مصير اعلان قيام الدولة الفلسطينية في عهد براك

بقلم ممدوح نوفل في 24/05/1999

قصة الفلسطينيين والدولة المستقلة قصة طويلة، كانت ولا تزال مليئة بالأمل وبالألم والعذاب. ظلوا سنين طويلة يحلمون بها، وكثيرا ما هبط أملهم للحضيض وارتفع أحيان أخرى الى أعالي السماء. بعد اوسلو وقيام السلطة الوطنية وانسحاب الاحتلال من المدن الفلسطينية واجزاء من الريف زاد الامل، وظن بعضهم انها باتت قاب قوسين وادنى. ومنذ عام 1996، فترة حكم نتياهو، تراجع الحلم بالدولة وضعف الامل بعملية السلام، وتحول الى أمنيات بوقف مصادرة الاراضي ووضع حد لتمدد سرطان الاستيطان، والحفاظ على ما تبقى من عروبة القدس، وترتيب البيت الفلسطيني واصلاح اوضاع السلطة. وكان المجلس المركزي في دورته التي عقدت في غزة 27-29 نيسان الماضي، اخذ بنصائح عربية ودولية ومن عرب اسرائيل، وأجل قرار اعلان قيام الدولة وبسط السيادة تدريجيا على الارض. ولم يطرح تصورا محددا حول مصير المرحلة الانتقالية ومستقبلها، التي انتهت في 4 أيار قبل استكمال تنفيذ استحقاقاتها. ولم يحدد موقفا بشأن مستقبل مفاوضات الحل النهائي التي انتهت مدتها قبل ان تبدأ، وابقى دورته مفتوحة لحين الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية. وبعد سقوط نتياهو في نتخابات وتمزق الليكود ارتفع الامل مجددا، وانتعشت آمال البعض بقيام الدولة في وقت قريب وتحدث عن قيامها قبل نهاية هذا العام. فهل فوز اليسار باغلبية مقاعد الكنيست وفوز باراك برئاسة الوزراء أزال العقبات التي دفعت للتأجيل، ويسهل على دورة المجلس المركزي القادمة، في حزيران، اعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الارض، واتخاذ قرارات واضحة بشأن القضايا الكبيرة الاخرى المؤجلة ؟ أم ان نتيجة الانتخابات تفرض التأجيل مرة اخرى لاعطاء حكومة بارك وقوى اليسار فرصة..؟
سلفا يمكن القول ان اعضاء المجلس المركزي سيصطدمون في دورة اجتماعاتهم الثانية بسيناريو مواقف واحداث تضغط باتجاه تأجيل جديد. فالعقبات الاسرائيلية والاقليمية والدولية التي حالت دون اتخاذ القرار بتاريخ 4 أيار فرضت نفسها على الموقف الفلسطيني وابقت الاوضاع الفلسطينية الداخلية بعد المجلس كما كانت عليه قبله. ولم تتمكن مؤسسات السلطة و م ت ف المضي قدما في اتخاذ الخطوات والاجراءات اللازمة لاستكمال عناصر الدولة ومؤسساتها وتكريس سيادتها” كما ورد في بيان المجلس، وهذه العقبات لن تزول بعد خروج الليكود من السلطة. صحيح ان قيادة حزب العمل لا تعارض من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية، لكن اخضاعها لشروط باراك الامنية ومفاهيمه التوسعية يجردها من مضمونها ويبقيها حكما ذاتيا حتى لو أطلق عليها اسم دولة. خاصة وانه قرر سلفا مصير مدينة القدس والتزم ببقائها عاصمة موحدة لاسرائيل، ويصر على استمرار السيطرة على المعابر، واجراء تعديلات اساسية في الحدود وضم اجزاء واسعة من الارض، وبقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة كما هي وضمها لاسرائيل. الى ذلك فالتأجيل الفلسطيني الاول لاعلان الدولة يفتح شهية باراك وقادة حزب العمل على تاجيل آخر، ويدفعهم للتمسك بربط قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي. ومصير اعلان الدولة وبسط السيادة لن يكون افضل في حال تشكيل الحكومة الموسعة المختلطة من اليسار واليمين التي يفكر بها براك. والتجربة بينت ان حكومات الوحدة الوطنية كانت دوما حكومات شلل وطني، تشد الموقف الاسرائيلي نحو التطرف وتدفعه للتشدد في وجه الفلسطينيين. وتشكيلها في الظرف الراهن بمشاركة الليكود يعني ان باراك حسم موقفه لجهة التساهل مع المتطرفين وطليعتهم المستوطنين، وقرر التمسك بمواقفه المتطرفة من قضايا الحل النهائي التي طرحها في حملة الانتخابات، وزج مسارها التفاوضي في متاهات المماطلة والتسويف وتركه يرواح مكانه بضع سنوات.
لا شك في ان خيار إعلان قيام الدولة المستقلة وبسط السيادة على الارض خيارا وطنيا لا رجعة عنه، قطعت القيادة الفلسطينية شوطا كبيرا على طريق تحقيقه، ولكن يخطئ من يعتقد ان ما بقى أمامها سهل وقليل. والمؤكد ان استمرار اعتماده كخيار استراتيجي يقود آجلا او عاجلا الى تصادم قوي مع باراك وحكومته ويستوجب:
اولا ـ تبني القيادة الفلسطينية توجهات سياسية واضحة واتخاذ قرارات واجراءات تنظيمية داخلية عملية قادرة على ردم الفجوة القائمة بين السلطة والشارع الفلسطيني في الداخل والخارج. واظن ان اجراء انتخابات بلدية قبل نهاية العام، وتفعيل دور المجلس التشريعي، واحياء دور مؤسسات م ت ف وتفعيل الاتحادات والمظمات الشعبية تمثل مداخل جدية وفعالة لتحقيق ذلك، ناهيك عن ضرورتها الوطنية لحشد طاقات الشعب في معركة الدفاع عن الارض وبسط السيادة عليها.
ثانيا ـ اعطاء اولوية مطلقة في الاتصالات مع القوى الدولية وفي المفاوضات القادمة مع الجانب الاسرائيلي، لتسريع تنفيذ الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي التي جمد نتياهو الانسحاب منها، وتحرير أوسع مساحة ممكنة من رقعة “أرض الدولة”. والدخول فورا في محادثات مكثفة مع قيادة حزب العمل ومع حكومة باراك، بعد تشكيلها، بهدف : اطلاق سراح المعتقلين الذين بات استمرار اعتقالهم يمس بمصداقية المفاوض الفلسطيني، واصبح وصمة عار في جبين عملية السلام. فتح الممر الامن بين الضفة والقطاع “محافظات الدولة الجنوبية والشمالية”. وقف هدم البيوت ومصادرة الاراضي وشق الطرق الالتفافية. انهاء كل الاجراءات الليكودية لتهويد القدس الشرقية. والتمسك بالموقف الفلسطيني القائم على رفض الدخول في مفاوضات حول قضايا الحل النهائي قبل تنفيذ هذه القضايا المؤجلة من المرحلة الانتقالية، او بالحد الادنى وضع جدول زمني محدد لتنفيذها.
ثالثا ـ الاصرار على التزام حكومة باراك بوقف الاستيطان وقفا شاملا وفوريا وطيلة فترة مفاوضات الحل النهائي، بما في ذلك التوسع الاستيطاني الذي يتم تحت ستار تلبية التطور الطبيعي للمستوطنات. وجعل هذه المسألة، والغاء عقود البناء في جبل ابوغنيم التي وقعت في عهد الليكود، وازالة البؤر الاستيطانية الحديثة شرطا مسبقا لانطلاق مفاوضات الحل النهائي، وجعلها اختبارا لمواقف حزب العمل وجدية توجهات باراك نحو السلام العادل والدائم. الى ذلك فالتحرك السياسي الفلسطيني نحو مقاومة الاستيطان يبقى ناقصا اذا لم يقرن باجراءات فلسطينية تحرّم العمل في المستوطنات وتقاطع منتوجاتها، وسن قوانين تعاقب كل من يخالف هذا التوجه. والعمل على توفير مصدر رزق جديد للعاملين في المستوطنات.
رابعا ـ العمل على احياء التضامن العربي وتفعيل مؤسسة القمة، والسعي لوضع خطوط عربية حمراء في مواجهة لاءات براك. ورفع مستوى التنسيق الفلسطيني السوري اللبناني الاردني المصري والاتفاق على استراتيجية للسلام الدائم، فالمفاوضات في عهد حزب العمل مرشحة للدخول على كل مساراتها مرحلة جديدة يتشابك فيها الوطني بالقومي. وبحث قضايا القدس واللاجئين والنازحين والحدود والامن والمياه على المسار الفلسطيني يطال المصالح العليا والامن القومي للدول العربية المحيطة بفلسطين. والشيء ذاته ينطبق على اتفاقات حول الوضع في الجولان وجنوب لبنان. وتجربة 8 سنوات من المفاوضات على المسار الفلسطيني وأكثر من عشرين عاما من اتفاقات كامب ديفيد، بينت ان الاتفاقت الثنائية تصنع ترتيبات امنية وليس سلام شامل ثابت يقوم على التكافؤ واحترام المصالح المشروعة والعادلة. واستمرار ظهورالفلسطينيين والعرب دون مواقف حازمة مشتركة من القضايا الاساسية يلحق على المدى المباشر والبعيد أضرارأ كبيرة وكثيرة بمواقفهم التفاوضية وبمصالح الوطنية والقومية ويشجع الطرف الاسرائيلي على التصلب والتمسك بشروطه ومواقفه الخيالية وضمنها التوسع في الحدود وتحويل الحكم الذاتي الفلسطيني الى حل دائم او ما يشبهه، بعد توسيعه وتجميله. ويعفي الادارة الامريكية من تحمل مسئولياتها، ويسهل عليها تركيز ضغطها على الاطراف العربية للقبول باطروحات باراك، او الاستمرار في سياسة ادارة الازمات بدلا من رمي ثقل لحلها حلا واقعيا عادلا. الى ذلك فمطالبة باراك، كما هو متوقع، استئناف المفاوضات المتعددة الاطراف، وتطبيع العلاقات في كل المجالات والارتقاء بها على كل المستويات يجب ان يواجه بموقف عربي موحد، يقوم على خلق ترابط بين تطوير العلاقات العربية الاسرائيلية والتقدم في المفاوضات على كل المسارات وبخاصة قضايا الحل النهائي.
خامسا: اعتقد ان من غير المفيد الدخول الان في مناقشة هل كان تأجيل اعلان قيام الدولة قرارا صائبا ام خاطئا ؟ واذا كان متعذرا تقدير أثر التاجيل في الاطاحة بنتنياهو، فالتأجيل حصل والاضرار وقعت، ونتائج الانتخابات حلت محل موعد اجراؤها. والاعلان في دورة المجلس المقررة في حزيران بات أعقد. ويصعب على القوى المؤيدة لحق الفلسطينيين في دولة، استيعابه اذا تم قبل تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة وقبل استئناف المفاوضات بين الطرفين. وعلى أعضاء المجلس المركزي ان يدركوا سلفا ان الضغوط الامريكية والدولية لتأجيل آخر ستبقى وستزيد في عهد براك. وموقف اركان البيت الابيض الداعي لربط قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي لن يتغير قبل استئناف دورة المجلس المركزي القادمة ولا على امتداد العام القادم، وحسب وجهة نظرهم يفترض التريث وعدم التصادم مع باراك. الى ذلك ساذج من يعتقد ان بالامكان اقفال ملفات مفاوضات الحل النهائي خلال سنة واحدة كما تامل ادارة كلينتون، حتى لو جرت مع اكثر القوى الاسرائيلية يسارية. فقضايا الخلاف بين الطرفين جوهرية ومعقدة، ولاءات براك الشهيرة عقدتها اكثر، وحلها او حلحلتها يتطلب تدخلا امريكيا يصعب الحصول عليه قبل مطلع عام 2001. خاصة وان الادارة الامريكية مرشحة للاستمرار في الانشغال في ترتيب اوضاع البلقان شهور طويلة، وستنشغل في الشهور القادمة في استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وترى ان الظروف سانحة للتوصل الى اتفاقات على هذين المسارين قبل رحيل الرئيس كلينتون من البيت الابيض واجراء الانتخابات اواخر العام القادم. وأجزم ان الفلسطينيين دعاة التأجيل سيبدأون قريبا عزف النغم الامريكي ويجددون دعوتهم ولن يعجزوا عن ايجاد الذرائع لتبرير مواقفهم. وبديهي القول ان خضوع الفلسطينيين للضغوط الاسرائيلية والامريكية يحد من قدرتهم على تحديد موعد قاطع جديد للاعلان.
واذا كان تأجيل اعلان قيام الدولة في حزيران القادم اصبح شر لا بد منه، فأخطر المواقف على المصالح الفلسطينية الاستراتيجية وضمنها انبعاث الدولة المستقلة، هو ان ينفض المجلس المركزي وتنتهي اعماله قبل تحديد تاريخ “يوم وساعة” اعلان قيامها. وأنسب الاوقات لاعلانها هو بعد انتهاء تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية. فالتأجيل المفتوح يقتل الفكرة ويفسح المجال لافكار وحلول اقليمية ودولية بديلة تتجاوز الاستقلال الفلسطيني. وذات الشيء ينطبق على التمديد المفتوح للمرحلة الانتقالية ولفترة مفاوضات الحل النهائي. وعلى اعضاء المجلس ان يؤكدوا في اجتماعهم القادم حق الفلسطينيين المطلق في اعلان قيام دولتهم على كل الاراضي التي احتلت عام 1967متى شاؤوا، ورفض اخضاعه للمفاوضات مع احد. وان يترجموا قرارهم بمواقف سياسية وعملية واجراءات تنظيمية داخلية قادرة على صيانة هذا الحق وتجسد السيادة الفلسطينية تدريجيا على الارض وليس على الورق فقط.