السلطة الفلسطينية بين مطرقة باراك وسنديان كلينتون
بقلم ممدوح نوفل في 22/10/1999
تعيش السلطة الفلسطينية وكل قوى المعارضة، هذه الايام، حالة عجز لا تحسد عليها، وتتعرض السلطة لضغوط داخلية وخارجية متنوعة نجحت في ارباكها، وعطلت قدرتها على تحديد مواقف واضحة من مسائل وطنية أساسية ملحة. فالمفاوضات مع الاسرائيليين حول قضايا المرحلتين النهائية والانتقالية الجوهرية مجمدة، ولا احد يعرف متى يتكرم باراك ويبعث فيها الحياة. وتنفيذ اتفاق شرم الشيخ يجري بصورة انتقائية مشوهة، وحسب تقديراته الشخصية وتوقيتاته الزمنية. الى ذلك لم يتوانى باراك عن توجيه لكمات قوية للسلطة الفلسطينية واحدة تلو الاخرى. آخرها الحديث عن اعتراضه على تركيبة الوفد الفلسطيني لمفاوضات الحل النهائي، ومنحه تعزيز الاستيطان في الضفة والقطاع أولوية، بعكس ما تعهد به لجمهوره الانتخابي “باعطاء أولية للتعليم وايجاد فرص عمل جديدة للعاطلين للعمل وليس للاستيطان”. ودخل مساومات ودية مع قادة المستوطنين حول مصير الارض الفلسطينية، وتجادل معهم بمحبة حول تنظم وجودهم بما يضمن “للاعزاء على قلبه” كما قال، بقائهم في مواقعهم، وصيانة أمنهم وامن مستوطناتهم الجديدة والقديمة. ومنحهم عن طيب خاطر ما يريدون وحققوا اهدافهم المباشرة وبعض أحلامهم التاريخية، ورسّم رغباتهم بقرارات حكومية رسمية. وكأن احتلاله للارض الفلسطينية يمنحه حق تملكها والتصرف بها.
الى ذلك بدأ ببحث مفهومه وتصوراته لحل قضايا الحل النهائي مع اركان حكومته، وقرر بدء التفاوض حول القضايا الاقتصادية، واجراء فصل اقتصادي وجسدي بين الجانبين حسب تصوره. وسمى وفده للمفاوضات الاقتصادية قبل تحديد وفده لاستكمال المفاوضات حول بقية القضايا الانتقالية. وقبل تسميه وفده المركزي لمفاوضات الحل النهائي، وضمنها العلاقات الاقتصادية والسياسية والامنية بين الطرفين. وكأن لا شريك له في المفاوضات، ولا وجود لعملية سلام، وجدول اعمالها مجهول ولا أسس تنظمها وتضبط حركتها. متجاهلا الاتفاقات التي توصل لها مع الفلسطينيين أخرها التي وقعها بقلمه في منتجع شرم الشيخ بحضور الوزيرة اولبرايت وعدد من زعماء المنطقة.
ومن طرف آخر تواصل الادارة الامريكية الاشادة بمواقف باراك وتضخم خطواته الجزئية مثل فتح ممر “الآمن” بين الضفة والقطاع، واطلاق سراح دفعتين من المعتقلين. ورغم ان شروطه التي فرضها جعلت الممر غير آمن الممر، وعدد من أطلق سراحهم اقل بكثير مما التزم به نتنياهو في واي ريفر، فأركان البيت الابيض اعتمدوها كمؤشرات على صدق نواياه والتزامه تنفيذ ما وقع عليه. وتغاضوا عن اعماله احادية الجانب المدمرة لمناخ السلام ولمكانة السلطة الفلسطينية داخليا وخارجيا. وساندوا طلبه استئناف مفاوضات متعددة الاطراف، وغطوا الطرف عن حالة عملية السلام المزرية على المسارات الاخرى. ويمارسون ضغوطا قوية على الاطراف العربية، وبخاصة مصر، لسحب تحفظاتها والتجاوب مع رغبة باراك. وتضغط ادارة كلينتون بقوة على الطرف الفلسطيني للصمت على خروقاته الفظة للاتفاقات، ومواقفه المتناقضة مع روح عملية السلام واهدافها. ونسيت الوزيرة اولبرايت قولها في رسالة الضمانات التي اعطتها للجانب الفلسطيني في شرم الشيخ، “الولايات المتحدة تدرك مدى تأثير وضرر النشاطات الاستيطانية على عملية السلام” وانه “من اجل انجاح المفاوضات لحل جميع القضايا العالقة “الانتقالية” والتوصل الى اتفاق الحل النهائي خلال سنة واحدة، من الضروري خلق بنية ملائمة لذلك..ويجب على كلا الطرفين عدم اتخاذ اي اجراءات احادية الجانب من شانها ان تقوض تلك البنية”.
ليس من شك بان قبول ادارة كلينتون بدور المسهل وليس الحكم، وصمتها على مواقف باراك احادية الجانب، وبخاصة اعطاؤه وضعا قانونيا لاكثر من30 مستوطنة جديدة، وتلاعبه بالتوقيتات الزمنية التي حددها اتفاق شرم الشيخ وتعطيله المفاوضات، يشير الى انها بدأت في اخرعهدها بتخفيض مستوى اهتمامها بعملية السلام على المسار الفلسطيني، لصالح العمل خلف الكواليس على استئناف المفاوضات على المسار السوري. ويعتقد اركانها ان تدخلا مباشرا من الرئيس كلينتون وقيامه بجولة مكوكية بين دمشق وتل ابيب كفيلة باختتام وجوده في البيت الابيض باحتفال كبير لتوقيع اتفاق سلام سوري اسرائيلي شبيه باتفاق كامب ديفيد. ومقتنعون تماما ان لا افق لاتفاق فلسطيني اسرائيلي جديد حول قضايا الحل النهائي خلال عام، وان تجديد التزام الدول المانحة تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وتحسين وضعها على الارض جزئيا وتدريجيا، وعقد لقاءات بين فترة واخرى مع قيادتها واسماعها كلاما جميلا، تكفي لشراء صمت السلطة على تخليهم عن تعهداتهم وضماناتهم السخية التي قدموها للفلسطينيين، ولادامة عملية السلام الى ما يشاء الله، وما شاء باراك.
وإذا كان تفعيل دور الادارة الامريكية باستقامة، وتحريك الموقف العربي الراكد والآسن، امورا خارجة عن إرادة القيادة الفلسطينية، فلا شك في ان صمود الموقف الفلسطيني بين المطرقة الاسرائيلية وسنديان الادارة الامريكية قدر لا مناص منه في هذه المرحلة العصيبة، وهذا ممكن اذا تم التحلي بصبر وعناد صاحب الحق في وجه جلاديه. وباتخاذ مواقف تفاوضية ثابتة، والصمود عند موقف محق خلاصته لا لاتفاقية الاطار التي يطلبها نتنياهو قبل الاتفاق على جدول زمني لتنفيذ قضايا الحل الانتقالي. فتأزيم مسيرة السلام على مسارها الفلسطيني، ورفع الصوت الفلسطيني الرافض علنا للموقف الامريكي المتواطئ مع باراك، ضرورات تفاوضية حيوية قبل انطلاق قطار السلام من جديد على المسارين السوري واللبناني. وضرورية لتفعيل دور دول اوروبا والامم المتحدة في معالجة القضية الفلسطينية، وتحريك الراي العام العالمي في مرحلة الانتخابات الامريكية. والضغط على ادارة الرئيس كلينتون لزيادة تدخلها على المسار الفلسطيني والوفاء بتعهداتها وترجمة رسائل ضماناتها بمواقف عملية قبل تحولها في نهاية عهدها الى “بطة عرجاء”. وقد تساهم في اخراج الوضع العربي والفلسطيني الرسمي والشعبي من سباته العميق الغارق فيه منذ مدة طويلة. ولا احد يستطيع اتهام الفلسطينيين بالتطرف، وتوريط العرب في مواجهة مع الادارة الامريكية اذا تمسكوا بكامل حقوقهم التي نصت عليها الاتفاقات وقرارات الشرعية الدولية.
ويخطئ من يعتقد ان زيارة دينس روس للمنطقة سوف تعيد الامور الى نصابها الصحيح و”تشيل الزير من البير”. وان لقاء كلينتون عرفات باراك في اوسلو مطلع شهر تشرين الثاني القادم لتخليد ذكرى رابين سيحدث تغييرا جوهريا في توجهات الادارة الامريكية وفي المواقف الاسرائيلية التي لمسناها منذ فوز باراك بالانتخابات. لا بل سيتعرض الطرف الفلسطيني هناك لضغوط امريكية وابتزازات اسرائيلية للدخول مباشرة في مفاوضات خاصة هدفها التوصل الى “اتفاقية اطار الحل النهائي”، التي يرغب بها باراك، او “اعلان مبادئ” يتضمن اسس هذا الحل، هلى ان ينجز كل ذلك قبل منتصف شباط القادم وقبل الاتفاق على استكمال تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية. وسينسى الطرفان الدروس الهامة المستخلصة من الصراع والتي أكدت ان الهروب اليوم من دفع الاستحقاقات الكبيرة يقود الى الاصطدام بها لاحقا. وان الحلول المفروضة لا تصنع سلاما دائما وتبقى جذور الصراع ومحركاته قائمة.
الى ذلك لا حاجة لذكاء خارق حتى يستنتج المرء ان لا افق لحل سريع الا اذا أذعن الفلسطينيون لمواقف باراك وقبلوا بتصوراته. ولا افق لتقدم جدي في المفاوضات الا اذا مررت القيادة الفلسطينية قراره الاخير بشان الاستيطان. وان استمرار الصمت الفلسطيني والعربي على الموقف الامريكي المنحاز لاسرائيل لا يساهم في تعديله، والخضوع لرغبات وضغوط ادارة كلينتون يعفييها من مسؤولياتها والتزاماتها. ونتيجة ذلك كله ستكون ضياع مزيد من الارض ومعها كل الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات المرحلية، وبخاصة جدولة “عودة النازحين، والانسحاب من كل اراضي الضفة والقطاع باستثناء الموستطنات والمواقع العسكرية”. وتغطية موقف النظام الرسمي العربي العاجز عن الحركة والفعل. وارباك الموقف الاوروبي المرتبك اصلا. وشل دور قوى السلام الاسرائيلية وتعزيز اطروحات القوى المتطرفة وتعبيد الطريق امام توجهاتها الاستعمارية التوسعية. ومنح باراك مداخل ومخارج واسعة لعدم الانسحاب في 20 كانون الثاني القادم من 6.1% من اراضي الضفة والقطاع ونقلها من السيطرة الاسرائيلية الكاملة الى السيادة الفلسطينية الدائمة.
ليس من شك ان البيانات والتصريحات النارية التي صدرت او قد تصدر عن أعلى المستويات الفلسطينية الرسمية والحزبية ضد قرار بارك تعزيز الاستيطان، هامة ومفيدة جدا، خاصة اذا صمد اصحابها عند مواقفهم. وتتضاعف قيمتها اذا صيغت في اوراق فلسطينية توزع على المعنيين بصنع السلام في المنطقة كموقف فلسطيني رسمي، وتحولت الى سياسية ثابتة تطرح في الاجتماعات والاتصالات الجارية بشان استئناف المفاوضات. وايضا اذا شمر الجميع عن سواعدهم لاسنادها بخطوات منتظمة وملموسة على الارض، وتحويل الفصل السياسي بين الشعبين، الذي ينادي به باراك، الى مكسب وطني فلسطيني يعجل فرض الاستقلال السياسي. وبديهي القول ان الاكتفاء بخوض معركة انتزاع الحقوق بالتصريحات وفي اطار اللقاءات والمفاوضات التي تعقد على اعلى المستويات وداخل غرف المفاوضات فقط لا تؤمن الظروف المطلوبة لكسبها. وجمود مواقف اطراف النظام السياسي الفلسطيني عند حدود القول ان كل المستوطنات القديمة والحديثة غير شرعية يكرس وجود الجديدة ويمتن اوضاع القديم. ولم اجد تفسيرا مقنعا لتقاعس السياسيين والمثقفين والفلاحين وجماعات حقوق الانسان والدفاع عن الارض عن الحركة ضد الاستيطان..!وحبذا لو يفسروا مواقفهم.