج في النضال من اجل التحرير والدولة والعودة. (3) أنهى الاحتواء العربي للحركة الوطنية الفلسطينية وخلصها من الوصاية السياسية. وكرس م ت ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وانتزع اعتراف عربي ودولي شبه شامل بذلك. (4) بانتزاع م ت ف شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وتعاظم نفوذها في صفوف اللاجئين تعزز ثقل الدور الكفاحي لجناح النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، وتولى قيادة دفة السفينة. وضعف دور جناح الداخل وصار ملحقا بالخارج. ولم يجري تمثيله عمليا في أطر” النظام السياسي الرسمي” اي المؤسسات التشريعية والتنفيذية للمنظمة والفصائل. فمن جهة عطل الاحتلال أخذ الداخل دوره في هذه الاطر، ومن جهة اخرى أهملت قيادات النظام السياسي في الخارج الوضع في الداخل. ويمكن القول أن نصف ما أنفقته م ت ف والفصائل الفلسطينية في لبنان كان يكفي للمساهمة في تأسيس قاعدة اقتصادية وكفاحية قوية في الضفة والقطاع. (5) غرق النظام السياسي الفلسطيني في لبنان في بحور من الصراعات مع النظامين اللبناني والسوري ومع عدد من القوى اللبنانية. أشغلته عن مهامه في “الداخل”. بعضها كان مشروعا فرضته متطلبات الدفاع عن التمثيل وعن استقلالية القرار الوطني، وبعضها الآخر أقحم نفسه فيه عندما تحول الى دولة داخل الدولة في لبنان وساهم بصيغة واخرى في تفكيك نظامه الرسمي. (6) تورط النظام السياسي الفلسطيني في مهام عسكرية دفاعية رئيسية عن الاراضي اللبنانية في مواجهة الهجمات الاسرائيلية المتواصلة. ألزمته تحويل تشكيلاته القتالية من تشكيلات عصابية تقاتل اسرائيل فوق الاراضي الفلسطينية المحتلة الى تشكيلات جيوش نظامية ثقيلة الحركة مثقلة بالمعدات بما في ذلك المصفحات والدبابات والمدفعية الثقيلة، أضعفت قدرته على تطوير أشكال النضال الفدائي داخل الوطن المحتل. (7) وعلى إمتداد تلك المرحلة “ربع قرن” أرسى النظام السياسي الفلسطيني نمطا من العلاقات الداخلية يمكن وصفها “بديمقراطية التراضي” بين أطرافه الاساسية، وبالديكتاتورية العسكرية في الحياة الداخلية. فرغم وجود الاطر التشريعية والتنفيذية، الا ان طغيان العسكرة على البنى الداخلية، وتغليب المصالح الفصائلية الخاصة على المصلحة الجماعية حالت دون الالتزام بمبدأ حق التباين والاختلاف في وجهات النظر وحق التعبيرعنها، وساد مبدأ “وحدة صراع انشقاق”. وكثيرا ما شهد النظام السياسي الفلسطيني انقسامات داخلية حادة وتشكلت تكتلات “جبهات رفض” وإنتهج الجميع سياسسات تناحرية غير ديمقراطية. ولعل تفاجأ جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني في الخارج بإنتفاضة أهل الضفة والقطاع أواخر عام 1987 يؤكد انشغال أطرافه عن قضايا الداخل، ويبين عمق الهوة التي كانت تفصلهم عن الناس هناك.
الانتفاضة نقلت ثقل النظام السياسي من الخارج للداخل
بإنطلاقة الانتفاضة في قطاع غزة والضفة الغربية، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة من مراحل نشوءه وتطوره، إستمرت حتى انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991 وتوقيع اتفاق اوسلو عام 1993. يمكن تسميتها مرحلة انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج الى “الداخل” الضفة والقطاع. وشروع القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة الامريكة في بحث جدي عن حل للصراع الفلسطيني العربي الاسرائيلي. فالانتفاضة بزخمها وجماهيريتها المذهلة جعلت القضية الفلسطينية قضية ذات أولوية دولية في المعالجة. وكرست فلسطينية الحل، وانهت التفكير الاسرائيلي والدولي بالبحث عن حل للصراع المزمن في الاطار العربي. وأعلن الاردن أواخر تموز 1988 فك ارتباطه رسميا بالضفة الغربية، بعدما ظل قرابة 40 عام متمسك بضمها. وتكرست الهوية والاهداف الوطنية الفلسطينية بقوة عربيا ودوليا. وصعد دور الداخل في اطار النظام السياسي الفلسطيني من جديد، وتشكل داخل الاراضي المحتلة “الضفة والقطاع” مركزا قياديا “القيادة الوطنية الموحدة” أثبت في المرحلة الاولى كفاءة قيادية عالية في قيادة الجماهير، وأظهر قدرة فائقة على تحريكها في الاتجاهات السياسية والكفاحية الوطنية السليمة. وأجادت الربط بين الاهدف والمطالب المباشرة لأبناء الانتفاضة بالأهداف الوطنية للشعب كله، لكنه لم يخرج عن السقف الذي حددته له قيادة الخارج. وقدم أبناء فلسطين في داخل الداخل “اسرائيل” ما إستطاعوا من دعم وإسناد للانتفاضة وأهدافها. وكادت بعض الفصائل تورطهم في صراع خاسر عندما طالبت “الجبهة الشعبية” بتحريك فلسطيني ال 48 ونقل الانتفاضة الى قلب اسرائيل..
وباعلان “قاوم” عن نفسها الذراع الضارب لمنظمة التحرير، وتيقن القوى الدولية والعربية من ذلك، تعززت مكانة م ت ف على الصعيدين العربي والدولي. وبرز شعور فلسطيني قوي في الداخل والخارج بالاعتزاز بالوطنية الفلسطينية. أجبر قيادة حركة حركة الاخوان المسلمين في الضفة والقطاع على البحث عن هويتها الوطنية المطمورة تحت ايدلوجيتها الاممية الاسلامية، والتحرر جزئيا من ارتباطها التنظيمي بحركة الاخوان المسلمين في الاردن ومصر. وشكلت حركة المقاومة الاسلامية “حماس” في الضفة والقطاع، إنضمت “بالعام” للنظام السياسي الفلسطيني. ونجحت في اثبات وجودها الفاعل في اطار الانتفاضة. وصعد نفوذها في الشارع، وراحت تشارك بقوة في النشاطات الوطنية داخل الارض المحتلة. ورفضت الانضمام الى م ت ف وطرحت نفسها بديلا لها، وشكلت أطرها الخاصة بموازاة الاطر الموحدة للانتفاضة.
في تلك الفترة تعرضت قوى النظام السياسي في الخارج لهزة عنيفة، طالت مرتكزاتها الفكرية والسياسية وأساليب عملها التنظيمية والعسكرية. وبدلا من التفاعل الايجابي مع المتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة في أوضاع الحركة الوطنية سارعت لإحتوائها وإجهاظها. وعوضا عن معالجة النواقص والثغرات التي كشفتها الانتفاضة، وبخاصة العسكرة ونقص الديمقراطية، نقلت أمراضها الى جسم القيادة الوطنية الموحدة وجسم الانتفاضة كله. وفرضت قوانينها وأسس علاقاتها الجامدة وأساليب عملها على الانتفاضة، وعسكرتها. لقد حاولت الفصائل إدخال جسم الانتفاضة الكبير في أثوابها الضيقة فتشققت أثوابها، وبقي الجسم المنتفض خارجها. ونشأ صراع فلسطيني داخلي مبطن بين الداخل والخارج. وخشيت قيادة الخارج من تبلور قيادة وطنية فعالة موازية لها تشاركها في صياغة القرار الوطني، فبذلت جهودا كبيرة مبطنة لتحجيم دور الداخل وإبقائه أداة تنفيذية وليس أكثر.
في حينه تفاعل جناح من النظام السياسي الفلسطيني مع الاطروحات السياسة الواقعية للانتفاضة. دفعت قيادة فتح والحزب الشيوعي الفلسطيني والجبهة الديمقراطية وعدد كبير من الشخصيات الوطنية عام 1988 باتجاه تبنى شعارها “دولتين للشعبين” على ارض فلسطين التاريخية. واطلق المجلس الوطني في ذات العام مبادرة السلام الفلسطينية، واعلن من الجزائر قيام دولة فلسطين نالت اعتراف قرابة ماية دولة. وتوفرت في تلك الفترة فرصة كبيرة لجناح الداخل لأخذ موقعا فاعلا في النظام السياسي الفلسطيني، ولعب دورا مؤثرا في صياغة القرار الوطني ورسم المصير الوطني. الا أن “قاوم”، وفروع التنظيمات والأحزاب الوطنية والشخصيات الوطنية في الداخل، لم تحاول إستثمار دورها في الانتفاضة كما يجب، ولم تستغل التحول النوعي الذي أحدثته في فكر وبنية النظام السياسي الفلسطيني. وانضبطت لاسس المركزية ولم تبذل الجهد اللازم لإعادة الاعتبار لدورها الوطني. وترددت في التقدم لإحتلال مواقع تنظيمية جديدة في النظام السياسي العام، ولم تحاول فرض صيغ تنظيمية وطنية تكرس مشاركة الداخل مشاركة حقيقية في صناعة القرار الوطني. ولاحقا كرست بيانات القيادة الوطنية الموحدة، وسلوك قيادات الفصائل في الداخل، الدور القيادي للخارج للانتفاضة. ورضيت بتسليم أمرها للخارج، بما في ذلك تدخله في صياغة بيانات “قاوم” وانضبت تماما للتعليمات الاساسية والتفصيلية التي كانت تصلها من الخارج “اللجنة العليا للانتفاضة”. ونفذت ما طلب منها دون نقاش، بما في ذلك أشكال تحركاتها اليومية.
مع تواصل الإنتفاضة وثبوت تولي م ت ف قيادتها وتوجيهها، أدركت القوى الدولية المعنية باستقرار أوضاع المنطقة بأن تواصل حركة الانتفاضة يؤجج الصراع في المنطقة ويعرض مصالحها للخطر، خاصة أنها بدأت في خلق تفاعلات اولية في الشارع العربي ووضعت النظام الرسمي العربي في وضع حرج. في حينه بدأت مرحلة جديدة من التحركات الدولية والاقليمية لحل النزاع بالطرق السلمية. وجددت الادارة الامريكية محاولاتها باتجاه ايجاد تسوية للصراع. وبعد انهيار سور برلين وتفكك حلف “وارسو”، وصمت المدافع على جبهات حرب الخليج وهزيمة النظام العراقي، تقدم الرئيس الامريكي “جورج بوش” في آذار 1991 بمبادرته المعروفة لصنع السلام في المنطقة. رحبت بها م ت ف، ولاحقا إقتنعت القيادة الاسرائيلية أن إسستمرار التهرب من معالجة صراعها مع العرب يؤجج التطرف في كل انحاء المنطقة، ويلحق بها على المدى المباشر والبعيد خسائر استراتيجية تمس علاقاتها الدولية، وأخرى تطال بنيتها الداخلية وهويتها المستقبلية. واقتنعت بضرورة المشاركة في البحث عن حلول سياسية للصراع. ووافقت على الذهاب الى مؤتمر مدريد للسلام “31/10/1991″ الذي دعت له الادارة الامريكية، ونجحت في فرض شروطها.

حلقة ثانية عملية السلام نسفت مرتكزات النظام السياسي القديم
إنقسام سياسي عميق له ما يبرره
يسجل للانتفاضة أنها في الوقت الذي انعشت الحركة الاسلامية في الضفة والقطاع سرعت وقوع تحولات نوعية في الفكر السياسي الفلسطيني. وعززت المواقف والتوجهات الواقعية الكامنة في الشارع، وأضعفت الاتجاهات الوطنية “العلمانية” المتطرفة. وضغطت باتجاه الإعتراف الرسمي بقرار مجلس الامن 242 وتطوير البرنامج المرحلي للمنظمة. ويسجل لعدد من أطراف النظام السياسي انهم أجادوا إستثمار الانتفاضة، ووظفوا تفاعلاتها الداخلية والخارجية لصالح تعزيز مكانة م ت ف. وأجادوا إستثمار التطورات الدولية التي وقعت في تلك الفترة، ووافقوا على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، والبحث عن حل عادل للقضية الفلسطينية بالطرق السلمية. وكان واضحا أن المشاركة الفلسطينية في المؤتمر الدولي تمت بفضل الانتفاضة وبفضل السياسة الواقعية التي انتهجتها قوى أساسية في النظام السياسي الفلسطيني. وقيادة الخارج كانت وستبقى مسئولة، لإشعار آخر، عن كل النتائج الايجابية والسلبية التي تفرزها عملية السلام على القضية الوطنية. ويسجل للفلسطينيين في اسرائيل أنهم ساندوا مواقف الاتجاه الواقعي، وأيدوا قرارات المجلسين الوطني والمركزي، التي خولت قيادة م ت ف المشاركة في مؤتمر السلام وفقا للاسس التي تضمنتها رسالة الدعوة التي وجهها راعيي المؤتمر “الامريكي والسوفيتي”، واعتبروا المشاركة في عملية السلام مكسبا فلسطينيا يقوي موقفهم ويعزز موقعهم في الخارطة الحزبية والسياسية الاسرائيلية.
بعد صراع مع الذات ومع الادارة الامريكية حول شروط المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على المشاركة في عملية السلام وفقا للشروط المجحفة التي تضمنتها رسالة الدعوة الامريكية السوفيتية. فالخيار الآخر كان يعني وقوفها عكس تيار دولي اقليمي جارف، وتعرضها لخطر التصفية السياسية ان لم تكن الجسدية ايضا كما حصل مع ابو جهاد وابواياد وابوالهول. لاسيما أنها خرجت من حرب الخليج مطاردة دوليا وعربيا بالاضافة للمطاردة الاسرائيلية المتواصلة. ومصنفة ضمن القوى التي آزرت النظام العراقي في إحتلال الكويت. وبعد إبلاغ وزير الخارجية الأمريكية “جيمس بيكر” بالموافقة المبدئية على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بشقية الثنائي والمتعدد الاطراف، إرتفعت وتيرة الخلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، بلغ حد التشكيك في شرعية قيادة م ت ف. وامتد الخلاف للداخل، وإنقسم النظام السياسي “داخل وخارج” على نفسه إنقساما عميقا، إختلف عن كل الإنقسامات التي سبقته. وكان للإنقسام السياسي ما يبررة، ولوجود معارضة وطنية قوية لمفاوضات السلام ضرورات وطنية. فالمسائل المطروحة على بساط البحث تمس المصير الوطني برمته، والمشاركة الفلسطينية حسب رسالة الدعوة تتعارض مع ميثاق م ت ف الاطار الجامع للجميع. واسسها ناقصة وتهدد استقلالية القرار الفلسطيني حيث تقرر أن تكون في أطار وفد أردني ـ فلسطيني مشترك، وأن لا يضم الوفد المفاوض أي ممثل عن الخارج والقدس. وأن يتم تناول القضايا الفلسطينية على مرحلتين من المفاوضات “انتقالية ونهائية”.
ورغم أن المشاركة في عملية السلام تمت بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني، ومن بعده المجلس المركزي واللجنة التنفيذية، أعلن جناح من النظام السياسي الفلسطيني رفضه للمؤتمر، وظهر تعبير “القوى المعارضة لفريق مدريد”. واعلنت المعارضة الحرب ضد مؤتمر السلام وضد القيادة الفلسطينية التي وافقت على المشاركة فيه. ورفضت الأخذ بمبدء تولي الاغلبية دفة القيادة واحتفاظ المعارضة بمواقفها، وأعلنت إنسحابها من الاطر القيادية التنفيذية للمنظمة، وشكلت اطارا خاصا بها جمعها كلها خارج أطر منظمة التحرير. وتبنت فكرة إجراء إستفتاء شعبي حول المشاركة في عملية السلام. وكأن إجراء مثل هذه العملية في الداخل والخارج يمكن أن تتم بقرار فلسطيني، وكأن الدول العربية وقوات الاحتلال ستوافق على اجراء مثل هذا الاستفتاء. وكثر الحديث في أدبيات المعارضة وبياناتها عن أسس اتخاذ القرارات السياسية في المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وطالب بعض أطراف المعارضة “باعتماد النصاب السياسي مقابل العدد الميكانيكي للاصوات في هيئات المنظمة”، أي استبدال “ديمقراطية التراضي” بإعتماد عدد الفصائل والتنظيمات وليس عدد أعضاء الهيئات، كأساس لتقرير المواقف الوطنية، ورسم التوجهات السياسية المركزية لمنظمة التحرير. وإشتق البعض “شعبية وديمقراطية وحماس” من هذه المقولة فكرة تعليق أعمال الهيئات الوطنية المشتركة، وإجراء “حوار وطني شامل” خارج الأطر والمؤسسات التشريعية، وهي صيغة رديفة “لديمقراطية التراضي”. وعليها إستند في الطعن في شرعية تفويض الهيئات القيادة للمنظمة لوفد من الداخل للتفاوض بإسمها. وشكلت جبهة رفض جديدة، خارج أطر المنظمة، مكررة تجربة جبهات الرفض الفاشلة في السبعينات. ولم تتورع عن نقل خلافاتها وصراعاتها الى قلب الإنتفاضة وأطرها القاعدية والقيادة. وفرضتها كأولويات على حساب القواسم الوطنية المشتركة، في حين كانت المصلحة الوطنية العليا تفرض عدم إنزلاق العلاقات الوطنية خارج مسارها الديمقراطي، وعدم نقل الخلافات الى أطر الانتفاضة، وبقاء تصارع الأفكار والآراء ضمن دائرة الأهداف الإستراتيجية للشعب الفلسطيني. ورفضت المعارضة القيام، من داخل المؤسسة، بدور المراقب لمسيرة التفاوض ومدى تطابقها مع قرارات المؤسسات التشريعية، وإشعال الضوء الاصفر والأحمر في الشارع لتعطيل كل محاولات تجاوزها، ومنع الأغلبية الإقتراب من المنزلقات الخطرة التي تلحق أضرارا إستراتيجية بالقضية الوطنية. ورفضت الاخذ بمقولة توحيد طاقات الجميع، للنهوض بالمهام المشتركة التي يمكن إشتقاقها في مواجهة سياسة الإحتلال. وبعد صراع مع المبعوث الامريكي “بيكر” ومع الذات وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على تشكيل الوفد المفاوض من الداخل، والعمل من خلال المؤتمرعلى تحسين شروط المشاركة الفلسطينية.
بالمشاركة في ذلك المؤتمر دخل النظام السياسي الفلسطيني انعطافة سياسية وتنظيمية حادة. وإنتقل الى واقع جديد ومرحلة جديدة نوعية من حياته وعلاقاته الداخلية والخارجية ما زلت مستمرة للآن. وإذا كان لا مجال في هذه الورقة البحث بالتفصيل في المواقف التفاوضية للطرفين في مفاوضات مدريد ـ واشنطن، وفي تكتيكات القيادة الفلسطينية تعطيل تقدم تلك المفاوضات قبل تكريس مشاركة م ت ف مباشرة فيها، والتخلص من صيغة الوفد المشترك، فوقائع الحياة السياسية أكدت أن قيادة الخارج كانت تضمر موقفا يعتبر الشروط التي فرضت على المشاركة الفلسطينية، وبخاص صيغة تشكيل الوفد من الداخل وفي اطار مشترك مع الاردن، مؤامرة إسرائيلية أمريكية أردنية ضد م ت ف وضد الإستقلال الفلسطيني. هدفها شطب القرار الوطني المستقل، وخلق قيادة بديلة، وإحياء الخيار الأردني من جديد بعدما أنهته الانتفاضة. وصممت منذ البداية على السيطرة على دور الوفد والتحكم في مواقفه وتحركاته وأظهار ذلك للعالم وللقيادة الإسرائيلية. ورغم إعلان الوفد قبل ذهابه الى مدريد، عن ولائه لقيادة م ت ف، بلغ حد مطالبتها بإصدار قرارات وكتب تكليف رسمية لكل عضو من أعضاء الوفد، إلا أن القلق من القيادة البديلة بقي مسيطرا على ذهن قيادة م ت ف في الخارج، وظل متحكما في مواقفها وتوجيهاتها للوفد. ومن جانبها لم تقصر قيادة المعارضة في الخارج في مهاجمة الوفد المفاوض، وفي تحريض القيادة الشرعية ضده، وتخويفها من القيادة البديلة، رغم معرفتها أن الوفد ينفذ سياسة فلسطينية ولا يقررها. وبعد انعقاد مؤتمر مدريد وإنطلاق جولات المفاوضات واحدة تلو الاخرى ظلت مواقف قيادة م ت ف تدفع الوفد باتجاه التشدد والتطرف، وبذات الوقت كانت ترسل إشارات للأمريكان والإسرائيليين تبدي فيها مرونة سياسية مشروطة بجلوسها مباشرة خلف طاولة المفاوضات. خلاصتها أن الحل مع قيادة م ت ف أسهل من الحل مع وفد لا يملك القرار. وخلال مفاوضات واشنطن أخطأ شامير مرتين، الأولى حين إعتقد بأنه وحدة الذي يعمل على تعطيل تقدم المفاوضات على مسارها الفلسطيني، والثانية عندما هرب من الضغوط الأمريكية باتجاه الإنتخابات. فتعطيل التقدم في المفاوضات كان هدفا للقيادة الفلسطينية في الخارج بمقدار ما كان هدفا له. ونتائج إنتخابات أيار 1996 أطاحت به وأخرجته من مبنى رئاسة الوزراء وأخرجت حزبه من السلطة.
بعد فوز حزب العمل في انتخابات 1992، وجدت نفسها حكومة اسرائيل الجديدة، برئاسة رابين، أمام اللوحة التالية: صراع مزمن لم تحله الحروب، وإنتفاضة مستمرة، وقيادة فلسطينية تقترب من الواقعية وتبدي إستعدادا للدخول في مساومة تاريخية، وإدارة أمريكية راغبة في تواصل المفاوضات وفي ايصالها الى نتائج ملموسة، ومفاوضات إسرائيلية فلسطينية واسرائيلية عربية متعثرة. وبعد فتحها ملف المفاوضات تبين لها أن طريق مدريد ـ واشنطن شبه مقفلة، وأن الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة د. حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني غير قادرعلى تقديم التنازلات اللازمة للتوصل للإتفاقات المطلوبة في الأوقات المطلوبة. ويصر صباح مساء على دور مباشر لقيادة المنظمة. ويقول جهارا “على كل من يرغب في الإتفاق مع الفلسطينيين أن يتوجه مباشرة نحو م ت ف ويجلس مع قيادتها”. أمام هذا الموقف، وتحت تأثير موقف الناخب الإسرائيلي الذي إنتخبه على أساس الوصول الى سلام مع العرب، حاول رابين كسر جمود مفاوضات واشنطن وقدم إغراءات “لوفد الداخل” عله يقبل تجاوز المنظمة ويعفيه من الجلوس معها. إلا أن الوفد رفض الإغراءات. ولم يكن أبوعمار بغافل عما يدور، بل كان واقفا للوفد ولرابين بالمرصاد. ومرة أخرى خلقت المفاوضات فرصة كبيرة لتعزيز موقع الداخل في إطار النظام السياسي الفلسطيني، وبلورة صيغ جديد من العلاقة التنظيمية الرسمية بين الداخل والخارج، وداخل الفصائل. إلا أن قيادات الداخل ترددت مرة أخرى في تحمل مسؤولياتها الوطنية ولم تستثمر الفرصة، وقبلت أن يبقى دورها تنفيذي وإستشاري محدود. وحرص الوفد المفاوض أكثر فاكثرعلى إظهار ولائه لقيادة م ت ف. ولاحقا إلتزم حرفيا بالتعليمات الخطية والشفوية التي كان يتلقاها، وأبدى إنضباطا مذهلا للأسس العلاقات الداخلية شبه العسكرية، رغم قناعته في كثير من الأحيان عدم صوابيتها وتلحق أضرارا بالموقف التفاوضي الفلسطيني. بعدها تردد رابين في فتح مفاوضات مباشرة مع قيادة م ت ف وحاول التهرب والمراوغة، فتقدم بيريز وطاقم الخارجية الاسرائيلية بقيادة يوسي بيلن باتجاه جس نبض المنظمة وإستطلاع مواقفها. وعندما إلتقطت السنارة الإسرائيلية طرف الخيط الفلسطيني حاول رابين الهروب من شر التفاوض مع المنظمة ومع ياسرعرفات، لكنه لم يفلح، ولم يصمد طويلا. وبعد 8 أشهر من المفاوضات السرية توصل سرا ممثلوا م ت ف والحكومة الاسرائيلية في 18/آب/1993 في اوسلو لاتفاق “اعلان المبادىء حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية”. وأصبح رابين أحد أبطال قصة الأتفاق السري الذي عرف باتفاق أوسلو، ونال مع بيريز وأبوعمار جائزة نوبل للسلام، ولاحقا دفع رابين حياته ثمن ذلك وتم اغتياله على يد متطرفين.
أوسلو مولود شرعي لكنه لم يعالج الصراع المزمن
قبل انطلاق عملية السلام من مدريد عام 1991 لم تستطع التوجهات الفلسطينية، على مدى 20 سنة، نحو “اقامة السلطة الوطنية على أي جزء من الأرض يتم تحريره” شق طريقها للحياة. وبعد حرب 1982 وترحيل قيادة وكوادر م ت ف من بيروت تراجعت الفكرة وانضمت للأحلام والأوهام الفلسطينية، وكاد أصحابها ينسوها. ومع الاعلان عن إتفاق أوسلو عادت الروح اليها، وعاد الصراع الفلسطيني حولها للظهور من جديد. فالاتفاق نص تحت بند هدف المفاوضات “أن هدف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ضمن عملية السلام الحالية في الشرق الاوسط، هو من بين أمور أخرى، إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية ـ المجلس المنتخب ـ للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، وتؤدي الى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الامن 242و338 “. في حينه كانت الخلية الفلسطينية التي أدارت مفاوضات أوسلو بحاجة، لإعتبارات معنوية وسياسية داخلية، مقاربة نص الاتفاق حول السلطة مع نص قرار المجلس الوطني. وحاولت تثبيت تعبير “السلطة الوطنية” بدلا من “حكومة ذاتية انتقالية”، فتعبير السلطة مقبولا في نظر الناس، ويتضمن بصيغة واخرى مؤشرات تدل على الاستقلالية. اما الحكومة الذاتية فيشير من حيث الشكل والمضمون الى تبعية كاملة للاحتلال. وأيضا لتؤكد لشعبها وللمعارضة الفلسطينية أنها لم تخرج عن قرارات المجلس التي وافقوا عليها.. لكن محاولتها جوبهت برفض اسرائيلي عنيف، وثبت النص الذي طرحه رابين واصر عليه. وبعد إتفاق طابا عاد رابين ووافق على التسمية الفلسطينية وعلى استخدام كلمة سلطة ووزارة ووزراء.
وبصرف النظر عن الطريقة التي أدار فيها الخارج الفلسطيني “خلية أوسلو” المفاوضات فاتفاق أوسلو مولود شرعي ولد بصورة طبيعية تماما. فالمفاوضون والموقعون على الإتفاق من الطرفين يمثلون شعبيهما تمثيلا رسميا، وحصل الاتفاق على مصادقة مؤسساتهما التشريعية. ولا مبالغة في القول أنه كان أشبه بزلزال قلب أوضاع النظام السياسي الفلسطيني رأسا علىعقب. وإذا كان سابق لأوانه إصدار حكما موضوعيا نهائيا على الإتفاق ونتائجه الاستراتيجية البعيدة، فوقائع الحياة كشفت تسلسل منطقي لأحداث وتطورات سياسية أقليمية ودولية فرضت على الطرفين التوصل لاتفاق، والإنقلاب على مفاهيمهم وقناعاتهم التي آمنوا بها سنوات طويلة، وتخلوا عن الاساليب التي اتبعوها سنين طويلة لتحقيق اهدافهم.
وبعد الإعلان عن الإتفاق ونشره على الملأ ظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة إتجاهات رئيسية: أحدها أيد الإتفاق وأفرط في التفاؤل، وبسط الأمور وتصور بأن “كل شيء يهون بعد دخول م ت ف أرض الوطن”. واعتقد أصحابه بأن تقاطع المصالح التي أفرزت الإتفاق تدفع أطرافه باتجاه الإلتزام الأمين به، وتسريع تنفيذه، وصولا للدولة المستقلة. والثاني عارض الإتفاق وأفرط في التشاؤم وطعن في شرعيته، ورفع شعار “اسقاط الإتفاق وإسقاط نهج أوسلو”. وإعتقد بأن “الاتفاق ولد ميتا”، وأنه غير قابل للتنفيذ وانه “سيسقط خلال أسابيع أو شهور معدودة ” كما سقط اتفاق “خلدة” اللبناني الإسرائيلي عام 1984″. ولاحقا أطلق أصحاب هذا الإتجاه على الإتفاق إسم “غزة وأريحا أولا وأخيرا”. أما الإتجاه الثالث فظهر عند أهل الأرض المحتلة وتساءل أصحابه عن نصوص الإتفاق حول الإستيطان، والموقف من حقوق الإنسان، واطلاق سراح المعتقلين، وقالوا العبرة في التنفيذ. وجاءت النتائج الاولية للاتفاق ووقائع 8 سنوات من المفاوضات لتؤكد بالملموس أن أهل الأرض المحتلة كانوا الأدرى بالاحتلال وسياساته، وأن تقييمهم كان الأكثر واقعية والأكثر دقة. وأن الآخرين من معارضين ومؤيدين، فصائل وقوى وشخصيات وطنية وإسلامية، شطحوا بعيدا في تقديراتهم، ووضعوا أمنياتهم ورغباتهم محل التقييم الموضوعي. فالإتفاق من جهة بقي على قيد الحياة خمس سنوات نما وكبر خلالها، ومن جهة أخرى تعثرت المفاوضات حوله وحول ما أنتجه من إتفاقات أخرى، وتأخر تنفيذ العديد من بنوده وبنودها. ومهما كانت دوافع مؤيدي ومعارضي الاتفاق والمتحفظين عليه فخمس سنوات من عمره أكدت نجاحه في هز اسس النظام السياسي الفلسطيني القديم، وأدخل الشعبين أعتاب حقبة جديدة في تاريخ صراعهما لا تزال في طور التشكل والتكوين. وأحدث تغييرات نوعية في أسس علاقات اسرائيل بالمنظمة وبمعظم الدول العربية. وثبتت نقاط أساسية لصالح هذا الطرف وأخرى لذاك، ليس سهلا الغائها. وساهم في تكريس حل الصراع بالطرق السلمية وأنهى لإشعار آخر أفكار الحرب، وأفكار اللاحرب واللاسلم التي كانت سائدة فترة الحرب الباردة. ولم يحصد منها العرب سوى الفقر والتخلف وضياع الوقت، وتعطيل الديمقراطية، وسيادة الاحكام العرفية.
وألد أعداء الاتفاق لا يستطيعون تجريده من انجازاته منها: تحرير أجزاء صغيرة هامة من الأرض، وأزاحة نير الإحتلال وقهره اليومي جزئيا عن ظهر قطاعات واسعة من الشعب في الضفة والقطاع. وأنهى ومعه المعاهدة الاردنية الاسرائيلية أفكار كانت تنادى بها بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين للأردن، وتحويله وطنا بديلا لهم، وتم ثبيت الخيار الفلسطيني طريقا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحرر القرار الوطني الفلسطيني من الوصاية والإحتواء، ونقله رسميا وعمليا من العواصم العربية للمدن الفلسطينية. وحل معضلة إنفصال القيادة عن أرضها وشعبها، وصحح وضعية هرم النظام الساسي الفلسطيني الذي ظل مقلوبا على رأسه منذ تشكيل ت ف عام 1964. ومثّل محطة فاصلة، في تاريخه ومستقبله، وأحدث تطورات هامة على بنية م ت ف وعلاقاتها الداخلية والحارجية. فقد وتر علاقاتها مع عدد كبير من القوى العربية الحاكمة والقوى الوطنية غير الحكومية. وعجل في عزل أطراف النظام السياسي الفلسطيني المرتبطة بالانظمة العربية “منظمة الصاعقة المرتبطة بسوريا، الجبهة العربية الموالية للعراق، وفتح الانتفاضة المرتبطة بالسوريين والليبين” وأضعف دورها في الحركة الفلسطينية، وأفقدها تأثيرها، المحدود اصلا، في القرارالفلسطيني. اما القوى الاخرى فأدى الاتفاق الى تراجع فعل بعضها وضعف وزنها السياسي والجماهيري لدرجة تقترب من التلاشي. ونما ثقل بعضها الآخر “حماس” وصعد دورها. وهناك من لم يوفق للآن في تأمين إستقراره الفكري والتنظيمي. واذا كان اليمين الإسرائيلي ما زال يتصرف باعتبار الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فأوسلو وما إنبثق عنه من إتفاقات وخطوات عملية على الأرض أنهى “نظريا” هذه المقولة. ووضع القيادة الاسرائيلية وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية التي تهربت منها أكثر من أربعين عاما. فإعترفت بأن هناك شعب إسمه الشعب الفلسطيني، ولهذا الشعب ممثل شرعي ووحيد هو م ت ف، وأقرت بوجود كيان خاص على ذات الأرض لشعب أعتبر يوما ما شعبا زائدا في المنطقة.
وإذا كان ضروري تعريف الكيان الفلسطيني القائم وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن “حكم ذاتي” في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء صغير هام من الأرض. ناقص السيادة، محدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور، إذا تمسك اهله بحقوقهم الاساسية وتابعوا نضالهم دفاعا عن ارضهم، وأجادوا إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحريتهم واستقلالهم. ونعته بابشع النعوت من نوع، كيان أوسلو، دويلة مسخ وهزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة اقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يغير الواقع الجديد. ويفرض على أطراف النظام السياسي عدم التمترس في الخنادق القديمة في مواجهة الحقائق، والخروج منها والشروع فورا في معالجة الاشكالات الكثيرة والازمات الخطيرة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني منذ ما قبل أوسلو وللآن. وبديهي القول إن إنجازات أوسلو كان لها ثمن. والحديث عن الايجابيات ليس من مهمة البحاثة والطامحين للتصحيح والتجديد، وقد يساهم في التضليل ولا يعالج المشكلات بل يطمسها. اما قمع الحديث عن النواقص والازمات المتنوعة فتجارب الشعوب والدول تؤكد بانه لا يعالجها بل يزيدها تعقيدا، ويفجرها الواحدة تلو الاخرى في اوقات غير مناسبة. ويقطع الطريق على امكانية الاستفادة من العلاج الصحيح ومن استخدامه في الوقت الصحيح. وقديما قالوا “درهم وقاية خير من قنطارعلاج”.

حلقة ثالثة واقع النظام السياسي واشكالياته بعد اوسلو
نشوء السلطة الوطنية وتشكيلها تم بعملية قيصرية
بعد توقيع “أوسلو” في حديقة البيت الابيض “13/9/93″ وتمهيدا للإعلان عن تشكيل السلطة، عقدت القيادة الفلسطينية سلسلة إجتماعات في تونس، قاطعتها حركة حماس وجميع قوى م ت ف التي عارضت الاتفاق. وكان واضحا أن “أوسلو” بالكاد يعالج قضايا المرحلة الانتقالية، والقضايا الأساسية “القدس الاستيطان اللاجئيين الحدود..الخ ” مؤجلة الى مفاوضات المرحلة النهائية. وكان مفهوما للداخل والخارج بأن السلطة المنوي تشكيلها ليست بديلة للمنظمة، ولا يمكنها أن تكون كذلك. وبعد تشكيلها ستكون ممثلة لسكان الضفة والقطاع فقط لفترة زمنية انتقالية حددها الاتفاق بخمس سنوات. ومهامها محصورة في إدارة الوظائف والمجالات التي نص عليها الاتفاق فقط. وتوقف الاجتماع أمام عدد من الأسئلة المركزية منها : كيف وعلى أية أسس نشكل السلطة الوطنية كجسم قيادي جديد ؟ هل نشكلها من خارج التنفيذية ونحافظ على تنفيذية المنظمة كمرجعية ؟ أم نضيف مهام السلطة للجنة التنفيذية ونبقيها كما هي؟ هل نضيف للتنفيذية عددا من قيادات الداخل، وكيف نضيفهم بدون عقد إجتماع للمجلس الوطني؟ وما هو دور منظمة التحرير بعد قيام السلطة، وكيف نحل التعارض القادم بين الجسمين ؟ وهل نحافظ على ثقل رئيس اللجنة التنفيذية المعنوي خارج السلطة الوطنية أم نزجه فيها ؟
خلال النقاش أبدى البعض تخوفه على وجود المنظمة ودورها بعد تشكيل السلطة. وأكد الجميع أهمية المحافظة على مكانتها ككيان سياسي وكإطار تنظيمي، وإبقائها سلطة عليا لكل الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد داخل وخارج الارض المحتلة. أما بشان تشكيل السلطة فطرحت أفكار متعددة منها: أن تكون من قيادات الداخل فقط، ولا يدخلها أعضاء التنفيذية، يتم تشكيلها من التنفيذية أساسا مع إضافات محدودة من الداخل، أن تكون غير سياسية وتشكل من التكنوقراط والكفاءات والاخصائيين. أصوات قليلة دعت الى تفويض رئيس اللجنة التنفيذية بتشكيلها وفقا لما يراه مناسبا. وكان الحاضرون من أعضاء التنفيذية ضد الفصل بين الجسمين، ومع تشكيلها من التنفيذية كأساس. ولا بئس عندهم من إستكمال عددها بشخصيات من الداخل، وأن يكون ابوعمار بصفته رئيس التنفيذية رئيسا لها. وبرز إتجاه آخر، من الداخل ومن المستقلين من الخارج ، معاكس لإتجاه أغلبية اللجنة التنفيذية. دعى الى فصل تشكيل ومهام الجسمين بعضهما عن بعض. وشدد أصحابه على ضرورة تقليص عدد أعضاء التنفيذية في السلطة، إذا كان لابد من مشاركتهم فيها. وأن لا يكون رئيس التنفيذية ضمنهم، وأن يحافظ على ثقله السياسي والمعنوي في إطار م ت ف باعتبارها القيادة العليا لكل الشعب.
وكان المستقلون من الداخل هم الأكثر جرأة في نقد الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وفي تشخيص الأمراض التي تنخر جسم القيادة الفلسطينية ومؤسساتها. وأكثروا من الحديث عن مضار الفئوية والفصائلية في العمل الفلسطيني، وأظهروا مخاطر سحبها على تشكيلة السلطة الوطنية. وذكّروا بما فعلته هذه الظواهر المرضية في الانتفاضة. وقالوا : التفرد بالقرار يتعارض مع الديمقراطية، والفئوية تتعارض مع الوحدة الوطنية ومع الديمقراطية، ومرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة. وخلال النقاش أبدى معظم أعضاء التنفيذية عدم إرتياحهم لهذا الموقف، ودافعوا بقوة عن آرائهم. وانتهت إجتماعات القيادة الفلسطينية في حينه دون اتخاذ قرار محدد. ولخص رئيسها حصيلة المناقشات بالقول: “القرار من صلاحيات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، ومعنا الوقت الازم لاجراء مزيد من المشاورات والاتصالات مع إخواننا العرب وبعض الحلفاء والأصدقاء الاجانب”.
عشية إنعقاد المجلس المركزي الفلسطيني عقدت اللجنة التنفيذية يوم 9/10/93 إجتماعا ناقشت فيه الموضوع. وأقرت الدفع في المجلس المركزي باتجاه تشكيل السلطة من الداخل والخارج، وتكون سياسية ويترأسها ابوعمار، ويشارك فيها أعضاء من اللجنة التنفيذية لم يحدد عددهم. يوم 10 /10/93 بدأ المجلس المركزي دورة أعماله بحضور83 عضوا من أصل 110 أعضاء شارك فيها عدد كبير من المراقبين بلغ عددهم ما يقارب ضعفي عدد أعضاء المجلس. جاءوا من مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بما في ذلك إسرائيل. ورغم كثرة النقاط المدرجة على جدول الأعمال، إلا أن جميع الحاضرين، عاملين ومراقبين، كانوا يدركون أن المجلس المركزي مدعو لإقرار نقطتين أساسيتين: الأولى الموافقة على إتفاق اوسلو، والثانية اتخاذ قرار تشكيل السلطة الوطنية. وكرر عدد من الأعضاء وبخاصة المستقلين تخوفهم الحقيقي على مصير المنظمة بعد تشكيل السلطة. وبعد مناقشات إستغرقت يومين كاملين، صوت أعضاء المجلس على “إتفاق إعلان المبادئ” أمام وسائل الاعلام ونال أغلبية الأصوات. ووافق المجلس بأغلبية 68 على: ” إقامة السلطة الوطنية على كل الأراضي التي ينسحب عنها الاحتلال. ويفوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية وفقا لقرار المجلس المجلس الوطني تشكيل هذه السلطة من الداخل والخارج وتكون م ت ف مرجعيتها، ويترأسها رئيس اللجنة التنفيذية “. في تلك الفترة لم يتعجل أبوعمار في تشكيل السلطة، ورغب في إعلان تشكيلها على أرض الوطن. وأخّر قراره إلى ما بعد توقيع بروتوكولات القاهرة في أيار 1994. ولاحقا أعلن أسماء أعضائها بعد إصرار إسرائيل على تسلم الاسماء قبل دخول الدفعة الاولى من أفراد الشرطة، وسلمها على دفعات. وتهالك بعض أعضاء التنفيذية على دخولها، وفضل آخرون الانتظار. ورحب الشارع الفلسطيني بالخطوة واعتبرها إنجاز هام. أما قوى المعارضة فكررت مواقفها وشككت في شرعية قرار تشكيل السلطة.
إشكالية العلاقة بين السلطة والمنظمة
نظريا كان الخلاف في القيادة الفلسطينية الرسمية يدور حول أفضل صيغ وأسس وأشكال بناء السلطة الوطنية، إلا أنه واقعيا كان يخفي صراعا في إطار المنظمة حول موقع السلطة الوطنية في النظام السياسي الفلسطيني، وحول المواقع الشخصية والتنظيمية. فالكل كان يدرك أن إنتقال مركز ثقل الحركة الوطنية والنشاط السياسي من الداخل للخارج يعني تراجع دور المنظمة. وقيام السلطة الوطنية وترؤس أبوعمار لها يعني إنتقال ثقل القرار الوطني لهذه الهيئة الجديدة وتوليها قيادة العمل الفلسطيني، لاسيما وأن العالم سيرمي بثقله لصالح تكريس دور الجسم القيادي الجديد. في حينه بشر بعض أعضاء التنفيذية بإنتهاء دور المنظمة من الناحية العملية، وقالوا “دعونا نحضّر لاقامة مراسم التشييع في غزة وأريحا “.
بعد تشكيل السلطة الوطنية الاولى في أيار1994 وعبورها الوطن وتوليها عددا محدودا من المجالات في غزة واريحا، دخلت علاقتها التنافسية مع المنظمة حيزها الرسمي والعملي الملموس. وترعرعت في ظل أجواء مأزومة داخليا وخارجيا، وعاشت منذ البداية حالة مد وجزر من التوتر، ولم تشهد يوما حالة توافق وإنسجام. ولعل من المفيد التذكير أن أوضاع م ت ف، المكون الرئيسي للنظام السياسي الفلسطيني، لم تكن على مايرام منذ ما قبل مؤتمر مدريد واتفاق أسلو. وكانت مصابة قبل وبعد رحيلها القسري من لبنان عام 1982، بأمراض متنوعة جوهر بعضها موضوعي غير مصطنع، وبعضها ذاتي، كان مصدرا من “الخارج”.
إشكالات موضوعية خلقها أوسلو
بعد “أوسلو” واجه الفكرالسياسي الفلسطيني وتشكيل السلطة الوطنية، ولا يزال، عددا من المعضلات الموضوعية المعقدة. معالجة بعضها لا يتوقف على رغبات الفلسطينيين وحدهم، فالموقف الإسرائيلي لازال حاسم في معظمها إن لم يكن كلها وأهمها. (1) نشوء تناقض حقيقي بين قانونية التزام م ت ف والسلطة الوطنية بالاتفاقات التي توصلت لها اسرائيل، وبين شرعية استمرار المنظمة كمؤسسة وكإطار وطني ملتزم أمام الشعب بقيادة النضال الوطني وتنظيم أشكال النضال المناسبة ضد الاحتلال حتى العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. فالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تلزم م ت ف والسلطة وقف حملات التعبئة العدائية ضد إسرائيل، ووقف العنف بكل أنواعه ضد قوات الاحتلال، والحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنين المقيمين على الأراضي الفلسطينية، وبمعاقبة الأفراد والجماعات الذين يمارسونه، في وقت لم تقدم هذه الاتفاقات حلولا مرضية للشعب الفلسطيني ولم تعالج قضاياه الأساسية ـ اللاجئين، القدس، الحدود، النازحين، المستوطنين والمستوطنات،…الخ. ناهيك عن عدم توقف الاحتلال عن أعماله القمعية للفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرته. ورغم انتهاء المرحلة الانتقالية الا ان الجانب الفلسطيني لا يستطيع التحلل من جميع التزماته التي التزم بها في الاتفاق(2) عدم القدرة على التوفيق بين متطلبات نهوض السلطة بمهمة بناء مؤسساتها المدنية والاقتصادية والعسكرية الأمنية في غزة والضفة الغربية، مع متطلبات الحفاظ على وحدة مؤسسات م ت ف ودورها كإطار وطني قيادي لكل الشعب يضم قوى متعددة متعارضة ومتناقضة في مواقفها من القضايا الجوهرية ومن ضمنها إتفاق إعلان المبادئ الذي مكّن المنظمة من تشكيل السلطة. فمواقف القوى المشكلة للنظام السياسي تتراوح بين من يشارك في السلطة وراض عن تشكيلتها، ومن لايزال داخل المنظمة وخارج السلطة وغير راض عن تشكيلها وعن التزاماتها مع الاسرائيليين. وهناك من هو خارج المنظمة وخارج السلطة ويعارض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية ويعمل بكل السبل على الإطاحة بها، ويتمنى الفشل للسلطة ويسعى لتفشيلها حيث إستطاع ذلك سبيلا. (3) صحيح أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت، إلا أن مسار المفاوضات وتلاعب اسرائيل بالاتفاقات، وحالة السلطة لم تدفع الشعب في الداخل والخارج الى إعتماد السلطة الوطنية كبديل ووريث كامل للمنظمة قادر على قيادة المرحلة، يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى والاساسية. خاصة وان مسيرة المفاوضات متعثرة والاتفاقات لم تعالج قضايا الصراع الكبرى. وهذه المعادلة تنعش ليس فقط القوى والأفكار المتطرفة، بل تبعث الحياة من جديد في الافكار والدوفع التي وقفت في الستينات خلف تأسيس م ت ف، وقد تدفع، يوما ما، قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين، الى ادارة الظهر للمنظمة التي نعرفها اذا لم تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ولم تعالج الحلول السياسية قضاياهم بصورة مرضية، ولم يجدوا من يدافع حقوقهم في بلدان الشتات. وقد يتوجهون للبحث ولو “بعد زمن “عن صيغة بديلة يعبرون فيها عن أنفسهم وعن تطلعاتهم، ويتحركون من خلالها للدفاع عن مصالحهم وإستعادة حقوقه المغتصبة. أعتقد ان إستمرار تعثر المفاوضات، وتأجيل اعلان قيام الدولة، وفوز حزب الليكود في إنتخابات الكنيست القادمة، يسّرع خطاهم في هذا الاتجاه، ويبعدهم أكثر فأكثر عن النظام السياسي الحالي. وتبعث الحياة في الدوافع التي قادت الشعب في الضفة والقطاع للانتفاضة في وجه الاحتلال. (4) تمشيا مع روح عملية السلام والتزاما بالاتفاقات شطب المجلس الوطني في دورة غزة “ربيع 1996″ بنود الميثاق المتعارضة مع الاتفاقات، وتلك التي كانت تتحدث عن الكفاح المسلح أسلوبا للتحرير، وبقيت المنظمة للان بدون ميثاق. في حينه لم يحظى شطب تلك البنود بإجماع فصائل وقوى المنظمة أو من هو خارجها، ولم يستفتى الشعب حول الموضوع. صحيح أن ميثاق المنظمة هرم وشاخ قبل الغائه، وكان بحاجة للتطوير منذ زمن طويل، ووصفه رئيس اللجنة التنفيذية قبل سنوت “بالكادوك”، إلا أن بقاء المنظمة دون ميثاق يجعلها أشبه بباخرة تبحر في بحر هائج دون بوصلة. ويخطئ من يعتقد بأن التسريع في تمويت المنظمة يمنح الحياة للسلطة، ويعزز مكانتها، ويسرّع تحولها لبديل مقبول. فالمنظمة كانت ولا تزال وطن اللاجئين يعبرون منه عن تطلعاتهم الوطنية. وإنتفاء مبرر وجود المنظمة بصيغتها الراهنة رهن بقيام الدولة المستقلة وحل مشكلة اللاجئين، وليس قيام السلطة فقط.
وبجانب هذه الاشكالات الموضوعية اصطدم الفكر وانظام السياسي الفلسطينيين بالعديد من المشكلات الذاتية. فالمنطلقات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي بنيت عليها م ت ف عام 1964 كانت قد هرمت وشاخت. وكثيرا ما تم الإصطدام بنصوصها الجامدة وغير الديمقراطية، وفي كثير من المحطات السياسية الحاسمة تم تجاوزها. واذا كان لا مجال لاجراء جردة كاملة بمواقع وتواريخ الصدامات والتجاوزات فقرارات دورة المجلس الوطني عام 1974 التي أقرت البرنامج المرحلي، وقرارات الدورة التاسعة عشر التي إعترفت بقراري مجلس الأمن 242 و338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وأعلن فيها عن قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل شواهد تاريخية على ذلك. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن م ت ف، كمؤسسة وفصائل، عانت في تلك المرحلة من تراجع دورها الكفاحي في مواجهة الاحتلال. ومن غياب الديمقراطية وعسكرة علاقتها الداخلية وعلاقاتها مع الناس، ومن انحسار شعبيتها داخل وخارج الوطن المحتل. إضافة الى سيادة نظام “الكوتا” الفصائلية في تكوين مؤسساتها، وهيمنة التنظيمات على تركيبتها من أعلى هيئة قيادية وحتى أصغر مؤسسة. وكانت أطرها القيادة ترهلت تماما ومؤسساتها نخرتها البيرقراطية وتحولت لمجال إرتزاق آلاف الكوادر، مارست داخلها بطالة مقنعة فترة زمنية طويلة. ولا تستطيع قيادة النظام السياسي الفلسطيني القديم تحميل عملية السلام والسلطة الوطنية وحدهما المسئولية الكاملة عن زرع كل الامراض البنيوية المزمنة في جسد المنظمة وعن الأزمة العريقة التي ما زالت تعانيها حتى الآن. فجميع القوى والفصائل المكونة للمنظمة والمهيمنة على قيادتها ساهمت في بنائها على أسس غير ديمقراطية، وساهمت في شل عمل مؤسساتها بدء من المجلس الوطني مرورا بالمجلس المركزي واللجنة التنفيذية، وإنتهاء بأدنى لجنة فرعية من لجان المجلس الوطني. وكانت راضية عن تلك الأوضاع ومتعايشة معها ومستفيدة منها.
وبمعزل عن مواقف أطراف النظام السياسي المؤيدة او المعارضة للسلطة الوطنية فلا أحد يستطيع إنكار ان تشكيلها شكل امتحانا حاسما لفكر وطاقات وخبرات الفلسطينيين وقدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وعلى بناء أول سلطة فلسطينية لهم على أجزاء من أرضهم. وعند التشكيل كان مفهوما للجميع أن إمتحان بناء وادارة مؤسسات “الدولة”، وتنظيم حياة مجتمع مدني يضم ما يقارب مليوني إنسان أعقد وأصعب من قيادة الثورة، ومن إدارة شؤون بضعة الآف من الكوادر العسكرية والمدنية. واذا كان من المبكر إطلاق أحكام نهائية جازمة على دور السلطة وعلى آفاقها المستقبليه، فمراجعة تجربتها يظهر أنها لم تستطع تحقيق ما كان يتمناه الفلسطينيون في الضفة والقطاع. وصورتها حتى الآن فلسطينيا وعربيا ودوليا ليست ايجابية، وبخاصة في مجال الامن الداخلي والشفافية وحقوق الانسان. ولا نظلم أحدا إذا قلنا ان السلطة الوطنية الاولى حملت منذ البداية إرث منظمة التحرير بصنفيه السلبي والايجابي. وأن اللجنة التنفيذية لم تنجز التحضيرات الضرورية لانجاح عمل السلطة علما بانها كان لديها فسحة كبيرة من الوقت، وفرص التاهيل المطلوب للكوادر توفرت. وهي المسئولة عن تشكيل السلطة على ذات الأسس التي بنيت عليها تنفيذية المنظمة وذات الشيء ينطبق على الثانية. وأنه كان للاشكالات الذاتية والميلاد غير الطبيعي “عملية قيسرية” دورا مركزيا في تغذية الاشكاليات الموضوعية وفي تسريع نموها، فطغيان الاعتبارات الحزبية والسياسة على أسس تشكيل الحكومة، الاولى والثانية، وتركيبتها ضيق قاعدتها الشعبية الضيقة أصلا. والتعيينات العشوائية والانتقائية ذات الصبغة الحزبية زادت من طغيان الفصائلية على بنيانها التنظيمي، وأظهرت العصبوية التنظيمية بأبشع صورها. ووسعت الصراع على السلطة بين القادمين من الخارج والمقيمين أصلا فوق أرض الوطن، وبين كوادر مختلف التنظيمات وكوادر التنظيم الواحد. وجعلها أقرب إلى سلطة الحزب الواحد ومن لون سياسي واحد. مليئة بالسياسيين وناقصة أخصائيين في مجالات العمل المنوط بها. كل هذا جرى ويجري في وقت سئم الشارع الفلسطيني من الفصائل والتنظيمات والاحزاب بصيغها وعلاقاتها وممارساتها العسكرتارية السابقة، وبات يتطلع الى اطر تنظيمية وأحزاب سياسية أكثر ديمقراطية وأقل بيروقراطية ودكتاتورية. خاصة وأن أي من الفصائل والاحزاب المعروفة لم يحاول تجديد نفسه أو دمقرطة أوضاعه الدخلية وعلاقاته الجماهيرية. ولم يحدث أي تعديل أو تغيير في أسسه ولوائحه التنظيمية. ولم يبادر أي منها الى طرح برامج عملية واقعية تتناسب مع حاجات الناس وتلبي متطلبات اجتياز المرحلة الجديدة التي عبرها النضال الفلسطيني بعد اوسلو وبعد تشكيل السلطة.
وبجانب الصراع على مناصب السلطة أثقلت التعيينات الواسعة جدا كاهل السلطة الفلسطينية بأعباء مالية ضخمة شوشت وشوهت صورتها في عيون شعبها. وخلقت هوة واسعة بينها وبين الناس في قطاع غزة والضفة الغربية. وفرض على السلطة الفلسطينية إنفاق معظم ايرداتها المحلية والمساعدات المالية التي تصلها في مجالات متعددة غير منتجة. ويستطيع كل خبير اقتصادي أن يقدر ثقل العبىء المالي الكبير، وأثره على مستقبل الاقتصاد الفلسطيني وعلى علاقات الانتاج فيه، اذا عرف أن م ت ف والسلطة الوطنية مضطرة لدفع رواتب ما يزيد عن مئة الف موظف مدني وأمني وعسكري حتى الان.. منهم ما يزيد عن 30 الف رجل أمن وشرطة. أما غياب دور القضاء وعدم الاحتكام للقانون وأساليب المعالجة غيرالديمقراطية التي ورثتها عن المنظمة واتبعتها في معالجة قضايا الخلاف مع المعارضة، والاحاديث الكثيرة ـ الحقيقية أو المبالغ فيها ـ عن الرشوة والفساد والمحسوبية..الخ أظهرت السلطة أمام الجميع بأنها غير ديمقراطية ينخرها الفساد وعاجزة عن القيام بالمهام الأساسية الملقاة على عاتقها. ودفعت بقطاعات إضافية من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وبخاصة الواقعيين الديمقراطيين والمتطلعين نحو قيام سلطة ديمقراطية ونزيه، للنفور من السلطة والانفضاض من حولها. ورسمت صورة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية، التي طالما إنتقدها ورفضها نموذجا لحكمه وسلطته. لاحقا جاءت وقائع المفاوضات التي أدارتها السلطة مع الاسرائيليين، وتعثر تنفيذ الاتفاقات لتضغط على ذهن السلطة كهيئة وكوزراء، ولتجعل من المهام السياسية وبخاصة إدارة المفاوضات وتنظيم العلاقات مع الاسرائيلين، وملاحقة الدول المانحة للمساعدات، مهاما لها أولوية على سواها من المهام تهم حياة الناس. وغرقت السلطة في بحر من المشكلات أعاقت نهوضها بالمهام وبالالتزامات التي أخذتها على عاتقها.
أما تركيز القيادة على المولود الجديد “السلطة”، وعدم وضوح طبيعة العلاقة بين الجسمين “المنظمة والسلطة” وبقائها ملتبسة، فقد أضعف الوضع المعنوي للمنظمة وبهت وجودها، وأثار تساؤلات شعبية وفصائلية حول دورها ومستقبل وجودها. ولم يمضي وقت طويل حتى سلبت السلطة، عمليا، منظمة التحرير معظم مهامها وشلت حركتها اليومية وحلت محلها دون أن تملئ كل الحيز الجماهيري والخارجي الموجود للمنظمة. وأعطت نفسها منذ اليوم لتشكيلها حق تجاوز اللجنة التنفيذية مرجعيتها الاساسية. وعانت كل مؤسسات المنظمة الرسمية التشريعية والتنفيذية “مجلس وطني، مجلس مركزي، لجنة تنفيذية” من تآكل داخلي ومن تغييب واقعي لدورها، وصارت شبه محالة على التقاعد. وبغض النظر عن النوايا، فالخلط بين مهام الوزارة والوزراء وبين مهام اللجنة التنفيذية ولجنة المفاوضات كهيئة وكأفراد أبقى العديد من المهام الوطنية الكبرى مهملة، ولم تعد تجد من يهتم بها ويتابعها. وتآكل علاقات م ت ف بقوى حركة التحرر الوطني العربية، وعدم متابعة قضايا الفلسطينيين في الخارج، والتخبط في إدارة المفاوضات خير أدلة وشواهد على ذلك. فلا الوزراء أعضاء التنفيذية قادرين على تحمل مسؤوليات إضافية لمهامهم اليومية الكثيرة والمعقدة، ولا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تسمح لهم إن هم حاولوا ذلك. أما أعضاء التنفيذية من غير الوزراء فهم موزعين بين من يقتله الفراغ وعاطل عن العمل. ومنهم من ينتظر عقد إجتماع للهيئة التي ينتمي لها “اللجنة التنفيذية” او إستلام موازنة دائرته. ودوائر وسفارات منظمة التحرير فقدت هي الأخرى من يتابعها، وحرمت من إمدادها بكل المستلزمات الضرورية لعملها. وأظن أننا في غنى عن سوق الشواهد الكثيرة والمتنوعة المحزنة. ولا ضرورة لسرد ما يعانيه سفراء ومدراء مكاتب م ت ف وكل العاملين في سفارات فلسطين منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن. فهي تعيش حالة من الشلل والضياع وإضمحلال الموازنات. أما المنظمات والاتحادات الشعبية، المرأة العمال، الطلاب، الكتاب والصحفيين، المعلمين، المهندسين، الفلاحين…الخ فقد تعرضت هيئاتها للشلل والتفكيك، ولم تعد تجد من يلملم أوضاعها. فأمناؤها العامون وأعضاء أماناتها تشتتوا واستوعبوا في وزارات السلطة. وعملية التعيين طالت العديد من سفراء م ت ف. وكأن وظائفهم ومهامهم في اتحاداتهم ومنظماتهم الجماهيرية وسفاراتهم انتهت. أو أن هناك من يفكر في دمج هذه المنظمات في أجهزة السلطة بما في ذلك قوات الأمن والشرطة..
ومن يدقق في الأوضاع القيادة للمنظمة وفي المهام التي تقوم بها الوزارة والمجلس التشريعي، يخرج بإستنتاج رئيسي خلاصته أن القيادة الفلسطينية، وقعت في أوهام حول عملية السلام حين تصورت أنها ستسير في خط مستقيم، وحين اعتقدت أنه لم يعد هناك حاجة وطنية لتفعيل مؤسسات المنظمة القيادية والوسيطة وجيرت دورها لصالح السلطة. صحيح أنه منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن لم يصدر تصريح رسمي أو شخصي من أي مسؤول فلسطيني يمس وجود المنظمة أو ينتقص من دورها، إلا أن “الاعمال ليست بالنوايا” فالانقسام السياسي التنظيمي إستفحل وتعمق وتحول الى نوع من الصراع التناحري بين الاطراف المكونة لها. وندرة إجتماعات هيئاتها القيادية التشريعية التنفيذية أفقدها حضورها الشعبي والرسمي وعطل دورها القيادي. وإستيعاب الكوادر القيادية الاولى للمنظمات والاتحادات الشعبية والسفارات في وظائف رسمية في مختلف أجهزة السلطة، مع بقائهم في مناصبهم السابقة، أضعفها وحولها الى هياكل خاوية، وأفقدها صلتها بمن تمثل وفقدت مبرر وجودها من وجهة نظرهم. ورحم الله ايام التحركات الطلابية والعمالية الفلسطينية في العالمين الغربي والعربي خلال حصار بيروت، واثناء “الزنقات” التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية. فالحالة الفلسطينية في أمس الحاجة لها بعد تعثر عملية السلام وانتهاء المرحلة الانتقالية ومعها الفترة المحددة لمفاوضات الحل النهائي دون اتفاق. ويستطيع كل مراقب محايد أن
يرى ببساطة ان أدق تشخيص للوضع الوطني الفلسطيني، وأعلى وتائر نقد حالته السائدة، هو الذي يتم في اوساط القوى المشاركة في السلطة، وبخاصة الوزراء وذوي المناصب العليا فيها. لكنه، للأسف الشديد، يجري خارج الاجتماعات الرسمية، وداخل الاطر الحزبية الضيقة في أحسن الاحوال.
حلقة رابعة
أزمة النظام بلغت ذروتها وبحاجة لحلول نظرية وعملية
التدقيق في مضامين الحديث والنقاش الموسمي، المعلن وغير المعلن، حول أزمة النظام السياسي الفلسطيني وسبل الخروج منها، يبين بأن بعضه واقعي وشمولي. يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام، ويميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية. ويأخذ في الاعتبار ارث الاحتلال الثقيل، ودوره في تعطيل تطورالاوضاع الفلسطينية، ويراعي موازين القوى والظروف الموضوعية المحيطة. اما بعضه الآخر فهو ارادوي هروبي، يسقط دور العوامل الموضوعية الخارجية وممارسات الاحتلال في خلق الازمة وتفاقمها يوميا. ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة، ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير. وهناك ايضا من اهل السلطة من يحاول طمس الحقائق الثابتة ويخفي الوقائع الملموسة، ويغطي “الشمس بالغربال”، ويتلطى بوجود الاحتلال وممارساته، وبتخلي العرب عن القضية المقدسة.. ويتناسى قصور السلطة واجهزتها في بقاء الازمة تراوح مكانها. اما أوساط المعارضة فاسخن حديثها حول الازمة يتركز حول الامورالسياسية، وبخاصة عملية السلام والمفاوضات والاتفاقات التي تم التوصل لها مع الاسرائيليين، وحول المسؤولية الفردية والحزبية لاطراف السلطة. وكأن الازمة الوطنية محصورة في المفاوضات فقط، والمشاركة في عملية السلام هي السبب الوحيد، والخروج منها هو الدواء..!
وإذا كان غير مفيد الغوص الآن في تحديد المسؤولية عن ذلك والتمترس عند ضرورة محاسبة الفاعلين، فإلقائها على كاهل الإحتلال وعلى الأوضاع الصعبة التي خلفها ورائه، في الضفة والقطاع، لا يساعد على معالجة الأزمة، بل يعمق الصراع بين السلطة والمعارضة، ويزيد من الأضرار التي لحقت بدورهما. صحيح أن الاحتلال وموازين القوى الدولية والإقليمية ليست بريئة تماما من المعضلات والمشكلات الذاتية والموضوعية التي يواجهها النظام السياسي الفلسطيني، الا أن تحويلها إلى مشجب تحمّل عليه القوى الفلسطينية كل أخطائها وتقصيراتها، يدفع بالتعارض القائم بين السلطة والمنظمة، والسلطة والمعارضة إلى ذروته، وقد يؤدي إلى المزيد من الانفجارات والتشرذمات داخل النظام الفلسطيني. فالقراءة الموضوعية تحمل الاحتلال مسؤولية عدم الالتزام بالاتفاقات، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني وزرع أزمة اقتصادية شديدة التعقيد علاجها صعب ويحتاج لمساعدات خارجية، لكن هذا الامر لا ينطبق على أزمة الديمقراطية والمأسسة وأزمة العلاقات الوطنية الداخلية..الخ المستفحلة في نهج النظام السياسي الفلسطيني.
أعتقد أن فكفكة مكونات الأزمة بعضها عن بعض يسهّل الحل، ويساعد البحاثة وأصحاب القرارعلى رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الإحتلال، وتمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات “معارضة وسلطة”، ومن صناعة القيادة الفلسطينية وأداء السلطة الوطنية. وعملا بالحكمة الشعبية القديمة القائلة ” إيقاد شمعة مرة خير من شتم الظلام ألف مرة” فالمصالح العليا للفلسطينيين تفرض على السلطة الوطنية وقيادة م ت ف وبقية أطراف النظام السياسي الفلسطيني، إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تحكمت في التوجهات والعلاقات منذ التوقيع على إتفاق “أوسلو” وحتى الآن، واعتماد حيلة الصبر والنفس الطويل في ادارة الصراع وانتزاع الحقوق الوطنية الوطنية المشروعة. والدخول فورا في حوار وطني شامل غير الحوار الذي عرفناه، ووضع “خطة إنقاذ وطنية ” تقوم على :
أولا / نبذ الأوهام حول عملية السلام الحالية
بعد انتهاء المرحلة الانتقالية دون اتفاق، وانتهاء الفترة المحددة للتوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي، قبل ان تبدء المفاوضات الجدية حولها، يفترض أن لا يكون خلاف فلسطيني إطلاقا حول وصول عملية السلام كما عرفناها في مدريد واوسلو وطابا الى نهايتها ولا أفق لإحيائها على ذات الاسس التي بنيت عليها. ومهما تكن تفاصيل الازمة التي تعيشها فوقائع سبع سنوات من حياتها أكدت أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل لمستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. فالقوى الاسرائيلية المتطرفة صعدت للسلطة عام 1996 في إنتخابات ديمقراطية. والمجتمع الاسرائيلي منقسم على نفسه وأغلبيته يرفضون التقدم بإتجاه حل عادل لقضية القدس يقبل به الفلسطينيون. وحق العودة للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في عام 47-48 مرفوض بالمطلق ليس فقط من قوى اليمين بل من كل الاحزاب اليمينية واليسارية الاسرائيلية. أما تعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم فالواضح أنها قضية شائكة ومعقدة، والتفاوض حولها سوف يستغرق سنين طويلة. وهذا يعني بقاء فلسطينيي الشتات “نصف الشعب” من الان ولسنوات طويلة في أماكن اقامتهم الحالية، وبقاء قضاياهم وكل القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ولا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع، في غضون السنوات القليلة القادمة، في مواقف وقناعات الشارع الاسرائيلي من قضايا الحل انهائي القدس اللاجئون الاستيطان الحدود والامن ولا تستطيع السلطة والقيادة الفلسطينية التصرف بهذه القضايا الكبرى دون الرجوع لقوى الشعب في كل اماكن تواجده. فالمفاوضات حول المرحلة الانتقالية وقضاياها شيء المرحلة النهائية وقضاياها فهي شيء آخر.
أما الاوضاع الدولية السائدة والمرئية، وموازين القوى القائمة بين الطرفين، فالواضح أنها لا تتجه نحو إلزام إسرائيل بقبول حلول عادلة وشاملة لهذه القضايا الشائكة. ويخطئ من يراهن على امكانية رفع سقف الموقف الامريكي لمستوى ممارسة ضغوط عملية على اسرائيل، وتحقيق طلب الدول والاوروبية الداعي الى انهاء المفاوضات حول قضايا الحل النهائي خلال عام. ويخطئ أكثر من يعتقد ان العوامل الخارجية قادرة على احداث تغيير جوهري في مواقف قوى اليمين اذا عادت الى السلطة، والزامها بالسير على درب صنع السلام العادل والشامل. واكتمال الصورة يفرض رؤية مواقف المعارضة الاسرائيلية التي لم تظهر غيرة حقيقة على عملية السلام، وعلى الاتفاقات التي وقعت سابقا معها. ولم تستطع التاثيرعلى مواقف اليمين المعادية لسلام حقيقي مع العرب وتحقيق مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين. ناهيك عن ان الفروق في مواقف طرفها الرئيسي “حزب العمل” لا تطال جوهر قضايا الصراع. واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القيادة عدم تحمل مسئولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتقليص جبهة الاعداء، فذات المصالح تفرض عليها نبذ أية أوهام حول قدرة عملية السلام الجارية على تحقيق الحقوق الفلسطينية واقامة سلام دائم وعادل بين الشعبين وتحقيق المصالحة التاريخية بينهما. ولعل تشكيل إطار وطني استشاري غير رسمي يضم ممثلين عن كل التجمعات بما في ذلك المقيمين في اسرائيل له ضروراته الوطنية. فالتشاورالمتواصل مع عرب اسرائيل وممثلي الخارج حول حالة عملية السلام وقضايا الحل النهائي ضرورة وطنية للحفاظ على وحدة الشعب، وبورة حل نهائي قابل للحياة يحظى بموافقة أغلبية شعبية كبيرة.
ثانيا/ تطوير أوضاع السلطة وإنجاح دورها
لا شك في أن التقييم الموضوعي لقيام السلطة الوطنية يفرض إعتباره تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق أهدافها الإستراتيجية. وهذا التطورالايجابي يستوجب تكييف الأوضاع القيادية الفلسطينية بما يمكن من إستثمار كل تفاعلاته وأبعاده الداخلية والخارجية لصالح الفلسطينيين ككل. وتمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشال تجربتها أقل مايمكن أن يقال فلسطينيا عنه أنه لايخدم الهدف الوطني الفلسطيني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه وأن يدير حياته بنجاح. ففشل تجربة السلطة الفلسطينية هو فشل لكل أطراف الحركة الوطنية الحاكمة والمعارضة. وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح أن اسس تشكيل الحكومة الفلسطينية لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة، وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين.
والتمعن في طبيعة المشكلات المتنوعة التي تواجهها السلطة، وفي نوعية الأمراض التي تنخر جسمها وبخاصة نقص الديمقراطية والإنعزالية عن شعبها وعن العرب، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري للمأزق الذي تعيشه. وتدارك الاوضاع والشروع في تصحيحها ومعالجة المشكلات التي تواجهها السلطة لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد. ويتطلب الاقدام على العديد من الخطوات الوطنية العاجلة والجريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض القيادات وأهمها وأكثرها الحاحية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية: 1) إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، غير التي أعتمدت عندما أعيد تشكيلها. وإختزال عدد الوزارات، وتشكيل وزارة إستيعاب وتاهيل العائدين والنازحين واللاجئين. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح الكفاءات المستقلة، وبخاصة من أبناء الضفة والقطاع ذوي الخبرة والاختصاص في مجال العمل الاقتصادي والعمل المالي والتربوي والاداري. وممن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف الفلسطينيين والاوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة الوطنية بدقة، وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الاعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها. ووضع اللوائح والانظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة و م ت ف وإعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة مراقبة والمؤسسات التشريعية في منظمة التحرير حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيلها. 3) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية وليس اكثر. وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وتحويل كل المعينين كترضيات حزبية وخاصة الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات اخرى اكثر جدوى وانتاجية. واحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة الى التقاعد. 4) وقف التضخم في ملاكات أجهزة الامن الوزارات، والحرص على خلق توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والانفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الانتاجية القادرة على إمتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي. والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 5) تحرير السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الاسرائيلي. وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول ان انجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب احياءاللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، واعادة تشكيلها بما يمكنها من متابعة كل فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وتشكيل الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على اساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.
ثالثا/ إحياء م ت ف وتفعيل دورها
بالتمعن في أوضاع منظمة التحرير، وفي الخطوات التنظيمية والعملية التي أدت الى تجويفها من الداخل يتبين أن في القيادة الفلسطينية من كان مقتنعا أن إتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية فرضا العد العكسي لوجود م ت ف كإطار قيادي جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني. واعتقد أصحاب هذا الرأي ان السلطة الوطنية هي البديل والوريث الشرعي للمنظمة. وهناك من حاول حرق المراحل وتمويت منظمة التحرير، ظنا منه أن البديل قد وجد. ويحلو لبعض القيادات الفلسطينية الاستشهاد بتجربة بن غورين في تهميش دور الوكالة اليهودية بعد الاعلان قيام دولة اسرائيل وتحويلة الى دور مآزر للحكومة. لكنهم ينسون أن بن غورين أقدم على خطوته بعد إستكمال قيام دولة إسرائيل على الارض. وبعدما هزمت كل الدول العربية التي شاركت في حرب 1947-1948. وينسون أنه والقيادة الصهيونية أبقوا على المؤتمر اليهودي العالمي بعد قيام دولة اسرائيل. وينسون ايضا أن ماحققه الفلسطينييون، بعد 8 سنوات من المفاوضات شبه المتواصلة، حكم ذاتي محدود الصلاحيات على جزء بسيط من الأرض وليس أكثر، وان الاستيطان يحاصر هذا الجزء الصغير، ومصادرة الاراضي تنهش جسده يوميا. أضف لذلك ان اتفاق اوسلو الذي انتهى مفعوله الزمني لم يوصل الى الحل الذي انتظره الفلسطينيون، وهم لم يقتنعوا حتى الآن باعتماد السلطة الوطنية كوريث للمنظمة يعتمد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية التي من اجلها قامت المنظمة. واذا كان لا خلاف على أن انتخاب المجلس التشريعي وابراز دور السلطة الوطنية وتطويره كاطار قيادي مركزي يصب في النهاية لصالح تعزيز دور المنظمة، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة على الارض الفلسطينية، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة. الا أن إلغاء دور المجلس الوطني وتعطيل إجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والوفد المفاوض والسلطة “الوزارة” في اطار واحد “الاجتماع الدوري للقيادة “، ودمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة، لم ولا يفعل دور هيئات الجسمين.
وأي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن ببعض القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة وهيئاتها، بين فترة وأخرى، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب إسمها ودورها 5 سنوات، فالواضح ان هذا الإستذكار لم يعالج الازمة، وان بعضة يتم كنوع من رفع العتب، وبعضه الاخر يتم لاغرض حزبية داخلية صرفة. والقيادة الفلسطينية أخطأت خطأ إستراتيجيا حين إعتقدت ان الاتفاقات مع الاسرائيليين تنهي تدريجيا دور المنظمة، والتعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يسرّع في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب كله. فالمنظمة، وليس السلطة، كانت وستبقى لفترة زمية طويلة الممثل الشرعي لكل الشعب، والبيت القادر على احتوائهم والموحد لطاقاتهم. وبديهي القول ان “الاعتراف بالخطا والتراجع عنه فضيلة”. وترجمته العملية تتم بوقف حرق المراحل وبعث الحياة في مؤسسات م ت ف وعودة المستنكفين للعمل من داخلها. والمناداة بعدم حرق المراحل لا يعني اطلاقا الاستسلام للازمة الفكرية والسياسية والتنظيمية المستفحلة في صفوف م ت ف وعموم قوى الحركة الفلسطينية او السكون والقبول بالاوضاع التنظيمية والعلاقات الداخلية الخاطئة. فالقبول بذلك يقود الى ذات النتائج السلبية التي يفرزها التفكير بتوليد البديل قبل استكمال الفترة الطبيعية للحمل.
وبصرف النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم فالتباين في التقدير نسبي ولا يلغي ضرورة إعادة النظر في النسب التمثيلية للقوى المشكلة للمنظمة، وفي نظام الكوتا الفصائلية وإستبدالها بالانتخابات. وإعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في أفضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني اذا تعذر اجراء الانتخابات. وإعادة صياغة الميثاق والنظر في اللوائح الداخلية لكل مؤسسات المنظمة وهيئاتها القيادية لصالح تعزيز العمل الجماعي وتعزيز الرقابة على عملها. أما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، وإستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث جديدة وعندها لن يفيد تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك. ولا نظلم أحدا اذا قلنا أن المعارضة وكل المستنكفين عن المشاركة في أعمال اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي يتساوون مع المحتفظين بعضويتهم في المسؤولية عن شلل المنظمة، وعن النتائج الخطيرة التى ترتبت على ذلك حتى الان وعن تلك التى يمكن أن تظهر مستقبلا. واذا كان مفهوما أن يكون لهذا الحزب او ذاك الفصيل او تلك الشخصية الوطنية من المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام موقفا من المشاركة في السلطة الوطنية (الوزارة) فمن غير المقنع وغير المفهوم اطلاقا استمرارهم في تجميد أدوارهم فى هيئات م.ت.ف، والاستمرار في الأنسحاب من اللجنة التنفيذية ومقاطعة اجتماعات المجلس المركزي، الا اذا كانوا مقتنعين ان دورالمنظمة قد انتهى ولم يعد هناك مبررا لوجودها. ويخطأ كل من يعتقد انه بموقفه السلبي والاستنكافي عن المشركة في إحياء المنظمة يعاقب أحدا غير نفسه والشعب الفلسطيني. ويخطأ اكثر من يعتقد بامكانه وراثتها أو تشكيل بديلا لها.

المراجعة النقدية الشاملة ضرورية
يتضح مما تقدم ان أزمة النظام السياسي الفلسطيني بلغت ذروتها. فعملية السلام وصلت الى نهاية الطريق المسدود. وهناك إجماع وطني على ان الاتفاقات التي تم التوصل لها لا تلبي جزء يسيرا من طموحات الفلسطينيين في الداخل والخارج. ومنظمة التحرير مقعدة وتمر بمرحلة من الإحتضار التنظيمي والسياسي وتنتظر العلاج. والسلطة الوطنية عاجزة عن القيام بالمهام الوطنية المسندة لها. وجميع أطرافه “سلطة ومعارضة”، في الداخل والخارج يعانون إشكاليات وأزمات جوهرية متنوعة، ومرتبكون في مواجهة الاحداث والتطورات السياسية التي يمر بها الصراع مع النظام السياسي الاسرائيلي. وإستمرار الأزمة بشقيها الذاتي والموضوعي، وتمترس السلطة والمعارضة في خنادقها ومواصلة العمل بالنهج الذي اتبع منذ اوسلو وحتى الآن، لا تعالج الازمة وتضر بالمصالح الوطنية العليا للفلسطينيين. وتفقدهم مكاسب كثيرة تحققت في الساحتين العربية والدولية، وتزيد حالتهم المحبطة والمرتبكة. وتوسع الهوة بين الداخل والخارج. وتفتح آجلا أوعاجلا بابا للصراعات الفلسطينية التناحرية الداخلية،
لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ورغم ان بعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة الا انها مرت مرور الكرام. ولم تحاول القوى الفلسطينية اجراء مراجعة موضوعية مجردة من المواقف المسبقة. ولم نسمع من أي منها نقدا ذاتيا جريئا. وكأن الجميع معصوم عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بان المركزية الشديدة غياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية في الحياة السياسية وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات، هي التي مكنت قوى الحركة الوطنية والاسلامية “الحاكمة والمعارضة” تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من العمل بشعارات إستهلكتها الحياة.
لاشك في ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض اليوم قبل الغد من اجل تصويب أوضاع النظام السياسي الفلسطيني وتصويب برامج قواه. ودفع الجميع لوضع المصالح العليا فوق الإعتبارات الأخرى، والتركيزعلى مواجهة الأخطار المحيطة بالقضية. فالمحافظة على وحدة الشعب، ومقاومة خطر الاستيطان والحفاظ على ما تبقى من عروبة القدس، أكبر وأهم من كل المصالح الخاصة التي أعاقت وما تزال تعيق التوحد في مواجهة نكبة جديدة تحل بالارض والشعب. وإعتماد الديمقراطية كأساس لمعالجة قضايا الخلاف داخل النظام السياسي الفلسطيني هو السبيل الوحيد لأعطاء كل ذي حق حقه، أما التمترس خلف المواقف ومحاولة فرضها على الأخرين فيقود الى تعميق الصراع، ويدفعة نحو نهاياته الطبيعية أي الاحتراب والاقتتال الداخلي. واذا كان خلق نوعا من إزدواجية السلطة مرفوض ويتعارض مع أسس الديمقراطية، فقمع المعارضة ومنعها من التعبيرعن مواقفها بحرية وبشتى الوسائل، وتشكيل المحاكم الصورية وسيادة نظام الحزب الواحد يقتل الديمقراطية، ويدمر أسس الوحدة الوطنية، ويزرع بذور تمزق المجتمع، ويؤسس لصراعات داخلية دموية. ولعل تجربة الجزائر والدول التي إبتليت بنظام الحزب الواحد خير دليل على ذلك.
وفي سياق العمل من أجل تجديد بنية النظام السياسي الفلسطيني ودمقرطة أوضاع قواه وتوسيع قاعدتها الشعبية لا بد من الاعتراف بأن تبدلا نوعيا وقع في السنوات الأخيرة “منذ الانتفاضة” على الوزن الشعبي، وثقل الدورالسياسي والكفاحي لقوى وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المنضوية تحت لواء م ت ف ومن لازال خارجها. فبعضها “فتح وحماس والجهاد الاسلامي” نما حجمه وثقلة الوطني والاخر”شعبية، ديمقراطية، حزب الشعب، فدا، نضال، تقلص وزنه وتراجع دوره. وبعد قيام السلطة الوطنية إنتقلت بعض الفصائل من وضعيتها كحركات ثورية الى وضعية الأحزاب الحاكمة. وتشكلت قاعدة إجتماعية لقيام “حزب السلطة” يضم الاغلبية الساحقة من الموظفين وعائلاتهم وكل المنتفعين من السلطة. ووقعت تطورات نوعية في أسسها وبناها الفكرية والتنظيمية وفي علاقاتها الداخلية وعلاقتها بالجماهير. شبيهة بالنقلة التي مرت بها الأحزاب العربية التي إنتقلت من الشارع الى مراكز السلطة. والحالة الفلسطينية أقرب بالاجمال الى النموذج الجزائري، مع خصوصياتها الناتجة عن وجود الاحتلال.
أعتقد ان المسؤولية الوطنية تفرض إقرار وإعتراف جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني أن تبسيط الأزمة الراهنة أو تجاهل وجودها وإنعكاساتها السلبية لا يعالجها بل يعمقها في وقت لاتزال أجزاء واسعة من الارض رازحة تحت الاحتلال، وحقوق الفلسطينين الأساسية مغتصبة. والتلكؤ والتأخر في العلاج يضاعف حجم المسؤولية الوطنية الجماعية والفردية. أما دعوات البعض لتأجيل المراجعة والتقييم فأظنها دعوات إنتهازية تغلف المصالح الذاتية وتقدمها على المصالح الوطنية العليا. وتفرض على الأجيال اللاحقة دفع أثمان باهظة عن أخطاء وتقصيرات إرتكبها غيرهم وليسوا مسؤولين عنها. فليس هناك قائد أو مثقف فلسطيني داعم أو مشارك في السلطة او معارض لها أو صامت عن أخطائها، يستطيع الإدعاء بأنه بريء من المسؤولية عن الأزمة وعن تفاقمها. وإذا كانت المسؤولية عن الأزمة تطال جميع اطراف النظام السياسي بنسب متفاوتة فالتطورات السياسية المتلاحقة وانعكاساتها المحتملة على القضية وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، تستوجب الإستعداد الجماعي الجدي لمواجهة القادم قريبا والبعيد أيضا. وتعطي الحق لكل من تطاله بأن يدلي بدلوه ورفع صوته النقدي عاليا، والمطالبة بإحداث تغيرات نوعية في مفاهيم العمل التي كانت سائدة قبل وقوعه. وأظن اعلان قيام الدولة وابتكار الاساليب القادرة على تجسيد سيادتها تدريجيا على الاراضي التي احتلت عام 1967، يوفر ليس فقط الاارضية المناسبة لتغيير قواعد العملية السياسية الجارية، بل وايضا مأسسة نظام الحكم ودمقرطة العلاقات الوطنية، واجراء تغيرات جذرية على الالية والاسس التنظيمية التي بنيت عليها الحركة الوطنية، ونظمت على أسسها العلاقات داخل النظام السياسي الفلسطيني وداخل النقابات والمنظمات والإتحادات الشعبية الفلسطينية. وفي كل الاحوال لا بد من اجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة ومجالس بلدية، واتمنى ان لا يقاطعها احد.