تكتيك باراك يواجه باستراتيجية تفاوضية واضحة وثابتة
بقلم ممدوح نوفل في 10/10/1999
بعد التوقيع على “بروتوكول شرم الشيخ” يوم 4/9/1999 إعتقد بعض أركان القيادة الفلسطينية بان تنفيذه سيسير في خط مستقيم، خاصة انه تضمن تواريخ محددة لتنفيذ كل بند من بنوده وشدد على الالتزام بها. حيث نص في آخر فقراته على ان “التعهدات التي تسري في التواريخ التي تصادف في الاعياد والعطل الرسمية تنفذ في أول يوم عمل يتلو ذلك”. لكن مجريات التنفيذ في “6 اسابيع من أصل20 أسبوع اكدت ان تثبيت تواريخ محددة لا يعني في قاموس باراك التزامه الدقيق والامين بها، حتى لو شهد عليها أكثر من زعيم عربي ورئيس أعظم دولة في العالم. فالاتفاق نص، بناء على اصرار، باراك في بنده الاول فقرة هـ بان “تستانف المباحثات حول التسوية الدائمة بعد تنفيذ المرحلة الاولى من الافراج عن الاسرى، والمرحلة الثانية من اعادة الانتشار الاول والثاني في موعد اقصاه 13 ايلول”. لكنه اكتفى بعقد جلسة احتفالية لهذ المباحثات منتصف الشهر الماضي عند حاجز ايرتز ولم يكررها، وللآن لم يبلغ الجانب الفلسطيني باسماء وفده المفاوض. ونص الاتفاق في فقرات البند الخاص بعمل اللجان على “تبدأ لجنة اعادة الانتشار الثالث “المؤجل من اوسلو 2″ عملها في13 أيلول 1999″. و”لجنة الاشراف والتوجيه وكل اللجان المرحلية مثل “لجنة الشؤن المدنية، اللجنة الاقتصادية المشتركة، اللجنة المشتركة لشؤون الامن، اللجنة القانونية، واللجنة الدائمة للتعاون الامني، وكذلك اللجان التي حددت في مذكرة واي ريفر، تستانف كلها او تواصل عملها في موعد اقصاه 13 ايلول 1999″. و”تستانف اللجنة الحالية لموضوع اللاجئين عملها في ا تشرين اول 1999″. الا ان باراك لم يشكل حتى الان اي من هذه اللجان، ولم يحدد موعدا زمنيا للانتهاء من تشكيلها او لانطلاق أعمالها.
وبعد مرور قرابة شهر على خرق التواريخ المذكورة اعلاه، وتلاعبه بالتنفيذ، من حق وواجب القيادة الفلسطينية التشكيك في صدقية كلام باراك وأركان حزب العمل حول الحرص على تحقيق تقدم سريع في عملية السلام، والتوصل الى “اتفاق اطار” قبل منتصف شباط القادم، وحل قضايا الحل النهائي خلال عام. ونقله في الاسبوع الاول من ايلول الماضي وضعية 7% من الارض من” C الى B ” بعد ان قضم بعضها، والاتفاق على فتح “الممر الآمن الجنوبي” بين الضفة والقطاع، واطلاقه سراح 199معتقلا بدلا عن 200 في الموعد المحدد لذلك، واحتمال اطلاقه الدفعة الثانية “150” من المعتقلين في الايام القادمة، لا تمس دقة هذا الاستخلاص، ولا تقلل من ضرورات تدخل الرعاة والشهود قبل انهيار الثقة الهشة التي ظهرت بين الطرفين بعد اتفاق شرم الشيخ وما تلاه من لقاءات ثنائية.
الى ذلك بينت قرارات بارك بمصادرة مساحات واسعة من الارض والحفاظ على البؤر الاستيطانية التي تمت اشادتها في مرحلة التحضير للانتخابات، وقراره ببناء ما يزيد 2500 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات، ان موقفه من الاستيطان يختلف نوعيا عن موقف معلمه ومكتشفه رابين الذي كان يميز بين الاستيطان الامني والاستيطان السياسي. ويتقاطع مع موقف شارون وحزب المفدال وانصار فرض حقائق ورسم حدود جديدة على الارض يصعب تجاوزها. وساذج من يصدق ان تركيبة حكومته لا تسمح له راهنا الدخول في مواجهة مع المستوطنين وانصارهم، أو ان كثرة أيام الاعياد اليهودية في الاسابيع الاخيرة حالت دون تفعيل اللجان المذكورة اعلاه. والقراءة الصحيحة لافكار باراك قبل الانتخابات، وموقفه العملي من الاستيطان ومن تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، بعد انقضاء ثلث الفترة الزمنية المحددة له، تبين ثلاث حقائق رئيسية: الاولى، انه يتعامل مع القيادة الفلسطينية باستهتار كبير، وان أولوياته لا تتضمن تعزيز اجراءات بناء الثقة معها. ومنطلقه يقوم على ان م ت ف ضعيفة ولاحول ولا قوة لها، ومجبرة غدا على قبول ما ترفضه اليوم، بما ذلك تعديلات اللحظة الاخيرة التي يجريها على اتفاقات وقعها شخصيا معهم. خاصة اذا تم حصر المفاوضات والعلاقات في اطار ثنائي فلسطيني اسرائيلي، وتم شل التدخل الخارجي الامريكي والعربي. ونجاحه في فتح اتفاق شرم الشيخ وتلاعبه بتنفيذ الانسحاب الاخير، وباطلاق سراح المعتقلين، كرست عنده مثل هذه القناعة، وتشجعه المضي قدما على هداها لاحقا.
والحقيقة الثانية، هي ان تكتيك باراك مع الجانب الفلسطيني ينطلق من مفهوم التشعب في المفاوضات وخلط قضاياها، واطالة المدى الزمني للانسحابات من الارض، الامر الذي يمكّنه من استمرار التحكم في ايقاع العملية كلها. ويعتقد ان اطالة امد الانسحابات يمثل قيدا على حرية حركة الطرف الفلسطيني، ويحد من قدرته على تحدي الاطروحات الاسرائيلية او معارضة خروقاتها للاتفاقات، حرصا منه على الحصول على قطع اضافية من الارض. الى ذلك سيحاول باراك مقايضة النبضة الاخيرة من الانسحاب من 6.1% من الارض المقررة في 20 كانون الثاني القادم بالتوصل الى اتفاق اطار للحل الدائم يضمن له مرحلتها وتجزأة قضاياها. ويعتقد باراك ان الطرف الفلسطيني لم يعد بمقدوره التوقف في منتصف الطريق بعد ان قدم اوراق كثيرة هامة في معادلة الارض مقابل السلام. والحقيقة الثالثة هي ان عينه كانت ولا تزال تحن للقاء بالرئيس الاسد، والتوصل معه الى اتفاق شامل ودائم حول الانسحاب من الجولان، واخراج الجيش الاسرائيلي من ورطته في جنوب لبنان. ويرى في مثل هذا اللقاء والاتفاق ما يرفعه الى مستوى عظماء اسرائيل. وأظن ان ما يصله من تقارير استخبارية حول الاوضاع في سوريا، وكيل المديح الامريكي والاوروبي والعربي عامة له والسوري خاصة، بعد فوزه في الانتخابات، خلق انطباعا عنده وعند مستشاريه ان تعليق “وسام العظماء” على صدره بات قاب قوسين او ادنى، وان القيادة السورية ناضجة لاستئناف المفاوضات والتوصل الى اتفاق لا يتضمن جميع ما عرضه رابين.
اعتقد ان مرور اكثر من مئة يوم على تولي باراك زمام السلطة في اسرائيل وانقضاء ثلث الفترة الزمنية المحددة لتنفيذ اتفاق شرم الشيخ كافية للانهاء حالة التذبذب في قراءة افكار باراك ورؤية مستقبل المفاوضات على المسار الفلسطيني في عهده. ويجب ان تكون كافية للقيادة الفلسطينية لاعادة النظر في تكتيك التفاوض الذي اتبع حتى الان، والذي بني على اساس غض الطرف عن التجاوزات الاسرائيلية للاتفاقات مقابل انتزاع مكاسب جديدة وبخاصة انسحابها من مساحات اضافية من الارض. ويتطلب ايضا رسم استراتيجية تفاوضية ثابتة عمادها: اولا/ تحويل مسألة مواصلة التوسع في الاستيطان في الاراضي الفلسطينية الى عقبة حقيقية امام امكانية خلق مناخ ثقة بين الطرفين. والتمترس عند ضرورة وقفه وقفا شاملا، وازالة البؤر الاستيطانية الجديدة، التي اقيمت في فترة التحضير للانتخابات الاسرائيلية، قبل بحث اي من القضايا المطروحة على جدول اعمال مفاوضات الحل النهائي. والثبات عند هذا الموقف حتى لو ادى الى خلق ازمة جدية في المفاوضات وفي العلاقات الثنائية. ولا بد من دعم هذا الموقف باعادة بعث الحياة في قرار القيادة الفلسطينية مقاطعة منتوجات المستوطنات وتحريم العمل الفلسطيني فيها، وبوضع آلية تنظيمية ونضالية شعبية وقانونية تعطي القرار مضامين عملية ملموسة. الى ذلك يبقى صمت القوى الوطنية الفلسطينية واستكانتها امام الهجمة الاستيطانية المتواصلة وصمة عار تاريخية معلقة بجانب اسمائها كلها. ثانيا/ منح اولوية مطلقة في اللقاءات غير الرسمية والمفاوضات الرسمية لمسألة استكمال جدولة تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية، وبخاصة الاتفاق على جدول زمني محدد لعودة النازحين الذي ارغموا على الرحيل من ديارهم عام 1967، وبرمجة الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق طابا الذي يتضمن الانسحاب من كل اراضي الضفة والقطاع “باستثناء المستوطنات والمواقع العسكرية”. واذا كان باراك يعتقد ان بامكانه مساومة الفلسطينيين في شهر شباط القادم على نقل6.1% مقابل التوصل الى “اتفاق الاطار لحل قضايا الحل النهائي” فقاعدة المساومة من وجهة النظر الفلسطينية يجب ان تنطلق من مدى جديته في التوصل الى اتفاق ملزم بشان هذين الاستحقاقين الكبيرين الهامين للفلسطينيين ولنجاح عملية السلام. وايضا استكمال اطلاق سراح المعتقلين الذين اعتقلوا قبل اوسلو، ولعل مفيد تذكير بيريز وبيلين ورامون بوعودهم وتعهداتهم الشفوية القديمة بشان اطلاق سراحهم.
ثالثا / التمسك بحزم بقرارات الشرعية الدولية الصادرة قديما وحديثا عن مجلس الامن والجمعية العامة باعتبارها المرجعية الاساسية والوحيدة لمعالجة قضايا القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والمياه. ورفض تجزأتها عن بعضها البعض او مرحلة كل واحدة منها كما يفكر باراك. واذا كان من حق الجانب الفلسطيني مطالبة الدول المضيفة للاجئين “الاردن ولبنان وسوريا ومصر” عدم منازعته على التفرد ببحث قضاياهم فوق طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين، فمن واجبه ايضا التشاور المسبق معهم جميعا، وصياغة موقفه التفاوضي بشأنهما بما يضمن مصالحهم وحقوقهم التي نشات عن استضافتهم نصف قرن. والشيء ذاته ينطبق على المسائل المشتركة مثل الامن والمياه والحدود.
اعتقد ان تكتيك باراك وتوجهاته الاستراتيجية ستقود في الاسابيع القليلة القادمة بالمفاوضات مع الفلسطينيين الى أزمة حقيقية وكبيرة يصعب تجنب وقوعها. وخروج الفلسطينيين منها دون خسائر يفرض على قيادتهم وقواهم الوطنية تحضير الاوضاع الداخلية لمواجهتها. وتنشيط دور الراعي الامريكي والقوى الدولية المعنية بتقدم عملية السلام واستقرار المنطقة، ودفعها نحو كسرالحظر الذي فرضه باراك على دورها المباشر في المفاوضات. الى ذلك لا بد من تبديد شكوك القوى الشعبية الفلسطينية والعربية والدولية حول وجود مفاوضات خلفية سرية شبيهة بمفاوضات اوسلو. فوضوح الموقف وثباته عنصر حاسما في حشد الطاقات الذاتية واستدراج تدخلات خارجية، وغموضه واهتزازه يقودان الى خسائر كبيرة أيضا.