اولبرايت قادمة لتدشين مرحلة جديدة من المفاوضات
بقلم ممدوح نوفل في 04/09/1999
نهاية اب 1995 تسلم باراك منصبه وزيرا للداخلية في حكومة رابين. وبعد أسابيع قليلة كان عليه ان يحدد رسميا موقفه من اتفاق طابا. وقبل التصويت في مجلس الوزراء “عاش باراك ليلة صعبة للغاية”، حسب ما رواه لمؤلفي كتاب “باراك..الجندي الاول”. وكان يدرك ان التصويت حسب قناعته سوف يزعج رابين وبيريز اللذان ادخلاه الحكومة. ولم يخف باراك رأيه خلال الاجتماعات المغلقة وابدى معارضة شديدة لاسلوب الانسحابات السريعة، وقال: “ان تسليم الفلسطينيين غالبية المناطق “الضفة والقطاع” قبل بدء مناقشة القضايا الصعبة مثل القدس واللاجئين والحدود..الخ يعتبر خطا تكتيكيا جسيما. فالمناطق افضل ورقة مساومة في أيدينا، وتسليمها للفلسطينيين يعني فقدانها قبل ان تبدا المساومة الحقيقة”. واقترح تقديم مفاوضات التسوية الدائمة، او اطالة مدة الانسحابات ونشرها على المدة الفاصلة حتى الانتهاء من نقاش قضاياها الاساسية، بحيث يتم الاتفاق حولها في نفس الوقت الذي ستسلم فيه او خلال زمن قريب منه”. وحينما حانت لحظة التصويت امتنع عن تاييد الاتفاق وتوترت علاقته برابين وبيريز لفترة”. واشارت وسائل الاعلام الى ان باراك يعارض اتفاقيات اوسلو.
أظن ان هذه الفقرة المقتبسة من اقوال باراك تساعد في فهم استراتيجيته للسلام مع الفلسطينيين التي يتغنى بها، وتبين ملامح موقفه في المفاوضات اللاحقة حول قضايا الحل النهائي، التي يحث الفلسطينيين على دخولها. وتكشف خلفيات مواقفه المتشددة في المفاوضات التي سبقت توقيع بروتوكول تنفيذ اتفاق واي ريفر مساء يوم 4 ايلول في شرم الشيخ بحضور الرئيس مبارك ووزيرة الخارجية الامريكية اولبرايت. وكافية لخلق حالة من الريبة بشأن التزامه بما وقع عليه، وبخاصة تنفيذ مرحلة الانسحاب الثالثة من واي، والشك في رغبته دخول مفاوضات جدية حول الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق اوسلو.
وانسجاما مع قناعاته الاصلية طلب باراك، في تموز الماضي، من الادارة الامريكية منحه بعض الوقت قبل الشروع في تنفيذ واي ريفر، وتمنى عليها تأجيل زيارة وزيرة الخارجية اولبرايت، وعدم ارسال مبعوثيها “دينس روس ومارتن انديك” للمنطقة. وحاول اقناع القيادة المصرية ببراءة موقفه من اتفاق واي وبصدق نواياها، وكان يخطط للاستفراد بالقيادة الفلسطينية وانتزاع موافقتها على تعديل واي، والشروع فورا في مفاوضات الحل النهائي، ودمج المرحلة الثالثة من اتفاق واي بها. ووضع جدول زمني مديد لتنفيذ الاستحقاقات الاخرى، وهي “الانسحاب الثاني، اطلاق سراح الاسرى والمعتقلين الامنيين، فتح الممرين الآمنين الجنوبي والشمالي بين الضفة والقطاع، وبناء الميناء وفتح شارع الشهداء في الخليل”.
الى ذلك اعتقد براك ان حديثه العلني وبصوت مرتفع عن السلام، ورغبته في استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، واجراؤه اتصالات تمهيدية سرية وعلنية مع القيادة السورية، يعوض ادارة كلينتون عن تأخير زيارة اوابرايت، وتقليص دورها في المفاوضات، وتجميد دور “روس وانديك” وال C I A في تسوية الخلافات ومراقبة تنفيذ الاتفاقات. ويخلق تنافسا قويا بين المسارين السوري والفلسطيني. ويبتز الفلسطينيين ويفرض عليهم الدخول في مساومة جديدة تمكنه منعهم تعزيز اوضاعهم على الارض وتعزيز موقفهم في مفاوضات الحل النهائي. وتجنبا لاي سوء تفاهم ارسل الوزير “يوسي بيلن”، أكثر الاسرائيليين حماسا لاستمرار التركيز على المسار الفلسطيني، الى واشنطن لاقناع اركان الادارة الامريكية بقيمة توجهاته وبأهمية تبنيها. وطالبها “بيلن” بالضغط على القيادة الفلسطينية لقبول افكار باراك “باعتبارها لصالحهم”..! وتختزل زمن الوصول معهم الى سلام شامل. وسعيا لكسب ود باراك عزف بيلن الحان عنجهية دغدغ بها رغبات رئيسه، وهدد الفلسطينيين اذا استمروا في رفض اقتراحاته. وحذرهم من “ارتكاب خطأ قاتل اذا اضاعوا الوقت في الركض وراء مسائل تفصيلية صغيرة وردت في اتفاق واي”.
ويسجل لادارة الرئيس كلينتون انها في الوقت الذي منحت باراك بعض الوقت ليجرب أفكاره، وأجلت زيارة اولبرايت للمنطقة حتى مطلع ايلول، لم تتفاعل مع اطروحاته رغم تحالفهما الاستراتيجي. ولم تتبنى تنظيرات “بيلن” الانتهازية البائسة، والمتعاكسة مع اطروحته الطويلة حول اهمية المرحلة الانتقالية، ومع قناعته الحقيقية وقناعة مكتشفه وملهمة بيريز. وتمسكت بموقفها، الداعي الى التزام الطرفين باتفاق واي ريفر. وربطت جهودها، التي لا غنى عنها لاستئناف المفاوضات السورية اللبنانية ـ الاسرائيلية، باتفاق حكومة باراك مع السلطة الفلسطينية على جدول زمني محدد لتنفيذه باسرع واقصر وقت ممكن. وطلبت من الفلسطينيين مواصلة القاءات مع الاسرائيليين، ولم تمارس ضغطا قوي عليهم. وتركت لهم علنا حرية القرار بشان دعوة باراك تسريع مفاوضات الحل النهائي ودمج بعض بنود واي ريفر فيها. ووجهت دعوة رسمية لوفد من السلطة لسماع وجهة نظرها مساواة بزيارة “بيلن”. ولم يستطع باراك كتم انزعاجه من الموقف الامريكي وكلف وزير خارجيته “دافيد ليفي” بشن هجوم على زيارة لقاءات ابو مازن في واشنطن ، وذكّر الفلسطينيين بان الثنائية الاسرائيلية الفلسطينية هي أقصر الطرق لمعالجة الخلافات ولتفاهم حول تنفيذ الاتفاقات .
الى ذلك فهم باراك مغزى الموقف الامريكي، وشعر بتحفظ موقف القيادة المصرية على اطروحاته وفتور علاقتها معه وشرع في التراجع عن موقفه. واوعز لمفاوضه المحامي المهذب “جلعاد شير” تسريع مفاوضاته مع صائب عريقات، والتحرك بجدية نحو التوصل الى اتفاق حول تنفيذ واي ريفر قبل وصول الوزيرة اولبرايت الى المنطقة. وقفز عن المطالبة بدمج قضايا من الانتقالية بالنهائية التي رفضتها السلطة الفلسطينية بقوة. وتجاوب مع اصرار رئيسها على ربط الدخول في مفاوضات الحل النهائي بالاتفاق اولا على جدول زمني محدد لتنفيذ بنود واي ريفر وبخاصة المتعلقة بالانسحابات واطلاق سراح المعتقلين. وشدد على ضرورة بدء مفاوضات الحل النهائي مع بدء تنفيذ واي.
ورغم الخلاف الامريكي الاسرائيلي الودي الهادئ والمستور، وفقدان باراك بعض مصداقيته، اشادت الوزيرة اولبرايت بحكمة باراك وحرصه على صنع سلام ثابت في المنطقة، ودعت الدول العربية الى التفاعل مع الخطوة الاسرائيلية “العظيمة” التي اقدمت عليها حكومة باراك، وملاقاتها بخطوة تطبيع “حرزانة”. وأظن ان حكومات عربية كثيرة ستشيد بجهود باراك من أجل صنع السلام، “وتكرّمه” بالموافقة على بدء تنفيذ اتفاق واي المعطل تنفيذه منذ قرابة عام. وستتجاوب مع دعوة اولبرايت وتتعامل مع متطلباتها بسرعة مذهلة بما فيها تحضير اوضاعها لاستئناف مفاوضات متعددة الاطراف قبل استكمال تنفيذ واي ريفر، وقبل ظهور حقيقة مواقف باراك من المطالب السورية المحقة والمشروعة. والواضح ان السيدة الوزيرة لم تنجح في احياء الدور الامريكي كمراقب مباشر لتنفيذ الاتفاق الجديد، وخضعت لابتزازات باراك واكتفت بوعوده واخلاقه العسكرية ؟. علما بان تجربة المفاوضات والاتفاقات من مدريد واوسلو وحتى واي اكدت ان لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين، عند رؤساء وزراء اسرائيل”عسكر ومدنيين”. وان لا غنى عن دور امريكي مباشر في الاشراف على المفاوضات ومراقبة تنفيذ الاتفاقات.
الى ذلك انصرفت الوزيرة اولبرايت بعد الاحتفال بما تحقق على المسار الفلسطيني، الى مهمتها الرئيسية المتمثلة في احياء المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وستقوم بالحركة المكوكية المطلوبة بين دمشق وتل ابيب لوضوع الرتوش الاخيرة. وتأمل النجاح في انجازها قبل مغادرتها المنطقة. واظن انها لن تواجه صعوبة كبيرة في الاتفاق مع الطرفين على استئناف مفاوضاتهما، وتدشينها مطلع تشرين الاول “أكتوبر” بعد انتهاء القيادة الاسرائيلية من الاحتفال بالاعياد اليهودية. وستتفق معهما بسرعة على دور أمريكي نشط وفعّال فيها خاصة ان لا خلاف بينهما على مثل هذا الدور، واستئناف المفاوضات بات هدفا مشتركا يخدم المصالح التكتيكية والاستراتيجية للطرفين، والاتصالات التمهيدية، السرية والعلنية، أنضجت مواقفهما وضيقت رقعة خلافاتهما حول اسس استئنافها.
وبتدشين المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وبدء مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني مترافقة مع تنفيذ واي ريفر، تنتقل المفاوضات العربية الاسرائيلية الى مرحلة نوعية جديدة. وبصرف النظر عن راي المتفائلين او المتشائمين بمستقبل المفاوضات على المسار السوري فالثابت ان مجرد استئنافها يساعد باراك على التشدد في تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، وقد يتحمس ويتلاعب بتوقيت الانسحاب الثالث. ولا حاجة لان يكون الانسان ذكيا حتى يقول ان مفاهيم باراك الامنية، واوضاع ائتلافه الحكومي، واوضاع اسرائيل الداخلية تؤكد استحالة التوصل، خلال فترة حكم باراك الحالية، الى حلين شاملين للصراع الاسرائيلي الفلسطيني والسوري الاسرائيلي. وتوقيع اتفاقين استراتيجيين حول الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان، وآخر يعالج قضايا القدس واللاجئين والحدود والاستيطان والامن.
وأقصى ما يطمح له باراك في ولايته الاولى هو توقيع اتفاق مع الرئيس الاسد حول تطبيع العلاقات السورية الاسرائيلية، والانسحاب من الجولان. ووضع الترتيبات الامنية اللازمة لضمان استقرار الوضع على حدود اسرائيل الشمالية بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان. وسيعمل بكل السبل ويستخدم كل الاوراق المتوفرة للضغط على رئيس السلطة الفلسطينية لتوقيع “اتفاق اعلان مبادئ” عام وفضفاض جدا حول قضايا الحل النهائي، يعتمدة كاساس لمفاوضات تستغرق سنوات طويلة، والايحاء للعالم بانتهاء الصراع مع الفلسطينيين.
وبصرف النظر عن تفاصيل نصوص اتفاق شرم الشيخ، وعن الدرس الذي سيستخلصه باراك من فشله الاول في املاء مواقفه على الفلسطينيين وتهميش الدور الامريكي، فلا شك في ان انسحاب اسرائيل من الجولان وجنوب لبنان يخدم المصالح الوطنية السورية واللبنانية، مثله مثل الانسحاب من أجزاء اضافية من الضفة الغربية. واذا كانت المصلحة القومية المشتركة تفرض على الطرفين التساند في المفاوضات وتنسيق مواقفهما قبلها وخلالها. فالمصلحة الوطنية تفرض على القيادة الفلسطينية ليس فقط تعطيل امكانية استغلال المفاوضات والاتفاقات في ابتزاز الموقف السوري، بل وايضا تاخير التوصل الى “اعلان مبادئ الحل النهائي” الى ما بعد الاتفاق السوري الاسرائيلي، واستثمار الاسبقيتين الهامتين، اللتين سيتضمنهما، في مفاوضاتها حول قضايا الحل النهائي: الاولى اعتماد قرارات الشرعية الدولية 242و 338 كقاعدة لحل النزاع حول الارض والحدود. والثانية رسم نموذج لمعالجة وضع المستوطنات والمستوطنيين. والتيقن قبل ذلك كله من تنفيذ الاتفاق الجديد على الارض. فقناعات باراك الاساسية لم تتغير، ويخطئ من يعتقد انه سينفذه باستقامة. وقديما قالوا “الطبع غلب التطبع”. وولادة اتفاق شرم الشيخ العسيرة تفرض رفع درجة الحذر الشديد.