دورة المجلس المركزي واستحقاق 4 أيار وما بعده ـ مجريات الدورة

بقلم ممدوح نوفل في 19/05/1999

من المفترض ان يعود المجلس المركزي الفلسطيني للانعقاد مرة اخرى في شهر حزيران القادم لاستكمال مناقشة استحقاقات انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 ايار، حسب نصوص اتفاقي اوسلو والقاهرة. وتحديد قواعد المفاوضات اللاحقة، واتخاذ القرار النهائي بشأن اعلان قيام الدولة الفلسطينية وبسط السيادة على الاراضي التي احتلت عام 1967. وكان المجلس أنهى جولة أولى من دورته التي عقدت في غزة في 27ـ 29 نيسان الماضي، حضرها نسبة عالية من الاعضاء “96” من اصل 125″، وكان من المتغييبين من قاطع رسميا لاسباب سياسية، ومن اعتذر لعدم قدرته وصول غزة لأسباب خاصة. وشارك فيها لاول مرة وفد رسمي من قيادة حركة حماس برئاسة الشيخ احمد ياسين، بصفة مراقب، وأثارت مشاركتها حفيظة القيادة السياسية والامنية الاسرائيلية، ولم تعترض الادارة الامريكية على المشاركة. وتحفظت قيادة حماس في الخارج على مشاركة اخوانهم في الداخل. وتراجعت الجبهة الديمقراطية والجبهة العربية الموالية للعراق عن سياسة مقاطعة المجلس، وظلت الجبهة الشعبية على موقفها القديم المقاطع لمؤسسات منظمة التحرير. علما ان بياناتها قبل المجلس وتصريحات قادتها بعده لم تخلو من المطالبة بالحاح تفعيل دور مؤسسات م ت ف وتصحيح أوضاعها الداخلية.
وحظيت تلك الدورة قبل وخلال انعقادها باهتمام دولي واقليمي واسع، شبيه بالاهتمام الذي نالته دورة المجلس المركزي في “10/10/1993″ التي صادقت على اتفاق اوسلو، وتلك التي عقدت في 15 /10/1991 على ابواب انعقاد مؤتمر السلام في مدريد. فانعقادها تم وعملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي معطلة تماما، وتعيش أسوء فترات حياتها منذ اخضعها نتنياهو لايدلوجيته المتطرفة وزجها في بازار الانتخابات الاسرائيلية وجحيم الصراعات الحزبية. وعقدت الدورة والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية متوترة بعد تعطيل حكومة الليكود تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق “واي ريفر” الذي وقعه رئيسها يوم 24/10/1998 في البيت الابيض بحضور الرئيس كلينتون. وكان الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي يتبادل تهديات خطيرة، الاول يهدد بممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره، واعلان قيام دولته المستقلة وبسط سيادته على أرضه فور انتهاء المرحلة الانتقالية. والثاني يطلق العنان للمستوطنيين لمصادرة مزيد من الاراضي وبناء مزيد من المستوطنات وتوسيعها، ويهدد ويتوعد علنا امام ناخبيه باجراءات ردعية قاسية وبضم الاراضي الخاضعة لسيطرته، اذا نفذ الاول توجهاته من جانب واحد.
وكالعادة استمع أعضاء المجلس في بداية اعمال الدورة لكلمة رئيس اللجنة التنفيذية. تحفظ فيها ابوعمار عن قول ما لديه، ولم يستفيض في الحديث على غير عادته في مثل هذا الاجتماع، وكان يود لو أعفي من الكلام. وقال “المرحلة حساسة ولا تحتمل الخطأ”. وكان حريصا على ان لا يعطي لنتياهو مماسك يستغلها في الانتخابات وتخريب الانجازات الفلسطينية التي حققتها الاتصالات والمشاورات الدولية والعربية التي تمت قبل المجلس. وتمنى على المجلس ان يتوخى الحكمة في قراراته، وان يبقى في حالة انعقاد الى ما بعد الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية، وان لا يقدم لنتياهو اي ورقة تساعده على كسب الانتخابات. وقال “دولتنا موجودة على الارض ولها مؤسسات متنوعة ووزارات، ونشيد، وعلم، وجواز سفر، وطوابع وبريد، ومطار دولي، وكود دولي “970”، وعلاقات دبلوماسية. وسنستكمل سيادتنا شاء من شاء وابى من ابى”. ولم ينسى الترحيب بالشيخ احمد ياسين واخوانه، وثمن قرار قيادة حماس المشاركة في اعمال المجلس. واعتبرها خطوة هامة على طريق تعزيز الوحدة الوطنية. وتجاهل غياب الجبهة الشعبية عن الاجتماع.
أما تقرير اللجنة التنفيذية فتناوب على تقديمه وزيران “صائب عريقات ونبيل شعث” من خارج اللجنة التنفيذية. تحدثا باسهاب حول نتائج لقاءات أبوعمار مع زعماء 56 دولة من دول العالم. ورغم تهامس أعضاء المجلس حول تقديم تقرير شفوي وعدم تقديمه من قبل اعضاء من اللجنة التنفيذية، الا أنهم افرادا وتنظيمات مرروا الملاحظة بهدوء ولم يتوقف أحد أمام مدلولاتها التنظيمية الجوهرية. واعتبرها البعض مؤشرا ملموسا على مدى تدهور اوضاع منظمة التحرير ويكشف ما آلت اليه حالة قيادتها اليومية “اللجنة التنفيذية”.
وبين التقرير ومداخلة ابوعمار لاعضاء المجلس أن زعماء وحكومات جميع الدول العربية منفردة ومجتمعة في اطار الجامعة، ودول المجموعة الاوروبية والصين وروسيا ودول أسيوية وافريقية أخرى، جددت دعمها للحقوق الوطنية الفلسطينية، وبخاصة حقه في تقرير مصيره فوق أرضه، وحقه من حيث المبدأ في اقامة دولته المستقلة على الاراضي التي احتلت عام 1967وبسط سيادتها عليها. واقتنعوا بضرورة التميز بين ممارسة هذا الحق الطبيعي ونتائج مفاوضاتهم مع الاسرائيليين. وابدى قلة استعدادهم للاعتراف بالدولة الفلسطينية فور الاعلان وتركوا للقيادة الفلسطينية اختيار الوقت الملائم. وأثار آخرون كثيرون مسالة توقيت الاعلان ونصحوا تأجيله الى ما بعد انتهاء الجولة الثانية من الانتخابات الاسرائيلية التي ستتم في الاول من حزيران القادم. وأكدوا تمسكهم بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي وبأسس عملية السلام، وأدانوا تجميد نتنياهو تنفيذ الاتفاقات التي توصل اليها الطرفان في عهده. ورفضوا التسليم بالامر الواقع الذي خلقته سياسة مصادرة الاراضي والاستيطان في كل ارجاء مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
وتأكد أعضاء المجلس، من التقرير ومن نص رسالة الرئيس كلينتون التي وجهها للرئيس عرفات على ابواب المجلس، ان الادارة الامريكية غير معنية بتوفير غطاء سياسي وقانوني للموقف الفلسطيني. وترفض صيغة “غزة +” اي تطوير موقفها من حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وتتمسك بالصيغة الفضفاضة غير القانونية التي طرحها الرئيس كلينتون في غزة أمام المجلس الوطني الفلسطيني منتصف كانون الاول الماضي، التي قال فيها “من حق الفلسطينيين ان يختاروا مستقبلهم وان يعيشوا احرار فوق ارضهم”. ورفضت ادارة كلينتون تأييد حق اعلان قيام الدولة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية والشروع في بسط السيادة على الارض، وتعتبره عملا أحادي الجانب يلحق اضرارا فادحة بعملية السلام. وتصر على ربط قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي. ومارست ضغوطا قوية على القيادة الفلسطينية، تواصلت خلال جلسات المجلس، لارغامها على تمديد المرحلة الانتقالية لوقت غير معلوم. ورفضت تطوير موقفها من الاستيطان وتجاوز مواقف الشجب والادانة، التي تعلنها بين فترة واخرى، باتجاه اتخاذ اجراءات عملية أسوة بما قامت به ادارة بوش ـ بيكر عام 1992، عندما ربطت صرف ضمانات القروض بوقف الاستيطان. وتصرادارة كلينتون على مواصلة التفرد برعاية عملية السلام، وترفض محاولات دول اوروبا وروسيا والعرب اخراجها من مازقها وتحديد سقف زمني جديد ملزم لانتهاء مفاوضات الحل النهائي. وأقصى ما تعهدت به وعد غير ملزم بالعمل على استئناف المفاوضات بعد الانتخابات الاسرائيلية، ومحاولة انهاء مفاوضات قضايا الحل النهائي خلال عام واحد. وتعهد الرئيس كلينتون بعقد قمة فلسطينية اسرائيلية امريكية مطلع تموز القادم، بصرف النظر عن الفائز في الانتخابات. ونقل للمجتمعين ان نتنياهو ابلغ الادارة الامريكية رسميا تمديد المرحلة الانتقالية لحين التوصل الى اتفاق حول ما بعدها، وانه مستعد للشروع في مفاوضات متواصلة للاتفاق حول الحل النهائي.
وفي جلسات المناقشة العامة الخمس أظهرت كلمات جميع الاعضاء “فصائل وأفراد” شعورعميق بخطورة القرار وخطورة المرحلة الجديدة التي ستلي 4/5، وخلت كلماتهم من المزاودات المعتادة. وأشادوا بالجهود الكبيرة التي بذلها رئيس اللجنة التنفيذية لتثبيت مرتكزات الدولة، وحشد الدعم والاسناد الدوليين للحقوق الوطنية الفلسطينية. وثمنوا مبادرة اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني بدعوة حركة حماس للمشاركة في دورة المجلس، وبتجاوب قيادة “حماس الداخل” مع المبادرة. وشجب الاعضاء سياسة المقاطعة وحالة القطيعة التي سادت علاقة المعارضة بالسلطة وعلاقة قوى م ت ف بعضها ببعض، وابدى البعض استيائه من قرار قيادة الجبهة الشعبية الاستمرار في مقاطعة أعمال المجلس. وتمنى الجميع ان تكون مشاركة حماس بداية مرحلة جديدة في مسيرة تعزيز الوحدة الوطنية وتطوير العلاقات الوطنية، وتمتين وحدة الشعب في الداخل والخارج، وتنظيم أوضاع البيت الفلسطيني على أسس ديمقراطية. وسجلت الفصائل مواقفها بمداخلات مكتوبة وزعت على الاعضاء، وشدد الجميع على ايلاء مواجهة الاستيطان والحفاظ على عروبة القدس أهمية استثناية، وطالبوا بوضع الخطط اللازمة لمواجهة المخططات العدوانية التوسعية الاسرائيلية. واعتبر الكثير من أعضاء المجلس اعلان الدولة وبسط السيادة على الارض ناقصا اذا لم يقترن بترتيبات عملية طموحة قادرة على وقف مصادرة الاراضي والتوسع في الاستيطان. وطالبوا بالاصرار في المفاوضات على عدم بحث قضايا الحل النهائي قبل وقفه وقفا تاما، وعمل الممكن لجعله مكلفا للمستوطنين وحكومتهم. وخلق قواعد سلوك شعبي تعتبر العمل في المستوطنات والتجارة مع المستوطنين عارا وطنيا. وسن تشريعات فلسطينية تعتبره عملا مخلا بالامن الاستراتيجي الفلسطيني وبالمصالح الوطنية العليا للشعب كله يحاسب عليها القانون. والسعي لتشكيل صندوق مالي فلسطيني عربي اسلامي يتولى الانفاق على الاعمال الضرورية للتصدي للاستيطان وتهويد القدس، بما في ذلك تقديم العون المؤقت للعمال المتضررين ريثما يؤمنوا لانفسهم او يؤمن لهم عملا بديلا في مكان آخر..الخ
أما بشان القضية المركزية انتهاء المرحلة الانتقالية واعلان الدولة وبسط السيادة فقد أجمع الاعضاء على رفض تمديد المرحلة الانتقالية، واعتبار اعلان الدولة او عدمه شأن فلسطينيا داخليان وشددوا على الفصل بين المفاوضات وحق اعلان الدولة. وتباينت الآراء حول توقيت الاعلان، وظهرت ثلاثة اتجاهات رئيسية. الاول أيد تأجيل الاعلان فترة محدودة تمتد كحد أقصى الى ما بعد الانتهاء من الجولة الثانية من الانتخابات الاسرائيلية. والثاني، اقلية بسيطة دعت الى التحلي بالصبر والتمتع بنفس طويل، وأخذ الموقف العربي الرسمي والدولي وبخاصة الامريكي بعين الاعتبار وطالبت عدم تقييد الذات بتحديد سقف زمني للاعلان. أما الاتجاه الثالث “الاغلبية” فطالب باعلان قيام الدولة امستقلة وبسط السيادة على كامل الارض فور انتهاء المرحلة الانتقالية…!، وحذر من ضياع الفرصة ومن الخضوع للضغوط الخارجية، ومن تحوّل التأجيل الى سابقة تستخدم ضد ممارسة هذا الحق الفلسطيني . ولم يتوقف اصحاب وجهات النظر الثلاث امام نتائج ما طالبوا به، ولم يطرحوا مقترحات عملية لتطبيق توجهاتهم وترسخ الاعلان والسيادة الفلسطينية على الارض، تخفف سلبياتها.
وقبل انتهاء المناقشات اقترح رئيس المجلس، وفقا للتقاليد الفلسطينية، تشكيل لجنة لصياغة البيان. وأجاز مشاركة الاعضاء المراقبين فيها في اشارة واضحة لحماس. الا ان قيادة حماس شكرت واعتذرت، كاشارة واضحة ايضا الى ان مشاركتها في المجلس لا تعني المشاركة في صنع القرار وتحمل تبعاته. وتم تشكيل لجنة موسعة من 12 عضوا ضمت ممثلين عن جميع الاتجاهات الاخرى. وكان طبيعيا ان ينتقل تباين الآراء حول القضية المركزية من قاعة المجلس الى غرفة اجتماعات اللجنة. وبعد نقاش صريح تم التوافق على مسودة بيان، بنيت على “التمسك بعملية السلام كخيار استراتيجي باعتباره ركيزة الاستقرار الاقليمي والدولي” وتحميل اسرائيل مسئولية تعطيلها. وان “دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف هي حقيقة قائمة على اساس الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في اقامة دولته، وعلى اساس قرار الجمعية العامة 181 لعام 1947واعلان الاستقلال لعام 1988.. وان م ت ف بمؤسساتها الوطنية والديمقراطية هي المرجع الاعلى لهذا القرار الوطني غير القابل للتفاوض او النقض”. وتحفظ بعض اعضاء اللجنة على تضمين البيان نصا يثبت بوضوح انتهاء المرحلة الانتقالية ويرفض تمديدها. وطالب بتعليق استحقاق الاعلان وترحيله الى 4 حزيران اي بعد ظهور نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الاسرائيلية. واضطر ابوعمار للتدخل وحسم الموقف لصالح وجهة نظر الاقلية. وخلى البيان من ترسيم انتهاء المرحلة الانتقالية، واستعيض عنه “باعتبار اجتماعات الدورة مفتوحة على ان يعود المجلس الى الانعقاد في جلسة عامة خلال شهر حزيران”. بعدها تلي البيان على المجلس وتمت المصادقة عليه بالتراضي دون تصويت وفقا لتقاليد العمل القديمة التي تستهوي الفصائل وبخاصة فصائل المعارضة. ولم يسجل اي طرف اعتراضه على فقرات البيان المتعاكسة مع موقفه الذي طرحه في المجلس ولجنة الصياغة. وتضمن البيان من ضمن أمور اخرى، قرار “بتشكيل عدد من لجان العمل بما في ذلك اللجنة الخاصة لوضع مشروع دستور الدولة”، ورحب “باستجابة الامين العام لجامعة الدول العربية للطلب الفلسطيني لتشكيل لجنة عربية عليا برئاسته للمساعدة في صياغة مشروع الدستور”.
وبشان الاستيطان دعى المجلس “قوى شعبنا الى التصدي بجميع الطاقات الوطنية لسياسة الاستيطان وسلب الاراضي وهدم البيوت والطرق الالتفافية واعمال التهويد العنصرية الجارية في القدس وجميع الاراضي الفلسطينية”. ولم يشكل أطرا جديدة خاصة بهذا الموضوع ولم يضع الآليات المناسبة لمواجهة فعّالة. وكلف اللجنة التنفيذية باتخاذ الخوات اللازمة لمواجهة هذا الخطر. واعتبر المجلس اجراءات الاحتلال في القدس لاغية وباطلة، و”اكد على قرارات الامم المتحدة ذات الصلة”، وقدر عاليا موقف الاتحاد الاوروبي الاخير حول القدس، ومواقف الدول العربية والاسلامية وعدم الانحياز تجاهها. ولم يتضمن اشارة خاصة للمعركة الجارية حول قرار الحكومة الاسرائيلية اغلاق مكاتب بيت الشرق، علما انها موضع تدخلات دولية. ورغم معرفة الجميع برفض الادارة الامريكية تطوير موقفها من الحقوق الفلسطينية، ورفضها الاقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بتعبير قانوني واضح “SELF DETERMINATION ” فالمعتدلون رأوا المؤشرات الايجابية في الرسالة ولم يروا نقائصها. وعبرالمجلس “عن اهتمامه الكبير برسالة كلينتون وتاكيد التزام بلاده بتحقيق أهداف عملية السلام متمثلة بتطبيق قراري 2424و338 ومبدأ الارض مقابل السلام، ودعمه لتطلعات الشعب الفلسطيني في العيش حرا على ارضه” واعتبار الاستيطان عملا مدمرا لعملية السلام.
نتائج دورة المجلس داخليا وخارجيا
تضع المحاكمة المجردة” لقرارات الدورة الاولى للمجلس الباحث الموضوعي أمام نتائج ملموسة بعضها ايجابي والآخر سلبي تماما. وبديهي القول ان اصدار الحكم النهائي على نتائج مناقشات المجلس وبخاصة قرار تعليق القرار بشان اعلان الدولة، متروك للزمن. ويستطيع القارئ استنباطه مسبقا باجراء مقارنة بين الخسائر والارباح الناتجة عنه وعن تفاعلاته الداخلية والخارجية المباشرة والبعيدة، وعلى الاوضاع الفلسطينية والعربية ومستقبل السلام في المنطقة. وفي هذا الاطار يمكن تثبيت النتائج والملاحظات الاولية التالية:
اولا / بعد صدور قرارات المجلس أسرع كثير من زعماء الدول العربية ودول العالم المعنية باستقرار اوضاع المنطقة واستمرار عملية السلام الجارية منذ 8 سنوات الى الترحيب العلني بالقرارات والاشادة بحكمة القيادة الفلسطينية وبواقعيتها، وجدد كثيرون دعمهم للحقوق الفلسطينية. وبصرف النظر عن دوافعهم المتباينة فالقرار لبى طلبهم المشترك بتجاوز استحقاق 4 ايار وتمرير قطوع الانتخابات الاسرائيلية دون تطورات دراماتيكية. واراحهم، ولو لاسابيع قليلة حساسة، من مواجهة حالة عملية السلام المتدهورة، ومن الاصطدم بنتنياهو.
لا شك في ان تجاوب القيادة الفلسطينية مع المطلب العربي والدولي وبخاصة الامريكي تاجيل الاعلان، والتحلي بالصبر وباقصى درجات الهدوء واقل مستوى ممكن من الازعاج، عزز مكانتها السياسية، وحافظ على الحالة الصاعدة والمستوى المتقدم من الدعم والاسناد المعنوي الدولي للحقوق الفلسطينية. وأبقى سيف الضغط العربي والدولي مسلط فوق راس نتنياهو. واظهر الرئيس عرفات كزعيم ممسك كليا بزمام الاوضاع الفلسطينية، وقادر في الظروف الصعبة والمعقدة على التجرد من العواطف، وتحمل مسئولياته الادبية في مجال العلاقات الدولية. وقطع القرار الطريق أمام من يريد تحميل الفلسطينيين زورا مسئولية نسف الاتفاقات ووأد عملية السلام، واتاح لانصار استقرار اوضاع المنطقة والمؤيدين للحقوق الفلسطينية فرصة جديدة لانقاذ عملية السلام وتطوير أشكال دعمهم للموقف الفلسطيني.
الا ان قرارات المجلس، كما اعتقد، لم تجاوب على السؤال المركزي المطرح في الشارع الفلسطيني: ماذا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وانتهاء الفترة الزمنية المحددة لانتهاء مفاوضات الحل النهائي ؟ هل سيتم تمديدها والى متى ؟ام هل سيتم الاعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية وعلى اي اسس سيتم التعامل مع اسرائيل ؟ ولم تعالج الاستنكاف الشعبي عن التفاعل مع توجهات القيادة الفلسطينية. الى ذلك فاية مقارنة بين مردود التجاوب والتفاعل مع مطالب القوى الاقليمية والدولية بالخسائر المباشرة واللاحقة التي الحقتها ويلحقها التأجيل بالفلسطينيين، تبين ان الخسائر لم تكن قليلة وليست تكتيكية آنية بل استراتيجية تطال على المدى المباشر والبعيد الحقوق الوطنية الاساسية للشعب الفلسطيني، وتصبح مركبة اذا لم يتم تدارك تاجيل اعلان الاستقلال والتوجة لبسط السيادة الوطنية. ولا حاجة للتدليل بان المكاسب الهامة التي حققتها حركة القيادة الفلسطينية وقرارات المجلس في الحقل الدبلوماسي الخارجي، غير قادرة على ارغام اسرائيل على احترام الاتفاقات الموقعة، ووقف الاستيطان وتسريع مفاوضات الحل النهائي عندما تبدأ، والشواهد حية وكثيرة. وفي كل الظروف والاحوال لا تمثل الانجازات في الحقل الخارجي بديلا للفعل الذاتي المطلوب لاستكمال عناصر الدولة وتجسيد السيادة تدريجيا على الارض، ومواجهة الاستيطان الذي يبتلع يوميا ارض الدولة .
ثانيا / بعد انتهاء أعمال المجلس المركزي رحبت الحكومة والمعارضة الاسرائيلية بقراراته، وكل من موقعه وحسب رؤياه لكيفية توظيفها لصالحه. وصباح يوم 4 أيار عقد نتنياهو مؤتمرا صحيفا بحضور وزير خارجيته “شارون” ووزير دفاعه “ارينز” تبجحوا فيه بنجاح موقفهم الحازم الصلب في دفع القيادة الفلسطينية الى التراجع عن اعلان قيام الدولة رغم كل اشكال التعبئة التي قامت بها في الاشهر الاخيرة. وقالوا لولا الموقف الاسرائيلي الحازم لما حصل التراجع، وكرروا معزوفتهم القديمة “الدولة الفلسطينية خطر قاتل لاسرائيل”. لا شك في ان نتياهو كسب، في حينه، جولة الصراع الاولى حول مسالة اعلان الدولة وبسط السيادة على الارض، وسجل لصالحه فوق ارض الملعب الفلسطيني عددا من النقاط الهامة. ووظف قرار المجلس “تعليق او تأجيل الاعلان” في المعركة الانتخابية، لكنها لم تنقذه من السقوط المريع في الانتخابات. واذا كان من الخطأ التعامل مع موقف الليكود من الدولة الفلسطينية فقط في حدود ميدان المعركة الانتخابية التي جرت في اسرائيل، فالارجح ان قرار المجلس المركزي اضاف لرصيده في صفوف اليمين أرباحا تزيد او تعادل ما كان يمكن ان يجنيه لو اخذ المجلس بوجهة النظر التي دعت للاعلان. وبين للشعب الاسرائيلي صحة مقولته “بان الموقف الاسرائيلي الحازم قادر على ارغام الفلسطينيين على التراجع عن مواقفهم والتنازل عن مطالبهم” اذا جرى التشدد في المواقف واغلقت المنافذ والابواب أمامهم.
اما المعارضة وبخاصة قيادة حزب العمل فبجانب ترحيبها بالتاجيل ركزت على رسالة كلينتون الى عرفات وحملت نتياهو شخصيا مسئولية تدهور العلاقات الاسرائيلية الامريكية. وبالغ بعضهم لاغراض انتخابية في اهمية الرسالة بلغ حد تشبيهها “بوعد بلفور” أمريكي للفلسطينيين. ومهما تكن دوافع الاحزاب الاسرائيلية المتباينة في الترحيب فالنتيجة السياسية تجسدت في تكريس سابقة تجيز للطرف الاسرائيلي بمفرده فرض تفسيره الخاص للاتفاقات على مسمع كل العرب ومرآى من شهدوا عليها. واظن ولو اغلب الظن اثم، ان حزب العمل بزعامة براك سيعتمد هذه السابقة بعد فوزه في الانتخابات. صحيح ان الخيارات الفلسطينية كانت ولا تزال محدودة الا ان مغادرة اعضاء المجلس المركزي قاعة الاجتماعات بعد التوقيع شيك التاجيل المؤقت ودون تحديد تاريخ جديد لاعلان قيام الدولة لم يكن كما اعتقد افضل الخيارات، وكان بالامكان الاخذ بخيار آخر “تحديد تاريخ جديد مثلا” يحفظ الحق الفلسطيني بشكل معلوم ويقلص مكاسب نتياهو ويحد من تبجحاته.
ثالثا/ استقبلت الجماهير الفلسطينية في الداخل والخارج قرارات المجلس بفتور مشوب بالاحباط من المستقبل وبالقلق على أهدافها الوطنية وضمنها هدف الدولة. فقرار تأجيل اعلان قيام الدولة جاء متعاكسا ليس فقط مع المنحى العام لمناقشات المجلس ورأي اغلبية اعضائه بل الاهم مع الحملة السياسية والاعلامية التي شنتها القيادة الفلسطينية على مدى اسابيع طويلة تحت شعار “4 ايار تاريخ مقدس، والالتزام علنا “باعلان الدولة في موعدها شاء من شاء وأبى من أبى”. الى ذلك لم تتضمن قرارات المجلس المركزي اجراءات سياسية وتنظيمية وعملية قادرة على تحويل الشعارات الوطنية الى وقائع ملموسة على أرض. ولعل ضعف التحرك الجماهير وبقاء الحالة يوم 5 ايار كما كانت علية قبل يوم 4 أيار، تعبير صريح ملموس عن موقفها السلبي تجاه نتائج المجلس. واذا كان لا ضرورة للاسهاب في تفسير وسرد اسباب سلبيته فلابد من تأكيد مسئولية القيادة والاحزاب “سلطة ومعارضة” عن وجود فجوة واسعة تفصلها عن الجمهور الوطني العريض، تتطلب الردم السريع، وعن تركه شهور طويلة في حالة بلبلة وارتباك حول الموقف من استحقاق 4 ايار.
لقد بذلت القيادة الفلسطينية قبل المجلس جهودا مضنية من اجل استشارة القوى الشقيقة والصديقة، لكنها لم تتوقف أمام مهمة تفعيل العامل الذاتي كما يستحق، ولم تبذل جهدا يذكر لاستشارة شعبها. وافسحت المجال للقوى المضادة لترويج افكارها المشككة بالتوجهات الفلسطينية الرسمية. ولم تبذل الحركات والاحزاب والفعاليات الوطنية المشاركة في السلطة والمعارضة، جهودا جدية لاستنهاض الطاقات في الداخل والخارج وتفعيلها في اي من محاور الصراع الكثيرة والمتنوعة. وظلت كلها تنتظر نتائج الحركة السياسية “المراثونية” التي قام بها رئيس م ت ف في العالم، ومعه عدد من القيادة الفلسطينية لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وبقيت المنظمات والاتحادات الشعبية والنقابات ساكنة ولم تحركها التطورات، ولم تحاول قياداتها تعبئة قواعدها وجمهورها، وكأنها لا حول ولا قوة لها، واستحقاق 4 أيار أمر لا يعنيها. وعاش أعضاء المجلس الوطني والمركزي والتشريعي وجميع العاملين في مؤسسات السلطة وم ت ف حالة ارتباك، وتابعوا المواقف العربية والدولية من خلال ما تتناقله الصحف ووكالات الانباء العالمية واصدار تعليق حول هذا الموقف أو ذاك. وكأن انتزاع الحقوق والتصدي لمصادرة الاراضي ومقاومة الاستيطان تتم بالتمني. والحصول على مواقف عربية واستدراج تدخل دولي فعّال ضد تجاوز اسرائيل للاتفاقات يتم دون تحركات قوية تازم الوضع على الارض. وبصرف النظر عن النوايا فالانجازات الهامة في الخارج لم تتوافق مع المزاج الشعبي الفلسطيني في الداخل والخارج، والقرارات أدت الى اضعاف مصداقية القيادة في الشارع الفلسطيني ووسعت الفجوة العميقة القائمة بينهما، ونمت الشكوك الموجودة في قدرة السلطة على حماية الارض ووقف الاستيطان وتحقيق التحرر والاستقلال الوطني. وأظن ان سلبيتها زادت ببقاء اوضاع السلطة والمعارضة على حالها بعد المجلس، والصمت على تبجحات نتنياهو بانتصاره على الفلسطينيين وارغامهم على التراجع.
الى ذلك تركت دورة المجلس آثارا مباشرة على العلاقات الوطنية العامة، وسيكون لها لاحقا تفاعلات هامة على صعيد تحالفات الفصائل وعلاقاتها الداخلية. فعودة فصيلين من فصائل م ت ف “الجبهتين الديمقراطية والعربية” للمشاركة في اعمال المجلس رغم مقاطعة الشعبية ضعضعت من جهة اوضاع “تحالف القوى المعارضة للسلطة ولعملية السلام” وهزت قواعد “التحالف الديمقراطي” المهتزة أصلا بين الجبهتين الديمقراطية والشعبية. وارست من جهة أخرى لبنات أولية لتصحيح علاقة من شارك في المجلس بالسلطة والقوى المشاركة فيها. أما مشاركة حماس فكانت الحدث الأبرز في دورة المجلس. وساهمت في تظهير الجوانب البراجماتية والواقعية في سياسة قيادة “حماس الداخل”، وأزالت اجزاء بسيطة من مظاهر التطرف والجمود التي طغت على صورة الحركة في نظر العديد من القوى المحلية والاقليمية والدولية. وعززت دور الشيخ احمد ياسين و”قيادة الداخل” على حساب دور “حماس الخارج” وقيادتها. وخلقت اشكالات جدية داخل تنظيم حماس ككل لاسيما وان قيادة الخارج عارضت علنا مشاركة فرع الداخل في المجلس، وقال الناطق الرسمي للحركة من الخارج “هذا اجتهاد محلي لا يعبر عن موقف قيادة الحركة”، ورد عليه “الداخل” بان المشاركة تمثل الحركة ككل. وبينت كلمة الشيخ ياسين في المجلس تباينا بين الجناحين في مسالتين رئيسيتين هما العلاقة مع السلطة والموقف من نتائج عملية السلام. حيث أكد وقوفه بجانب السلطة والمنظمة في اعلان الدولة وبسط سيادتها على الارض. وقال “شعبنا يريد هوية وكيان دولة”. وطالب برفض الالتزام بتقسيم الارض الفلسطينية الى A B C رغم معرفته ان التوجه للاعلان يستند الى عملية السلام وخضوع منطقة A للسيادة الفلسطينية وخضوع منطقة B للسيطرة المدنية الفلسطينية كلها انبثقت عن الاتفاقات الثنائية التي تم التوصل لها..وحرص على طرح موقفه المعارض لعملية السلام والاتفاقات المنبثقة عنها بهدوء، وخفف من اثر معارضته على العلاقات الوطنية حين قال “ورغم التباين بامكان شعبنا التوحد في مواجهة الاحتلال”. وطالب بحوار وطني شامل بين جميع القوى الوطنية والاسلامية والعودة لسياسية التوافق والتراضي واعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة برنامج تحالف وطني. اعتقد ان تقدم حماس الداخل بقيادة الشيخ احمد ياسين خطوة رئيسية باتجاه المصالحة مع السلطة ومنظمة التحرير، وعدم قيامها على ابواب الانتخابات الاسرائيلية بعمليات عسكرية تحرج السلطة وتخدم نتنياهو في الانتخابات، تفرض على قيادة م ت ف ملاقاتها بخطوات سياسية وامنية وتنظيمية أوسع، تبدأ بوقف كل الاجراءات الاستنائية التي تتبعها اجهزة السلطة في العلاقة مع حماس، وصولا الى متابعة اللقاءات الثناية والجماعية. أما بشان التباين بين “حماس الداخل” و”حماس الخارج” فهو طبيعي تماما، حتى لو جرى تبسيطة وتمت اعادته الى الكواليس الحزبية، مرت به كل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية دون استثناء، وبعضها لا يزال يعيشه. ومرشح للتطور والاتساع والتعمق اكثر فاكثر اذا ظلت قيادة الخارج بعيدة عن مواكبة تطورات الوضع على الارض الفلسطينية والمتغيرات النوعية في العلاقات الدولية، ولم يتم تسليم الخارج بمركزية دور الداخل في صناعة القرارات “الحمساوية”، ولم يتم الاحتكام للديمقراطية كناظم للعلاقات الداخلية والعلاقات الوطنية، واحسنت السلطة استثماره وعملت على تقوية الاتجاه المتجة نحو “الواقعية” بقيادة الشيخ ياسين وخلقت الاطر المناسبة لتواصل التفاعل معه .
وبصرف النظر عن الطريقة التي ستعالج فيها قوى المعارضة تفاعلات دورة المجلس على علاقاتها الداخلية والخارجية، فمشاركتها أسست أرضية ملائمة لاحياء مفوم الوحدة الوطنية وانبعاث الحوار الوطني “الشامل”، ولكن للاسف، على أسسهما العقيمة القديمة. وهذه الارضية كان يمكن ان تبقى قائمة وتصبح ثابتة وصلبة لو فاز اليمين بزعامة نتنياهو في الانتخابات، وعكس ذلك صحيح ايضا. ولا أدري اذا كانت عودة المعارضة الوطنية للعمل من داخل أطر م ت ف تمت بناء على مراجعة نقدية معمقة، ام انها هبة ساخنة ولّدتها حرارة استحقاق 4 ايار. ولعل من المفيد مصارحة المعارضة والقول بوضوح ان استمرار تمسكها بخطابها السياسي وبمفهوم الوحدة الوطنية القديمين، وتمرير تراجعها عن اخطائها دون مراجعة صريحة كما ظهر في المجلس، لا يساهم في خروجها من عزلتها الجماهيرية والسياسية، ويحد من قدرتها على التاثير العملي في صناعة القرار الوطني حتى لو عقدت جولات طويلة عريضة من الحوار الوطني الذي تطالب به. ولا اعرف اذا كان عندها ما تقوله اضافة لما قالته بياناتها وما قاله ممثلوها في المجلس المركزي ؟ واذا كان عندها! فاحجامها عن قوله مستغرب. حقا لقد مثل استحقاق انتهاء المرحلة الانتقالية فرصة هامة للمعارضة لتطرح داخل المجلس وفي الشارع بديل انتهاء المرحلة الانتقالية الا ان ما طرحته لم يمثل بديلا عمليا قابل للتطبيق في العلاقات الدولية وقابل للترجمة العملية على ارض الصراع. وظهرت وكانها تكرر نفسها وتريد فقط تسجيل موقفها غير الواقعي والمأسور للنزعات الذاتية الارادوية. ومثلت دورة المجلس فرصة هامة ثانية للمعارضة لارساء أسس جديدة لتنظيم علاقتها بالسلطة، ولاجراء “الحوار الوطني الشامل” باعتباره المكان الانسب للحوار المسئول. الا ان مفهومها الضيق للحوار “كولسة قيادات الفصائل”، وقبولها بمبدأ “التراضي والتوافق الوطني” أكد انها لا تزال بعيدة عن تبني مبادئ الديمقراطية كناظم للعلاقات الوطنية. وتدرك المعارضة ان صوتها يضيع في اودية السياسية الفلسطينية ودهاليزها اذا لم تسانده حركة فاعلة في الشارع، وهذا لم يحصل اثناء انعقاد دورة المجلس ولا يوم 4 أيار..!
آفاق عملية السلام بعد 4 آيار وفوز براك في الانتخابات
بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 أيار 1999 دون اتفاق عبرت عملية السلام كما عرفناه سابقا مرحلة جديدة من حياتها تختلف عن سابقاتها. وانتهاء فترة السنوات الخمس المحددة للاتفاق حول قضايا الحل النهائي قبل ان تبدء التفاوض حولها، يؤكد ان احيائها على ذات الاسس التي قامت عليها ضياع للوقت واستمرار التفاوض من اجل التفاوض. ومهما تكن تفاصيل الازمة الجوهرية التي تعيشها المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية فوقائع سبع سنوات من عملية السلام “1991ـ1999″ ومعها نتائج انتخابات الكنيست، بينت أن درجة تطور المجتمع الاسرائيلي لم ترقى لمستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين في وقت قريب. وانه منقسم على نفسه انقساما حادا، وأغلبيته اليهودية ترفض التقدم بإتجاه حل تاريخي عادل يقبل به الفلسطينيون. ولا أظن أن تبدلا نوعيا في مواقفهم وقناعاتهم من قضايا الحل النهائي سيقع خلال فترة قصيرة. واذا كان ما انجز قليل جدا، واستغرق 8 سنوات فبالامكان تقدير سنوات التفاوض حولها. يقابل ذلك وضع فلسطيني خلاصته يأس شعبي من عملية السلام ونتائجها المحدودة، وعدم قدرة السلطة وقيادة م ت ف التنازل او التصرف بأي من هذه القضايا الكبرى دون الرجوع لقوى الشعب في كل اماكن تواجده. والمفاوضات حول المرحلة الانتقالية وقضاياها في نظر الشعب الفلسطيني شيء، مختلف تماما عن مفاوضات المرحلة النهائية وقضاياها. ولا اظن ان هناك قائدا فلسطينيا يمكنه الموافقة على الاطروحات الاسرائيلية اليسارية واليمينية المتعلقة بوضع القدس واللاجئين والاستيطان والحدود.
لا شك في سقوط نتنياهو المريع في الانتخابات جنب سقوط المنطقة في دوامة جديدة من العنف. وأحيا الامل ببقاء عملية السلام باسسها القديمة على قيد الحياة، بعد موت سريري دام ثلاث سنوات. واعطاها جرعة انعاش نوعية كافية لأخرجها من مأزقها الذي تعانيه على جميع المسارات، وهيأها للانتقال فورا من غرفة العناية الفائقة الى غرف المفاوضات. وخلقت ظروف محلية واقليمية ودولية مواتية لتحقيق تقدم جوهري على مساراتها الثلاث. وزادت قدرة الراعي الامريكي على القيام بدوره والتأثير في مسيرة التفاوض وتوجيه حركتها بصورة افعل، بقدر من الاحراج أقل بكثير من الذي واجهه في عهد حكومة نتياهو.
الى ذلك، طرحت نتائج الانتخابات اسئلة اضافية للمطروح حول مصير المرحلتين الانتقالية والنهائية. منها هل سيكون براك قائدا سياسيا فذا صانعا للتاريخ، ام سيبقى عسكري يتقن الهجوم بالدبابات ويجيد قيادة العمليات الخاصة برا وبحرا وجوا..؟ قاده تاريخه الامني العسكري، وتخبط الليكود وحماقة نتنياهو الى كرسي رئاسة الوزراء. واذا كان تاريخ براك العسكري وقصر فترة عمله في الحقلين السياسي والدبلوماسي، تدفع المراقبين للتردد في الاجابة على الاسئلة قبل تشكيل الحكومة وطرح برنامجها، ويخشون التسرع في اطلاق احكام جازمة والوصول الى استنتاجات خاطئة، فالاخذ بمقولة المقدمات تدلل على النتائج والمكتوب يقرأ من عنوانه، ينهي هذا المحظور. والتدقيق في مواقفه ابان خدمته العسكرية كرئيس اركان، وتعهداته التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية ينهي خلط الوقائع بالاحلام. ويسهل استقراء توجهاته المتعلقة بالسلام، ويبدد الاوهام حول رغبته حل ازمة المفاوضات على مسارها الفلسطيني حلا جذرا، وتصليح الخراب الذي لحق بالعلاقة بين الشعبين.
لقد خاض براك معركته الانتخابية تحت شعار “اسرائيل واحدة ودولة الجميع، وبراك رجل الامن والسلام”. وانتخب باعتباره رجل المؤسسة العسكرية الحاصل على اكبر قدر من الاوسمة والنياشين وليس كونه محنكا في فنون السياسة الخارجية. وتفوقه على نتنياهو بفارق كبير من الاصوات كان بمثابة تفويض شعبي قوي للامن اولا. والتزم أمام ناخبيه ومنافسيه بموقفين أسياسيين عمليين ؛ الاول اجراء استفتاء شعبي حول اي اتفاق يتم يتوصل بشأن قضايا الحل النهائي. والثاني، سحب قوات الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان خلال فترة اقصاها عام واحد. وكرر التزامه في اول كلمة القاها بعد فوزه في الانتخابات ولم يحدد تاريخا لانتهاء مفاوضات الحل النهائي علما ان تاريخها انتهى في 4 أيار الجاري، وفي قيادة العمل من يعتبر الاتفاق مع سوريا، وليس النهائي مع الفلسطينيين، مدخلا للانفتاح على العرب وبناء الشرق الاوسط الجديد. اعتقد ان براك سيولي مسالة الامن اهمية استثنائية طيلة عهده، وسيتوجه الى امريكا للقاء بالرئيسين كلينتون وعرفات حاملا في جعبته اقتراحا باستئناف المفاوضات دفعة واحدة على أربع مسارات متوازية. الاول مع اللبنانيين هدفه وضع ترتيبات امنية تمكن الجيش الاسرائيلي من الانسحاب من جنوب لبنان خلال عام. والثاني متابعة المفاوضات مع السوريين من حيث توقفت في عهد رابين. والثالث مع الفلسطينيين على تنفيذ بقية قضايا المرحلة الانتقالية. والآخير يتخصص بقضايا المرحلة النهائية. وسلفا يمكن القول ان براك غير مستعد لتقديم تنازلات على الجبهات الثلاث في وقت واحد. باعتبار ذلك خطرا على أمن اسرائيل ويفوق قدرة المجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه على التحمل. واذا كانت تركيبة حكومته وبرنامجها هما المقياس، فشبه الاجماع الاسرائيلي على الانسحاب من لبنان يشجعه على الاندفاع نحو التوصل الى اتفاق حول الجولان وآخر حول جنوب لبنان. ويدرك براك ان الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية الاسرائيلية، التي يعرفها جيدا بحكم مشاركته فيها، يمكّنه من تحقيق هذا الهدف خلال عام وليس اكثر.
أما بشان المفاوضات مع الفلسطينيين حول المرحلة الانتقالية فستتركز حول تنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر، وسيعمل على برمجة تنفيذها في جرعات صغيرة ودفعات متباعدة. وسيلمس المفاوض الفلسطيني تشددا اسرائيليا بشان الانسحاب من الارض لا يقل عن الذي لمسه في عهد نتياهو. فبراك هو صاحب فكرة تقسيم اراضي الضفة والقطاع الى مناطق A B C ومرحلة الانسحاب منها على فترات متباعدة. اما مفاوضات الحل النهائي فسغرق منذ الجلسة الاولى في قضايا شائكة ومعقدة، وسيعمل براك على اخضاعها للماطلة والتسويف. وسيصدم المفاوض الفلسطيني بمفاهيم براك الامنية ولاءاته “الليكودية” الشهيرة ” لا لعودة اللاجئين، ولا للانسحاب الى حدود 1967، ولا تنازل عن القدس كعاصمة ابدية لاسرائيل”. وباصراره على بقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة، وضمها لاسرائيل ترجمة لنظريته الداعية للفصل بين الشعبين. واذا كان انجاز القليل من قضايا المرحلة الانتقالية السهلة استغرق 8 سنوات، فبالامكان تقدير عدد سنوات المفاوضات في عهد براك حول قضايا الحل النهائي المعقدة.
وبصرف النظر عن الكلام الامريكي المعسول الذي سمعته القيادة الفلسطينية قبل وبعد الانتخابات الاسرائيلية حول تسريع مفاوضات الحل النهائي، فاقتراحات براك باستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني تلقى ترحيبا حارا من الادارة الامريكية. وتلبي متطلبات توافق سياسة حزب العمل مع المصالح الامريكية في المنطقة في هذه الفترة. ووزير الخارجية “اولبرايت” قالت يوم 8 أيار امام جماعة يهودية امريكية “بعد الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية سنحض الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ومن دون مزيد من التأخير على تنفيذ الالتزامات المستحقة من اتفاق واي ريفر” وأضافت “وسنكون مستعدين لبذل جهود جديدة لتحقيق التقدم على المسارين السوري واللبناني”. والواضح ان اولبرايت ومساعدوها مقنعين أنفسهم بان تنفيذ بقايا واي ريفر يرضي بصورة واخرى القيادة الفلسطينية. ويعتقدون ان استئناف المفاوضات بين الطرفين، وتحسين الاوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة مع توسيع اضافي محدود لمناطق نفوذ السلطة، تكفي لتعزيز دور السلطة في الشارع وبقاء الاوضاع على ما هي عليه فترة طويلة. وأظن انهم لن يغيروا مواقفهم وقناعاتهم دون أزمة حقيقية في المفاوضات ودون تأزيم جدي للاوضاع على الارض.
وعلى اعضاء المجلس المركزي والسلطة الوطنية والمفاوضين الفلسطينيين ان يتذكروا في اجتماعهم القادم، ان فوز حزب العمل في الانتخابات يحدث تغيرا في مواقف عدد من الاحزاب العمالية والاشتراكة الحاكمة في عدد من الدول الاوروبية. ويجلب معه ضغوطا امريكية على الفلسطينيين، هدفها انتزاع موافقتهم على منح حكومة العمل وقتا كافيا لتثبيت اقدامها في السلطة، وأخذ ما يعرضه براك دون ازعاجه والاثقال عليه بطلبات كثيرة وكبيرة..، وطوي صفحة اعلان الاستقلال وبسط السيادة الى ما بعد الانتخابات الامريكية اواخر سنة الفين. واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على السلطة وقيادة م ت ف ايلاء وقف زحف الاستيطان اهمية قصوى، وتحرير ما يمكن تحريره من الارض وأخذ ما يمكن اخذه من بقية الحقوق الفلسطينية ومراكمتها فوق ما انتزع سابقا، وعدم تحمل مسئولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتجنب التصادم مع الامريكية..الخ فذات المصالح تفرض عليها تحضير اوضاعها لمعركة دبلوماسية قاسية ومفاوضات طويلة وصعبة، والتمسك بحقها في اعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الارض دون تاخير اضافي. وربط الدخول في مفاوضات الحل النهائي بثلاثة مسائل وطنية رئيسية: الاولى تحديد تاريخ واضح وجدول زمني محدد “يوم وساعة” لاغلاق ملف قضايا المرحلة الانتقالية كاملة اغلاقا تماما. والثانية الحصول على قرار اسرائيلي رسمي بوقف كل الاعمال الاستيطانية وقفا نهائيا وتشكيل لجنة مراقبة امريكية او مشتركة لمراقبة الوضع على الارض. والاصرار على ازالة كل البؤر والمواقع الاستيطانية التي اقيمت بعد اتفاق واي ريفر بناء على نداء شارون ودعوته للمستوطنيين باحتلال ما يمكن احتلاله من التلال واستيطانها. والثالثة، تحديد سقف زمني لنهاية المفاوضات حول قضايا الحل النهائي. وأظن ان هذه المسائل الوطنية الكبرى تستحق الدخول في اشتباكات تفاوضية قوية مع حكومة براك وتحويلها الى امتحان حقيقي لمواقف بيريز وعوزي برعام وحاييم رامون وشلومو بن عامي ..الخ من حمائم حزب العمل خاصة وان الاتفاقات الموقعة بين الطرفين تتضمنها بنصوص واضحة، وتعهدات الراعي الامريكي ضمنتها كاملة.
مصير اعلان قيام الدولة وبسط السيادة
منذ فوز الليكود في الانتخابات صيف عام 1996 جربت السلطة تحسين أوضاعها على الارض، وتقوية مواقفها اقليميا ودوليا عبر التفاعل مع رغبات الراعي الامريكي. وقدمت في محطات عديدة تنازلات فرعية وأساسية استجابة لمطالبة ووعوده. وبينت التجربة ان هذا النهج ساعد نتنياهو في تعزيز مواقعه الداخلية ومواقفه الخارجية، ولم يساعد السلطة الفلسطينية في انتزاع حقوق شعبها المنصوص عليها في الاتفاقات. ورغم ذلك كررت القيادة الفلسطينية من جديد ذات السلوك، وأجلت قرار اعلان قيام الدولة والتوجه نحو بسط السيادة تدريجيا على الارض. صحيح ان المجلس المركزي أبقى جلسات دورته مفتوحة ولم يقفل الباب امام تحديد تاريخ جديد وقرر”المضي قدما في اتخاذ الخطوات والاجراءات اللازمة لاستكمال عناصر الدولة ومؤسساتها وتكريس سيادتها”، الا ان العقبات التي حالت دون اتخاذ القرار بتاريخ 4 أيار وأولها الضغوط الدولية والانتخابات الاسرائيلية في 17 ايار لن تزول بعدها. فالضغوط الدولية ستبقى وستزيد في عهد براك، ونتائج الانتخابات الاسرائيلية حلت محل موعد اجرائها. والواضح ان استمرار الخضوع للضغوط ابقى الاوضاع الفلسطينية الداخلية بعد المجلس كما كانت عليه قبله، وحد من امكانية القيام بالخطوات الضرورية لتعزيز وتكريس مقومات قيام الدولة على الارض التي طالب بها اعضاء المجلس. وسيحد لاحقا من امكانية تحديد موعد قاطع جديد للاعلان.
قبل المجلس سمعت القيادة الفلسطينية نصائح كثيرة، ضمنها نصائح المعارضة الاسرائيلية وقيادات الوسط العربي في اسرائيل، بتمرير قطوع الانتخابات الاسرائيلية الخطر بهدوء، والانتظار حتى تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة في تموز او آب القادم. وخلال مناقشات المجلس كانت الانتخابات الاسرائيلية حجة قوية استخدمها دعاة التأجيل، وعلى خلفيتها قرر المجلس تعليق القرار واستمرار دورته مفتوحة وعودة اعضائه للاجتماع في حزيران بعد الانتهاء من جولتها الثانية. وسلفا يمكن القول ان اعضاء المجلس المركزي سيصطدمون في الدورة الثانية من اجتماعاتهم “حزيران القادم” بسيناريو مواقف واحداث دولية واقليمية تضغط باتجاه تأجيل جديد. واجزم بان دعاة التاجيل سيجددون دعوتهم وللن يتعذر عليهم ايجاد الذرائع والمبررات اللازمة لذلك،.
صحيح ان قيادة حزب العمل لا تعارض من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية، لكن من الخطأ الاعتقاد أن فوز براك يمهد الطريق أمام الاعلان عن قيامها ويعبد الطريق أمام بسط السيادة الفلسطينية على الارض، واخضاعها اخضعاها لشروطه ومفاهيمه الامنية يجردها من مضمونها. والتأجيل الاول لاعلان الدولة يفتح شهية الحكومة العمالية الجديد على تاجيل آخر جديد. ويدفعها للتمسك بشروطه التعجيزية، التي تربط باحكام قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي، وبترتيبات امنية لها اول دون آخر. خاصة وانه قرر سلفا مصير مدينة القدس والتزم ببقائها عاصمة موحدة لاسرائيل، ويصر على اجراء تعديلات اساسية في الحدود وضم اجزاء واسعة من الارض. وبقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة كما هي وضمها لاسرائيل…الخ الى ذلك فمصير اعلان الدولة وبسط السيادة لن يكون افضل في تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتجربة بينت ان مثل هذه الحكومات كانت دوما حكومات شلل وطني تدخل الجميع في متاهات المماطلة والتسويف، وتعجز عن اتخاذ قرارات تخدم السلام.
اما بشان استمرار الفلسطينيين ربط اعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الارض بالحصول على موافقة امريكية فاظنه أشبه بركض الظمئآن وراء سراب، ويقود حتما الى تأجيله الى اشعار آخر غير معلوم. فالموقف الامريكي الداعي لربط قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي لن يتغير قبل استئناف دورة المجلس المركزي القادمة ولا على امتداد العام القادم رغم فوز براك في الانتخابات. وساذج من يعتقد ان بالامكان اقفال ملفات مفاوضات الحل النهائي خلال سنة واحدة كما تامل ادارة كلينتون حتى لو جرت مع اكثر القوى الاسرائيلية يسارية، ورمى الراعي الامريكي بثقله فيها. فقضايا الخلاف بين الطرفين جوهرية ولاءات براك تقطع الطريق امامها. وقيامها يتطلب تدخلا امريكيا يصعب الحصول عليه قبل مطلع عام 2001. فالادارة الامريكية مرشحة للاستمرار في الانشغال في ترتيب اوضاع البلقان شهور طويلة، وستنشغل خلالها او بعدها بانتخابات الرئاسة والكونغرس الامريكيين.
لا شك في ان التصادم مع الادارة الامريكية يعتبر عملا متسرعا ومتهورا في هذا الزمن الدولي والعربي الرديء ويلحق اضرارا بالمصالح الوطنية. ولا اظن ان فلسطينيا عاقلا يدعو الان الى انتهاج سياسة تقود الى تدمير العلاقات الفلسطينية الامريكية. والسؤال المحدد المطروح على المجلس المركزي؛ هل اقدام الفلسطينيين على اعلان الدولة يدمر العلاقات ويجلب الكوارث، ام انه يساهم في تطوير الموقف الامريكي ؟ في سياق الاجابة على هذا السؤال من المفيد التذكير ان تدخل الادارة الامريكية وضغطها على نتياهو في اكتوبر الماضي وتوصل الطرفان الى اتفاق واي ريفر في 24/10/1998 تم بعد أزمة جدية توترة فيها العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية. ولم تكن في حينه الادارة الامريكية راضية تماما على الموقف الفلسطيني، ولم تتدخل لفرض اتفاق الخليل الا بعد “هبة النفق” الشهيرة وبعد سيطرة حالة من القطيعة على العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية. والخبرة المكتسبة من المفاوضات تؤكد انه ما لم تكن هناك أزمة حقيقية على الارض الفلسطينية فلن تكون هناك تحركات أوروبية او مبادرات امريكية فعّالة ومنصفة. وان عدالة الموقف الفلسطيني وحرص الادارة الامريكية على تواصل عملية السلام في المنطقة يخففان من ردود فعلها السلبية عندما تتباين المواقف، ويفرضان عليها الاستمرار في التعامل القيادة الفلسطينية حتى لو اختلفت معها واعلنت قيام الدولة، وقررت الشروع في بسط السيادة، التدريجية او الفورية كما يطالب البعض. اما ظهورالفلسطينيين والعرب دون خيارات أخرى فيشجع الادارة الامريكية على الاستمرار في ادارة الازمات بدلا من رمي ثقل لحلها. ويلحق على المدى المباشر والبعيد أضرارأ كبيرة وكثيرة بمواقفهم التفاوضية وبمصالح الوطنية والقومية، وضمنها تشجيع النوايا الاسرائيلية تحويل الحكم الذاتي القائم بعد توسيعه وتجميله الا حل دائم او شبه دائم.
لا شك في ان خيار إعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الارض خيارا وطنيا مفروض على الفلسطينيين لا يستطيعون التراجع عنه، يقود آجلا او عاجلا الى تصادم سياسي وعنيف مع الاسرائيليين. واستمرار اعتماده كخيار فلسطيني استراتيجي يستوجب الشروع فورا في تحضيرات طويلة وعريضة مسبقة. سيناريو حركته العملية يمكن أن تبدأ في حزيران القادم باعلان المجلس المركزي الفلسطيني في دورة اعماله الثانية عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الارض الفلسطينية ضمن الحدود التي حددها إعلان الاستقلال الذي أعلنه المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988. ووضعها كأمر واقع على طاولة الحكومة الاسرائيلية الجديد. والتقدم بطلب للجمعية العامة للامم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينة وبسيادها على الاراضي التي احتلت عام 1967، ولا بد ان تسبق هذه الخطوات السياسية مواقف عملية واجراءات تنظيمية داخلية احد أهدافها الرئيسية ردم الهوة بين السلطة والشارع الوطني وتحضيره للمواجهة المحتملة.
اما اذا عجز المجلس المركزي عن اعلان قيام الدولة في حزيران القادم لاي سبب كان فأخطر المواقف على المصالح الفلسطينية الاستراتيجية وضمنها انبعاث الدولة المستقلة، هو ان ينفض المجلس وتنتهي اعماله قبل تحديد تاريخ “يوم وساعة” اعلانها. فالتأجيل المفتوح يقتل الفكرة ويفسح المجال لافكار وحلول اقليمية ودولية بديلة تتجاوز الاستقلال الفلسطيني. ويخطئ من يراهن على دور الادارة الامريكية في بعث الدولة الفلسطينية الى حيز الحياة في عهد حزب العمل، خاصة اذا حافظ براك على موقفه المعلن من الدولة. فالدولة الفلسطينية لن تقوم عبر المفاوضات مع العمل او الليكود، ولا بموافقة امريكية مسبقة، ولن ترى النور دون أزمة جدية كبيرة مع براك وحكومته وقادة حزب العمل. وعلى كل الوطنيين الفلسطينيين تركيز فكرهم وعملهم وتسخير امكاناتهم وطاقاتهم وشبكة علاقاتهم في الاسابيع والشهور القادمة باتجاه مقاومة الاستيطان وتجسد السيادة الفلسطينية تدريجيا على الارض وليس على الورق فقط. وقيمة اعلان الاستقلال في المعركة الجارية، لا تكمن فقط في محاولة اقتناص الوقت الملائم لانتزاع الحقوق بل وايضا احداث تغيير جدي في قواعد واسس عملية السلام.
وقبل ان أسترسل في الحديث عن اهمية اعلان الاستقلال وعن الصلابة الفلسطينية المطلوبة في مواجهة الضغوط الخارجية القادمة، واتهم بالتطرف والدفع باتجاه التصادم مع الموقف الامريكي وتوريط القيادة الفلسطينية في مواقف مغامرة شبيهة بمواقف النظام العراقي، لابد من التذكير ان الجانب الفلسطيني تنازل عن الكثير من حقوقه التاريخية، وتساهل في المفاوضات وتنفيذ الاتفاقات أكثر من اللازم، وصبر صبرا فاق صبر أيوب. وابدى، على مدى ثمان سنوات من عمر عملية السلام، مرونة عالية تحصنه ضد اي اتهامات بالتطرف وبنسف عملية السلام. ولا أظن ان تمسك الفلسطينيين بحقوق اقرتها المواثيق والاعراف الدولية والشرائع السماوية، وفي مقدمتها التحرر من الاحتلال وحق تقرير المصير يعتبر تطرفا وجريمة يستحقون عليها العقاب. واذا كانت الادارة الامريكية والمروجون لمواقفها سيعتبرون ذلك تطرفا فخير للقيادة الفلسطينية ولاعضاء للمجلس المركزي تحمل تهمة التطرف من ادانة التاريخ لهم بالتفريط بحقوق شعبهم وبمصالحه العليا، وتضييع فرصة قيام الدولة كما اضاعتها القيادة الوطنية الفلسطينية عام 1947.