توجهات باراك قادرة على تحقيق أكثر من اختراق
بقلم ممدوح نوفل في 07/06/1999
لا يفيد الجانب العربي عامة والفلسطيني خاصة، المرور مر الكرام على نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، وتصغير قيمة سقوط نتياهو من رئاسة الوزراء، وتبهيت مدلولات خسارة الليكود اكثر من ثلث مقاعده في الكنيست، واختفاء بعض القوى اليمينية المتطرفة “تسومت، والطريق الثالث” من خارطة الاحزاب الاسرائيلية واعتزال عدد من رموزها العمل السياسي. والقول ان باراك صقر متنكر في ريش حمامة، او ليكودي في لباس حزب العمل، والفروق بين الليكود والعمل بسيطة وشكلية وغير جوهرية في القضايا الاساسية..الخ يمكن فهمه اذا أدرج في خانة التفاوض وممارسة الضغوط السياسية عبر وسائل الاعلام، أو في اطار الرد على بعض المواقف المتطرفة التي ظهرت ابان الحملة الانتخابية. لكنه يصبح غير مستوعب وضار ومربك للموقف العربي الفلسطيني ويفقدهم القدرة على اشتقاق التوجهات الصحيحة واستغلال الظروف الملائمة اذا عكس الامرين التاليين او احدهما: قراءة خاطئة لأثر التطورات الدولية والاقليمية على حركة المجتمع الاسرائيلي، وتأثيرها في المرتكزات الفكرية والتنظيمية والاجتماعية لنظامه السياسي. والثاني الارتباك عند المنعطف الحاسم، والهروب في اللحظة الحرجة من مواجهة استحقاقات المرحلة الجددية التي ستدخلها المفاوضات والعلاقات العربية الاسرائيلية بعد تشكيل الحكومه وزيارة رئيسها باراك لواشنطن.
الى ذلك ليس من حكمة استراتيجية او تكتيكية في تبسيط قيمة عودة حزب العمل للسطة، وحصول حركة ميريتس على 10 مقاعد في الكنيست، ووجود 13 عضو كنيست من العرب، على مسارعملية السلام الفلسطينية العربية. او اهمال حزب المتدينيين “شاس”، الذي تحول الى قوة رقم 3، ويولي حياة الانسان اليهودي اولوية على الاحتفاظ بالارض، حتى لو جلس في صفوف المعارضة. واذا كان من الضروري، وهام جدا عدم المبالغة في قراءة النتائج الايجابية للانتخابات الاسرائيلية على مستقبل اوضاع المنطقة وبخاصة الاوضاع الفلسطينية والسورية واللبنانية، فمن الخطأ أيضا ان يحصر المفكرون والسياسيون العرب والفلسطينيون نظرهم في زاوية ضيقة تمكنهم رؤية دور الافراد في تحقيق النصر او جلب الهزيمة، وتركيزه فقط على الفروقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت خلال الحملة الانتخابية في برامج الحزبين الكبيرين. فمثل هذه النظرة تقود للتعاطي مع الوضع الجديد ونتائجه من زاوياه الشخصية والحزبية والمحلية الاسرائيلية الضيقة. ولا تظهر الترابط الوثيق بين سقوط الليكود وتعطيله تقدم مسيرة السلام على المسار الفلسطيني ثلاث سنوات. وتغفل أثر عناد نتنياهو وتصادمه مع توجهات الادارة الامريكية، ومقاومته “الباسلة” لرياح التغيير التي هبت على المنطقة بعد انهيار برلين وانتهاء الحرب الباردة وظهور نظام القطب الواحد. ولا تبين دور تواصل عملية السلام وما انبثق عنها من اتفاقات وعلاقات سلام خلال ما يقارب 8 سنوات في الاطاحة ببعض القوى اليمينية المتطرفة واضعاف بعضها الاخر. وتهمل فعل الخطاب العربي الواقعي، والموقف السياسي الفلسطيني البراجماتي المرن الذي انتهجته قيادة م.ت.ف في التاثير على خيارات الناخب الاسرائيلي.
صحيح ان الادارة الامريكية ودول السوق الاوروبية المشتركة لم تعاقب علنا نتنياهو وحكومته كما عاقبت شامير عام 1992، وكما تتعامل هذه الايام مع ميلوسوفيتش لكن الصحيح ايضا انها عبّرت بصيغة واخرى عن معارضتها لمواقف نتنياهو تجاه عملية السلام مع الفلسطينيين ولسياسة حكومته تجاه الاتفاقات التي وقعها معهم. والناخب الاسرائيلي توجه الى صناديق الاقتراع وهو يعرف مدى تأزم علاقة حكومته بالادارة الامريكية وبالدول الاوروبية والعربية، وكان يشعر انها تقف على حافة التدهور والانفجار المعلن.
وخطورة محاكمة الانتخابات الاسرائيلية من زاويتها المحلية الضيقة لا تكمن فقط في تقييم الماضي القريب، الذي سيتحول مع الايام الى تاريخ، وانما على ما تشتقه وما ستفعله القيادات السياسية الفلسطينية والعربية خلال الاسابيع والاشهر والسنوات الاربع القادمة. فالعمل بهدى نظرة جزئية ضعيفة يقود الى حسابات خاطئة لا تساعدها في تقدير الموقف ورسم مواقف سياسية صحيحة في مجال مفاوضات السلام، واستشفاف آفاق بناء علاقات مستقبلية مع قوى النظام السياسي الاسرائيلي الحاكمة والمعارضة. والرؤية المحلية احادية الجانب تظهر ايهود باراك وقادة حزب العمل وتحالفهم الجديد وكأنهم أحرار في رسم سياسة اسرائيل لاربع سنوات. وتغفل مصالح اسرائيل الاستراتيجية والمباشرة التي تفرض عليها التجاوب والانسجام الى حد كبير مع متطلبات السياسة الامريكية اولا والاوروبية ثانيا في المنطقة. ويلغي مفعول العلاقة الحميمة القديمة بين حزب العمل والادارة الامريكية، وقدرة الأخيرة على التأثير في السياسة الاسرائيلية في عهد الحكومة الجديدة.
ولا مجازفة في القول ان الاستعداد العالي الذي يبديه باراك للتكيف مع السياسة الامريكية والانسجام مع الوضع الدولي والتعامل بواقعية أكبر مع مقتضياته كاملة على المسارين السوري واللبناني، وجزئية على المسار الفلسطيني، سيقود لخلق حقائق جديدة في المنطقة، قادرة، مع الزمن، بديناميكيتها وميكانزمها الذاتي تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي اكثر فاكثر، ودفع القناعات الايديولوجية التوسعية والمعتقدات الغيبية المثالية الى الوراء، تاركة لمن يشاء الحق في الاحتفاظ بها في اعماق الضمير. وتنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر يقرب الفلسطينيين “اذا نفذ” من اهدافهم في التحرير وإقامة الدولة. ويحقق لهم مكاسب اضافية تساعد على تصليب اوضاعهم فوق أرضهم، ويحسن موقفهم على الصعيدين العربي والدولي ومع الاسرائيليين. ويقوي أوراقهم في مفاوضات الحل النهائي اللاحقة. فالانسحاب من 10% من الأرض، ونقل 14% من B الى A يعني دحر جزئي للاحتلال وتحرير أجزاء اضافية من الارض يرفع نسبتها الاجمالية الى 44%. وتحرير أعداد اضافية من السكان “نصف مليون تقريبا” يرفع نسبتهم الى ما يزيد على 95%. وينقل أوضاعهم الى حالة وحياة أفضل لا يمكن اطلاقا مقارنتها بأوضاعهم وحياتهم القائمة. ناهيك عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير قرابة 600 معتقلا من السجون الاسرائيلية. وغني القول أن استكمال بناء الميناء وتشغيل مطار دون منغصات، وفتح الممرين الامنين بين الضفة والقطاع وضمان استمرارهما مفتوحين يساعد على توحيد اقتصاد السوق الفلسطيني. وينهي الكثير من عذابات المواطنيين الفلسطينيين من التنقل والاعتقال على المعابر والطرقات، ويمكنهم قطف بعض ثمارعملية السلام التي حرموا من تذوقها. ويقود الى فقدان الجانب الاسرائيلي عددا من اوراق الابتزاز والضغط الامني والاقتصادي والاجتماعي التي يستخدمها ضد الفلسطينيين سلطة وشعب. ويحسن موقع السلطة في صفوف قطاع واسع من الفلسطينيين وبخاصة الغزيين المحرومين من الوصول للضفة الغربية للقاء باهلهم والدراسة والعلاج. وقد يخلص القيادة الفلسطينية من تهمة القفز عن حرية حركة المواطنيين مقابل أقل من 400 بطاق V I P. وعلى الفلسطينيين المستهترين بهذه المكاسب ان لا ينسوا ان رفض الاتفاق وتعطيل تنفيذه يعني بقاء اجزاء من الارض والشعب تحت الاحتلال، وان الكفاح المسلح الفلسطيني ثلاثين عام وتضحيات الجيوش العربية على مدى نصف قرن لم تحرر شبرا من الارض الفلسطينية.
الى ذلك فالاتفاق على انسحاب القوات الاسرائيلية من جنوب لبنان خلال عام وفقا لرغبات باراك المدعومة امريكيا يحرر جزء من الارض اللبنانية عزيزا على لبنان اولا والفلسطينيين ثانيا والعرب ثالثا. ويخلص آلاف المواطنيين اللبنانيين من براثن الاحتلال الصهيوني وتاثيراته الامنية والثقافية. اما الاتفاق على اعادة الجولان للسوريين فسيكون، اذا تم في عهد باراك، بمثابة اختراق نوعي يحققه الرئيس كلينتون على طريق صنع السلام بين العرب واسرائيل، شبيه بالاختراق الاستراتيجي الذي حققه الرئيس الامريكي كارتر في كامب ديفيد في عهد بيغن. وبصرف النظر عن تفاصيل الترتيبات الامنية والضمانات الامريكية والدولية التي تطلبها حكومة باراك، فالاتفاق حول الجولان سيعيد حتما كامل الهضبة للسيادة السورية تماما كما عادت سيناء للمصريين قبل اكثر من 20 سنة، ويحرر مساحة جديدة هامة من الارض الفلسطينية، “قطاع الحمة” التي بقيت تحت السيطرة السورية من عام 1948 وحتى حرب حزيران عام 1967 واذا كان الرئيس السوري امين الحافظ عرض اوائل الستينات على الفلسطينيين استلام تلك المنطقة واقامة نواة دولة فلسطينية عليها فلن يتعذر على القيادتين السورية والفلسطينية وجامعة الدول العربية الاتفاق على اعادتها لاصحابها وتمكين آلاف اللاجئين الفلسطينيين من الاقامة فيها وتحقيق حلمهم بالعودة.
لا شك في ان تحقيق هذه الانجازات العربية عبر عملية السلام ومراكمتها فوق ما سبقها يعني من الناحية الاستراتيجية حدوث تحسن نوعي في ميزان القوى لصالح العرب ويقرب الفلسطينيين من اهدافهم الاساسية. ويعزز مواقف قوى السلام في اسرائيل على حساب نفوذ المتطرفين، ويسهم في زعزعة مفاهيم التوسع والعدوان التي تعتاش عليها الاحزاب اليمينية المتطرفة. ويزود قطار السلام الذي انطلق من مدريد بطاقة اضافية تساعده على تجاوز العقبات الكبيرة التي تنتظره على طريق مفاوضات الحل النهائي مع الفلسطينيين. الى ذلك اي تكن العوامل المتنوعة التي دفعت الناخب الاسرائيلي لاحداث التغيير، فتبدل نظام الحكم في اسرائيل يشير، ضمن امور كثيرة، الى عودة أغلبية المجتمع الاسرائيلي للتعاطي بواقعية مع قضايا الصراع في المنطقة، والتكيف والانسجام مع الوضع الدولي الجديد. وان التمترس خلق المعتقدات الايديولوجية وخاصة الغيبية منها، قد يريح الضمير ويشبع رغباته الروحانية، لكنه لا يلبي حاجات الجسد اليومية التي لا غنى عنها. لقد رفض الليكود بقيادة نتنياهو استيعاب حقائق الوضع الدولي الجديد، ورفض التجاوب مع توجهات القيمين على اعادة ترتيب اوضاع المنطقة وفقا لمصالحهم الاستراتيجية، فدفعت اسرائيل ثمن ذلك من علاقاتها الدولية والاقليمية. ودفع الليكود ثمنا باهظا استهلك رصيده الخارجي واهتزت اوضاعه الداخلية.
في عام 1992 سقط شامير من رئاسة الوزراء بعد تصادمه مع ادارة بوش بيكر حول متطلبات عملية السلام وحمّل شعب اسرائيل مسئولية فشله وقال “شعب اسرائيل تعب من النضال من اجل ارض اسرائيل التوراتية”. وبعد سبع سنوات قلد بني بيغن استاذه شامير واعلن اعتزله العمل الحزبي والسياسي احتجاجا على موقف الشعب الاسرائيلي من اطروحاته وافكاره القومية اليمينية المتطرفة. اما نتياهو فقدم استقالته من رئاسة الليكود وقرر اعتزال العمل السياسي متحملا مسئولية الهزيمة دون تفسير اسبابها، فهل سيعترف بان ايدلوجيته وعنجهيته وسياساته المتطرفة كانت السبب الرئيسي في تجرعه كأس الهزيمة المرة ؟ وهل سيعترف أركان الليكود بعده ان رياح التغيير التي تعصف بالمنطقة منذ مدة اقوى من اوتاد العقيدة الجامدة ؟