طريق تنفيذ اتفاق واي ريفر وعرة وغير سالكة للنهاية
بقلم ممدوح نوفل في 08/09/1999
أخيرا وبعد مفاوضات شاقة وقع باراك يوم 4/9/1999 مذكرة تنفيذ اتفاق واي ريفر، وشهد عليه الرئيس مبارك والوزيرة اولبرايت والملك عبد الله الثاني. وكالعادة اثار الاتفاق الجديد أسئلة كثيرة متنوعة وردود فعل وآراء متناقضة. بعض أهل المنطقة رحبوا به واعتبروه مكسبا للشعبين ولصنع السلام في المنطقة. آخرون رأوا فيه تنازالات جديدة خطيرة قدمت على حساب مصالحهم ومعتقداتهم التاريخية. ودبت فيهم الحمية، وبدأوا بمناصبته العداء واخرجوا ادوات الهدم من مخابأها وشرعوا في العمل على تخريب طريقه وتعطيل تنفيذه.
واي تكن دوافع وخلفيات المواقف المتباينة فالخلاف حول تقيم نتائجه وآفاق تنفيذه أمر طبيعي وصحي تماما اذا بقي يدور في اطاره السلمي والديمقراطي. ولا ارى مصلحة فلسطينية او عربية في تجميله واخفاء ثغراته وعيوبه وتزيين طريق تنفيذه. واكثر الفلسطينيون واقعية وأشدهم حماسة لعملية السلام الجارية لا يستطيعون إنكار ان “اتفاق شرم الشيخ” لم يتضمن كل الحقوق التي نص عليها اتفاق واي ريفر الاصلي. وان موازين القوى والظروف الاقليمية والدولية ونهج التفاوض، مكنت باراك تكريس مفهوم اسلافه “رابين وبيريز ونتنياهو” لا تواريخ ولا اتفاقات مقدسة مع الفلسطينيين. وفرضت على القيادة الفلسطينية الرضوخ لابتزازاته، ووافقت على اعادة فتح اتفاق واي ريفر وعدّلت بعض بنوده. واجلت مكرهة اعلان قيام الدولة وبسط سيادتها على الارض عام كامل على الاقل. وانتزع باراك شروطه المتعلقة باطلاق سراح المعتقلين، ولم تختلف مفاهيمه وارقامه وتصنيفاته لهم عن سلفه نتنياهو سيئ الذكر. واجرى تعديل على المناطق التي سيتم الانسحاب منها وعلى توقيتاتها الزمنية. ونجح في دمج المرحة الانتقالية بالنهائية، والزم الجانب الفلسطيني الدخول في مفاوضات حول قضايا الحل النهائي بهدف التوصل الى “اتفاق اطار اعلان مبادئ” خلال فترة لا تتجاوز 6 شهور، وقبل التزام الجانب الاسرائيلي بوقف الاستيطان وقفا شاملا ونهائيا وتفكيك البؤر الاستيطانية التي اقيمت بعد توقيع “واي”. وايضا قبل استكماله تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية وأهمها: الاتفاق على مساحة وجدول زمني للانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق اوسلو، والذي يحرر قرابة 90% من الاراضي ويحصر التواجد الاسرائيلي في المستوطنات والمواقع العسكرية فقط. الاتفاق حول أطلاق سراح بقية المعتقلين، ترتيبات فتح الممر الآمن الشمالي بين رام الله وغزة. التواجد الامني في الحرم الابراهيمي. وتنظيم عودة النازحين الى ديارهم. وأبقاها جميعها معلقة بانتظار التفاوض حولها من جديد بموازاة مفاوضات الحل النهائي.
الى ذلك لا مصلحة فلسطينية في تركيز النظر فقط على النصف الفارغ من الكأس، وعدم رؤية الخسائر الاستراتيجية التي يلحقها الاتفاق الجديد، اذا نفذ بكامله، بالعقيدة الصهيونية التوسعية، وباليمين الاسرائيلي وبخاصة أنصار “أرض اسرائيل التوراتية”. ولا يستطيع ألد أعداء الاتفاق تلبيسه تهمة إغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع وتحقيق بقية حقوقه الوطنية الكثيرة المتنوعة المغتصبة. وتجربة المفاوضت الطويلة التي خاضها الفلسطينين والاتفاقات الكثيرة التي وقعوها أكدت ذلك .
ومعارضوا الاتفاق الجديد وكل المتحفظين عليه، فلسطينيون وعرب، لا يمكنهم انكار ان تنفيذه يقرب الفلسطينيين من اهدافهم في تحرير ارضهم وإقامة دولتهم. ويساعدهم “اذا نفذ” على تصليب اوضاعهم في الضفة والقطاع، وينقلها الى حالة جديدة وحياة أفضل لا يمكن اطلاقا مقارنتها بأوضاعهم وحياتهم القائمة. ويعزز أوراقهم التفاوضية ويقوي مواقفهم في المفاوضات اللاحقة، ويحسن موقع السلطة في صفوف قطاع واسع من الفلسطينيين. فالانسحاب من 8.1% من الأرض ونقلها “من C الى A ” رسميا للسيادة الفلسطينية الكاملة، اضافة الى نقل %10 من C الىB يعني دحر جزئي للاحتلال وتحرير أجزاء اضافية من الارض. وتحرير أعداد اضافية من سكان الريف ويرفع نسبتهم الى ما يزيد على 95%. ناهيك عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير350 معتقلا من السجون الاسرائيلية. وغني القول أن بناء الميناء، وفتح الممر الامن “الجنوبي” بين الضفة والقطاع وضمان استمراره مفتوحا يساعد على توحيد اقتصاد السوق الفلسطيني. وينهي عذاب واهانة المواطنيين عند طلب التصاريح واثناء تنقلهم على المعابر والطرقات. ويمكنهم قطف بعض ثمارعملية السلام التي حرموا من تذوقها. ويقود الى فقدان الجانب الاسرائيلي عددا من اوراق الابتزاز الامني والضغط والاقتصادي والاجتماعي التي يستخدمها ضد الفلسطينيين.
اعتقد ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على قيادة م ت ف والسلطة الوطنية رفع درجة يقظتها الامنية والسياسية، وبذل أقصى الجهود لتنفيذ الاتفاق الجديد، رغم ثغراته ونواقصه الكثيرة، وضمنها الوفاء بالتزاماتها الواردة فيه. والعمل على تفعيل الدور الشهود في مراقبة تنفيذه حسب جدوله الزمني، واستثمار اوراق الضمانات الامريكية والاوروبية التي قدمت لها. وتفرض على الوطنيين المعارضين، حزبيين ومستقلين، الحرص على المصالح العليا للشعب وسلامة العلاقات الوطنية. والتمعن في موازين القوى والظروف المحلية والدولية التي انتجت اتفاق شرم الشيخ. والتعامل بواقعية معه والتصرف باعتباره أمر واقع لا يمكن الغاؤه مثله مثل ما سبقه من اتفاقات. وعدم تقديم الذرائع لباراك للتهرب من تنفيذه. وترك الصراع في الشارع السياسي الاسرائيلي يأخذ مداه كاملا، وعدم نقله للبيت الفلسطيني. وتوحيد جهودهم مع جهود السلطة، والعمل سويا على استنهاض طاقات شعبهم، وتفعيل جهود العرب وكل قوى السلام وزجها في معركة تحصيل الحقوق الفلسطينية التي وردت في الاتفاق، والتصدي للاستيطان. واسناد المفاوض الفلسطيني في المفاوضات القادمة حول قضايا المرحلة الانتقالية التي بقيت معلقة، وفي مفاوضات الحل الدائم. ومنحها اولوية مطلقة على سواها من اهدافها الحزبية واشعال الضوء الاحمر في الشارع وتعطيل مرور ما يضر بالقضايا الوطنية الكبرى. ولا مصلحة فلسطينية في تعطيل تحرير اجزاء اضافية من الارض وتحرير بضع مئآت من الأسرى..الخ. او اضعاف الموقف التفاوضي الفلسطيني حول تنظيم عودة النازحين، وتحقيق انسحابات اضافية وتحصيل حقوقا فلسطينية أخرى كثيرة نصت عليها اتفاقات المرحلة الانتقالية.
واكدت التجربه ان انتهاء معركة صياغة الاتفاقات الاسرائيلية الفلسطينية تليها مباشرة معركة تثبيتها وتنفيذها، ودائما كانت الثانية أصعب وأقسى على الفلسطينيين. ويمكن الجزم سلفا ان اتفاق “شرم الشيخ” لن يشذ عن هذه القاعدة، وجاهل من يعتقد ان تنفيذه سيتم دون مشاكل وسيسير في خط مستقيم. واخطر ما سيواجهه المفاوض الفلسطيني في كانون الثاني القادم هو تلاعب باراك بتنفيذ النبضة الثالثة من الانسحاب التي تنقل 1،6% من الارض من “ب” و “ج” الى السيادة الفلسطينية الكاملة. ولن يعجز عن ايجاد الذرائع والمبررات لتعطيل تنفيذها، وسيصرعلى تاجيلها حتى منتصف شباط 2000 وربطها بالاتفاق على “صيغة اعلان مبادئ” الحل النهائي. ويمكن القول سلفا ان المتطرفين الاسرائيليين وطليعتهم المستوطنون لن يمرروا الاتفاق الجديد بسلام، ولن يترددوا عن ارتكاب الجرائم لتعطيل تنفيذه. والذين خططوا ونفذوا جريمة الحرم الابراهيمي وقتلوا رابين لن يتوانوا عن تنفيذ شعاراتهم المتطرفة وتهديداتهم التي رفعوها في انتخابات الكنيست التي جرت قبل بضع شهور. واتمنى ان لا تقدم المعارضة، وبخاصة حركتي حماس والجهاد الاسلامي، لباراك غطاء يستر به مواقفه الحقيقية الرافضة نقل مزيد من الاراضي للفلسطينيين قبل الاتفاق على حلول تنسجم مع استراتيجيته الامنية التوسعية لقضايا الحدود واللاجئين والاستيطان والقدس. وفي هذا السياق يجب القول بوضوح ان الجهة التي وقفت خلف عمليتي طبريا وحيفا الفاشلتين المشبوهتين تفتقر الى ادنى مستوى من الشعور بالمسئولية الوطنية اتجاه قضايا الشعب الفلسطيني، واخترقت المحرمات الوطنية باستخدامها في عملياتها ابناء من صمدوا في بيوتهم وفوق ارضهم نصف قرن.
الى ذلك فتح اتفاق شرم الشيخ باب معركة الحل النهائي على مصراعيه، وستكون قاسية وطويلة جدا. واذا كان لا افق للتوصل الى اي اتفاق حول اي من قضاياها الشائكة من الان وحتى ايلول القادم، والارجح لاشعار آخر غير معلوم، فنتائج الصراع الجاري واللاحق حول تنفيذ اتفاق “شرم الشيخ” وبقية قضايا المرحلة الانتقالية، وحول نصوص”اعلان المبادئ” سترسم ملامح نتائجها الرئيسية. ومن يرغب في المشاركة في مفاوضات الحل النهائي وينادي باعلان قيام الدولة الفلسطينية اليوم قبل الغد، ويصر على التمسك بقرارات الشرعية الدولية، عليه الانخراط مبكرا في هذا الصراع، والمساهمة في انتزاع اقصى ما يمكن انتزاعه من الحقوق الفلسطينية التي تضمنتها الاتفاقات المرحلية وآخرها اتفاق شرم الشيخ. وخير للشعب الفلسطيني ومستقبل قضيته الوطنية عدم التوصل الى اتفاق “اعلان مبادئ التسوية النهائية” فضفاض يكتنفه الغموض، من اتفاق يسهل على باراك التمترس خلف مواقفه ولاءاته الشهيرة المتعلقة بمستقبل القدس، والحدود، والعودة الى حدود حزيران 1967، والاستيطان، والامن ومياه الضفة الغربية، وعودة اللاجئين. وتجربة مدريد واتفاقات اوسلو وطابا والخليل وواي ريفر أكدت ان تأجيل البت بمسائل جوهرية أو فرعية لا يقود بالضرورة الى التنازل عنها أو ضياعها. ومسيرة العلاقات بين الطرفين أكدت ان صنع السلام الحقيقي القابل للحياة، ونجاح التدابير الامنية في مكافحة التطرف والارهاب لها مفاهيمها واستحقاقاتها المتبادلة، وبدون دفعها مقدما او متاخرة تتحول عملية السلام الجارية الى نوع من الهدنة الرجراجة او التسوية المؤقتة في أحسن الاحوال. وقدر الجيل الحالي من الفلسطينيين انتزاع ما يمكن انتزاعه من الحقوق الفلسطينية دون اقفال الطريق أمام الاجيال اللاحقة.