شاس واليهود الشرقيين قوة مهمة لصنع السلام مع العرب

بقلم ممدوح نوفل في 15/06/1999

في جميع انتخابات الكنيست التي تمت عام 1977 وبعده تناوب الحزبان الكبيران، العمل والليكود، على ادارة دفة الحكم في اسرائيل، وظلت لهما اغلبية مقاعد الكنيست دون منافس. وشكلا بعض الاحيان حكومات وحدة وطنية. وكان حجمهما الكبير يغطي على صراعات المجتمع المجتمع الاسرائيلي المتنوعة، وكانت الاحزاب الصغيرة، الدينية والعلمانية، ديكور يستخدم لاستكمال تجميل صورة اسرائيل كدولة ديمقراطية. الا ان نتائج انتخابات الكنيست الخامسة عشر انهت هذه القاعدة وازحت الستارعن الانقسامات الدينية والعرقية التي تنخر المجتمع الاسرائيلي، وأظهرت استقطاباته الداخلية الحادة. وبينت عودة الاسرائيليين بقوة لجذورهم الدينية والعرقية والطائفية. وظهرت اسرائيل كمجتمع فسيفسائي يتكون من مجموعات غير متجانسة لم تتخلى عن انتمائها السابق، فيه تنظيمات صغيرة كثيرة تعبر عن مصالح اجتماعية ضيقة لفئات محددة. صعد دورها على حساب الاحزاب الكبيرة، ولا يوجد في اسرائيل الآن حزب يمكن ان نطلق عليه حزب الاغلبية، ولم يعد بمقدور الحزبين الكبيرين معا تشكيل حكومة وحدة وطنية تحظى باغلبية الكنيست دون الاستعانة بالاحزاب الصغيرة.
واية نظرة موضوعية فاحصة لتركيبة المجتمع الاسرائيلي تكشف ان انقساماته الدينية والعرقية ليست حديثة وانما كانت كامنة تحت السطح منذ تأسيس دولة اسرائيل. وان نجاح حكومات اسرائيل المتعاقبة ومفكروا الحركة الصيهيونية في خلق انتماء وولاء موحد لدولة اسرائيل بين اليهود، لا يكفي لتغطية فشلهم في صهر انتماءاتهم العرقية والطائفية في بوتقة واحدة صلبة، ناهيك عن فشلهم في اسرلة “عرب اسرائيل” الذي ظلوا ينظرون لها دولة اغتصاب سلبت ارضهم وهجرت شعبهم. وقول الرئيس “عيز وايزمن” تعليقا على الانتخابات الاخيرة لرئاسة الدولة “بعد خمسين عام على قيام اسرائيل ظل الشرقي شرقي والغربي غربي” أصدق شاهد عبر عن ذلك.
لا شك في ان الخطاب السياسي العربي الرسمي المعتدل، وعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها من كامب ديفيد عام 1978 وحتى واي ريفر عام 1998 كان لها اسهامها في دفع التناقضات العرقية والدينية الكامنة في المجتمع الى سطحه. فاتفاقات السلام اعطت الاسرائيليين شعورا بالامان وشجعتهم على الاسترخاء، وخف مفعول عقدة الامن التاريخية في توحيد المجتمع الاسرائيلي في مواجهة الخطر الخارجي. وجرد منظروا الصهيونية من استغلال عقدة الخوف من العرب الذين “يسعون لتدمير دولة اسرائيل ورمي اليهود في البحر”. وكان عامل الزمن قد جرد الجيل الجديد من عقدة المحارق التي ارتكبها النازيون في ثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الاوروبين. الى ذلك فتح قانون انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من الشعب طرق وقنوات متعددة امام التناقضات الكامنة لتعبرعن نفسها بشكل فاقع وعدواني احيانا. وقلل من قيمة التصويت للاحزاب الكبيرة. واعطى للفرد والعائلة والطائفة والانتماء العرقي القديم والمصالح الخاصة قيمة كبيرة على حساب قيمة الحزب، اسوة بالشعوب العربية وبلدان الشرق الاوسط. وادراكا منهم لهذه الحقيقة تنافس قادة الحزبين الكبيرين في الانتخابات الاخيرة على استقطاب اصوات اليهود الشرقيين. ووضع حزب العمل شخصية شرقية بارزة “شلومو ابن عامي” تتمتع باحترام خاص من اليهود الشرقيين، في راس قائمته الانتخابية، واكمل توجهه وتحالف مع حركة “غيشر” بزعامة “ليفي” التي تمثل قسما من اليهود الشرقيين. ووضع حزب الليكود “موشي كساب” الشرقي في موازاة بن عامي. وتنازل الجنرال شاحاك “اشكنازي” عن رئاسة قائمة حزب الوسط لصالح الجنرال الشرقي اسحق مردخاي.
والتدقيق في اتجاهات التصويت يبين ان الناخب الاسرائيلي صوت لرئيس الوزراء ولم يصوت لحزب الرئيس، بل للفرد والكتلة والحزب الذي يدافع عن مصالح المجموعة الدينية والعرقية التي ينتمي اليها. وفي خضم معركة الطوائف والاقليات صوت المهاجرون الروس، يهودا وغير يهود، للحزبين الروسيين “اسرائيل بعليا” بزعامة شيرنسكي، و”اسرائيل بيتنا” بزعامة ليبرمان. وارتفع عدد الاحزاب الممثلة في الكنيست الى 15 حزبا. وصعد نجم حركة المتديين “شاس” التي تأسست اواسط الثمينينات كحركة اصولية دينية تمثل “السفرديم”، وكتنظيم سياسي هدفه خدمة مصالح اليهود الشرقين ولا يتعاطف مع الاحزاب الغربية،. وفاجأ جميع المراقبين وخبراء استطلاعات الراي في صعوده القوي، وكان الرابح الاول في الانتخابات رغم الاشكاليات القضائية التي اثيرت حول أمينه العام “أرييه درعي”. واكتسح معاقل الليكود العريقة وبخاصة في مدن التطوير، وهي المدن الاكثر فقرا وتشهد معدلات بطالة عالية. وحصل على “468103” صوت يهودي شرقي معظمهم فقراء، لولا المساعدات التي تقدمها شاس لاصبحوا اكثر فقرا واشد اهمالا، ومنحه العرب “4%” من اجمالي اصواتهم. واحتل بجدارة الموقع الثالث في الكنيست دون منافس وبات ينافس الليكود على الموقع الثاني، وتقلص فرق الاصوات بينهما الى مقعدين وأقل من 40 ألف صوت، وصار ينافسه بقوة على الجمهور التقليدي الشرقي. ومراجعة معدلات نمو قوة شاس الانتخابية تؤكد انه قوة نشيطة صاعدة، زاد قوته من 4 نواب الى 10في انتخابات 1996، ومن 10 الى 17عام 1999. واذا كان القاسم المشترك لناخبي شاس هو شرقيتهم واحتجاجهم على وضعهم المتدني اكثر من اصوليتهم، والتصويت له لا يعني بالضرورة التصويت لمفاهيمه الدينية والدنيوية، فذلك لا يلغي انه مرشح بجدارة لان يصبح الحزب الثاني في الانتخابات القادمة، اذا احتفظ فقط بنصف طاقته وقوته النامية، وواصل “السفارديم”، كما هو متوقع، دفاعهم عن مصالحهم ومعتقداتهم وثقافتهم في وجه هجمة “الاشكناز”. الى ذلك فمشاركة شاس في حكومة باراك توفر له الامكانات المادية اللازمة والظروف السياسة الانسب لمواصلة التقدم والصعود، وبقاؤه في المعارضة لا يعني بالضرورة اضعافه بل قد يعني العكس ايضا، ويزيد من شعوره بالاضهاد ويقوي ووحدته وتماسكه الداخلي، وينمي تعصب جمهوره ضد مضطهديه الاشكناز.
ما من شك في ان شاس يشكل ظاهرة خاصة في المجتمع الاسرائيلي، فهو حزب يعادي اليهودية الاصلاحية، ويسعى الى سيطرة الحاخامات المتزمتين على الحياة السياسية في اسرائيل. اعضاؤه في معظمهم يهود عرب فقراء، قدموا من شمال افريقيا ينظر لهم اغلبية اليهود الغربيين باحتقار ويعتبروهم متخلفين حضاريا وثقافيا. لا يشاركون باقي المجتمع الاسرائيلي مفاهيمهم القومية ويعتبرون انفسهم اقلية وسط المجتمع العلماني. ولا يشعرون بعقدة التفوق العرقي على العرب بقدر ما يشعرون بتمييز عرقي تجاههم داخل المؤسسة السياسية الاسرائيلية. ولا يفتخرون بدولة باسسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية تعتز بوحدانيتها في الشرق الاوسط.
وبعد الانتخابات الاخيرة اشتد العداء بين شاس والعلمانيين، وصار يشكل معضلة لحزب العمل اذ لم يعد حزبا ملحقا، بل قوة سياسية رئيسية منافسة ومؤثرة في المجتمع الاسرائيلي ترتكز الى قاعدة شعبية واسعة. وزاد القلق منه في اوساط العلمانيين خاصة ميرتس بزعامة يوسي سريد، وشينوي الجديدة بزعامة الصحفي بليد، ورجال القضاء والقانون اذ يبدي شاس عداء مباشرا وصريحا للنظام الديمقراطي في اسرائيل، ويبدي استهتارا علنيا بنظام القضاء في اسرائيل وبخاصة محكمة العدل العليا. ولا يعترف بدولة القانون ويعطي الاولوية لقضايا الديانة اليهودية، ويدعو الى اعتماد قوانين الشريعة اليهودية واحكام رجال الدين بدلا من القوانين الموضوعة، ويصفه بعض العلمانيين دولة داخل الدولة اكثر منها حركة سياسية.
الى ذلك فنمو قوة الاحزاب الدينية وصعود شاس بقوة مؤشر على ازدياد حرارة الصراع الديني ـ العلماني، وبات البعض يعتبره التناقض الداخلي الاخطر في حياة المجتمع الاسرائيلي ومستقبل اسرائيل. ووضعت الاحزاب العلمانية وبخاصة ميرتس وشينوي، بشكل مكشوف، محاربة شاس مع الاحزاب الدينية الاخرى على راس جدول اعمالها. وبعد الانتخابات يبدو انها باتت تعتبره خطرا داهما، له اولوية على قضية السلام مع العرب والفلسطينيين. ولا يمكن فهم وضع فيتو على مشاركة شاس في الائتلاف الحكومي وتفضيلها التحالف مع المفدال والليكود اعداء السلام الحقيقي وانصار الاستيطان، خارج هذا الاطار.
واذا كان من حق الاحزاب العلمانية وضمنها قوى السلام في اسرائيل ان تقلق من صعود التيار الديني الاصولي، فمن حق الفلسطينيين ان يختلفوا معهم حول اولوياتهم الجديدة، ومعايير اصدار الاحكام على مواقف القوى وضمنها معيار الموقف من شاس ومشاركتها في الحكومة. فالمعيار عند العرب والفلسطينيين هو الموقف من الحقوق العربية، ومن الاحتلال ومتركزه الرئيسي الاستيطان، وما عدا ذلك بما فيه تعريف من هو اليهودي ووضع دستور الدولة..الخ يحتمل التأجيل. والاولوية عندهم كانت ولاتزال لمسألة صنع السلام العادل والشامل في المنطقة، واستعادة حقوقهم وارساء اسس التعايش بين العرب والاسرائيلين بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية وتناقضاتهم الداخلية. والسلام لن يتحقق تلقائيا في عهد باراك، ومواقف قيادة شاس معتدلة فيما يتعلق بالتسوية السياسية مع العرب والفلسطينيين، وزعيمه “عوفادا يوسف” اصدر فتوى خلاصتها تفضيل حياة اليهودي على التوسع في الارض. واظن ان مشاركته في الحكومة يسهل تنفيذ الاتفاقات الموقعة ويسهل التوصل الى اتفاقات على كل مسارات التفاوض، بعكس الآخرين “الليكود والمفدال” العلمانيين المتطرفين. وبقاؤها خارج الائتلاف الحكومي يعني دفعه نحو التطرف السياسي واتخاذ مواقف مشاكسة عندما تقترب الاطراف من الاتفاقات. وتقدم عملية السلام على مساراتها الثلاث او احدها، وتوسيع هامش الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي العربي والفلسطيني عليه يقوي اتجاه السلام في صفوفه، حيث يجد اعضاؤه مصلحة مباشرة في تطبيع علاقات اسرائيل مع العالم العربي. فالسلام يحيي حقوقهم القديمة في الدول العربية والتطبيع ينعش ثقافتهم وتراثهم الشرقي الذي يحرصون عليه جيلا بعد جيل. والتجربة اللبنانية ـ الفلسطينية في لبنان واكدت ان سياسة العزل والمقاطعة تأتي بنتائج عكسية وتأجج الصراع الداخلي. ولا يضعف المجموعات الطائفية بل يوحدها ويزيدها شراسة في الدفاع عن مصالحها ووجودها.
وبصرف النظر عن النتائج النهائية للمعركة الجارية في اسرائيل بين العلمانيين والمتدينين، والاشكناز والسفرديم فالمصالح العربية العليا تفرض، في هذه المرحلة، شن هجوم سلام منظم على المجتمع الاسرائيلي، هدفه اضعاف القوى الصهيونية المتطرفة، والتفاهم مع القوى الاسرائيلية المؤيدة للسلام مع العرب، والمؤمنة بالتعايش مع الفلسطينيين في اطار دولتين لشعبين على ارض فلسطين المقدسة. وايلاء العلاقة بشاس اهتماما خاصا باعتباره واحدا منها، سواء شارك في حكومة باراك او بقي في المعارضة. وبامكان القوى الشعبية والمنظمات الاهلية واعضاء المجلس التشريعي والكتاب والمثقفين ورجال الاعمال العرب والفلسطينيين لعب دور رئيسي في الهجوم، وتوطيد العلاقة مع قادتها وكوادرها وتشجيعهم على مساندة الحقوق الفلسطينية والعربية في اطار صنع السلام والتعايش بين الشعبين.
وبديهي القول بان تخصيص شاس لا يعني اهمال العلاقة مع قوى حركة السلام الاصلية او الاحزاب اليسارية التي تؤمن بالسلام والتعايش بين الشعبين وتدافع عن الحقوق الفلسطينية، بل تفعيل مواقف شاس بذات الاتجاه وضمن قنوات موازية تساند بعضها البعض اذا تعذر دمجها في بوتقة واحدة. فهل ستبادر جهة فلسطينية او عربية ما لتنظيم الجهود وتقسيم العمل وتشغيل كل من موقعه وضمن طاقته في هذه الورشة المهمة، ام ان الاهتمام بها سوف يكون موسميا، وسيضيع في زحمة المفاوضات والعلاقات مع قادة حزب العمل تماما كما حصل بالعلاقة مع قوى السلام في عهد رابين وبيريس ؟ سؤال..