هل يمكن التوفيق بين متطلبات امن اسرائيل والسيادة الفلسطينية ؟؟ ح 3
بقلم ممدوح نوفل في 06/11/1999
في الحلقتين السابقتين ظهر جليا ان لا افق لتوصل قيادة م ت ف والسلطة الى اي اتفاق الفلسطينية مع حكومة باراك خلال عام حول قضيتي الامن والحدود. واذا تمكنا في القمة الثلاثية المقررة مطلع شباط 2000 من وضع اطار مبادئ لمسائل الامن فالارجح ان يفشلا في تثبيت اطار للحدود. الى ذلك سيصطدم المفاوض الفلسطيني في كل لجان التفاوض حول قضايا الحل النهائي بهما. ومصالحهما والتزاماتهما العلنية ستحول دون توصلهما الى مبادئ عامة لحل قضايا القدس والاستيطان واللاجئين:
فالقدس، في نظر جميع الأحزاب والقوى الاسرائيلية ستبقى عاصمة اسرائيل الموحدة الى الابد. وترفض التجاوب مع تطلعات الفلسطينيين بأن تبقى مدينة وعاصمة للدولتين مفتوحة امام الجميع. واذا كانت تطلعات الفلسطينيين نحو تحقيق حقوقهم في القدس المحتلة عام 1967، كما اقرتها قرارات الشرعية الدولية 452و485، تمس من وجهة النظر الاسرائيلية بأمن القومي لدولة اسرائيل وبسيادتها على عاصمتها، فليس عاقلاً من يتصور أن الشعب الفلسطيني وقيادته وكل أحزابة وهيئات م.ت.ف مستعدة أو بامكانها منفردة أو مجتمعة وفقا القبول برؤية باراك واقتراحاته والتنازل عن الحقوق الفلسطينية في هذه المدينة المقدسة، والقبول بصنع قدس جديدة في”ضاحية ابوديس”. فلا قيمة لدولة فلسطينية اذا لم تكن القدس المحتلة وقلبها المدينة القديمة عاصمتها، ولا معنى للسيادة الفلسطينية اذا لم تشمل احيائها العربية، وبدون ذلك يبقى الامن القومي الفلسطيني منتهكا. الى ذلك تبقى الافكار والاقتراحات التي يجري تداولها بشان توسيع المدينة وتقسيم خدماتها المدنية بين بلدتين شرقية وغربية يجمعهما مجلس بلدي موحد لا تلبي تطلعات الفلسطينيين السياسية والروحية في القدس ولا تحل مشكلتها المعقدة.
ودون خشية التعرض لتهمة التسرع، وسوء التقدير يمكن القول بثقة ان لا أفق لأي تبدل نوعي مواقف الطرفين من الآن وحتى نهاية عام 2000، ولن يكون سهلا على الراعي الأمريكي تقديم مقترحات يقبلها الطرفان. واذا كان لا لزوم للاسترسال في الحديث عن تاريخ المنطقة وارتباطه بتاريخ مدينة القدس، فالمؤكد ان لا امن ولا استقرار في المنطقة اذا لم تستقر اوضاعها. والتاريخ يشير الى ان إضطراب وضع هذه المدينة المقدسة أدى دوماً الى إضطراب محيطها العربي والاسلامي. وكل من يراجع تاريخ البحث عن السلام العربي ـ الاسرائيلي خلال نصف قرن يكتشف عدد المحاولات التي تعطل فيها البحث بسبب قضية القدس. فمستقبل القدس كاد ينسف مفاوضات واتفاقات كامب ديفيد. ومباحثات الحكم الذاتي بين مصر واسرائيل عام 78-81 تعطلت وكانت القدس سبباً رئيسياً في التعطيل. والأمر سوي مؤقتاً بين الطرفين عبر رسائل أرفقت بالاتفاقات وأودعت عند الادارة الأمريكية، حيث كتب السادات في حينه رسالة للشريك الأمريكي قال فيها “إن مصر تعتبر القدس العربية جزء من أراضي الضفة الغربية المحتلة وأن ما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق عليها”. ورد بيغن في رسالة قال فيها ” قرار الكنيست الاسرائيلي بتاريخ 28 حزيران 67 نص على أن القدس عاصمة دولة اسرائيل وأنها مدينة موحدة وغير قابلة للتقسيم”. ورد كارتر وقال “موقف الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة القدس باق على ما هو ولا يعترف بضمها لإسرائيل”.
اللاجئون: لا خلاف بين اطراف الصراع والقوى الراعية والمساندة لعملية السلام على ان قضية اللاجئين الذين طردوا من ديارهم عام 47-48 هي جوهر ولب ما اصطلح على تسميته دوليا بالقضية الفلسطينية. والتمعن في مصالح الطرفين ومواقفهما من حلها نجدها متباينة ومتناقضة. فحكومة باراك وكل الأحزاب الإسرائيلية اليمينية واليسارية ترفض بالمطلق حقهم في العودة الى ارضهم وممتلكاتهم وتعتبرعودتهم انتحار محتم وتغيير لهوية اسرائيل. وترفض عودتهم الى الضفة والقطاع وتعتبرها خطر على امن اسرائيل. وتعتبر تعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم قضية دولية، وتربط تعويضهم بتعويض المهاجرين اليهود من الدول العربية.
الى ذلك يتمسك اللاجئون بقرارات الشرعية الدولية التي تنمحهم حق العودة والتعويض. ولا تستطيع أية قيادة فلسطينية إلزام اللاجئين بحلول لا ترضيهم، خاصة وان قضيتهم تنبثق من حقوق فردية يصعب تقريرها بمعزل عن موافقتهم، وبدون حلول مقنعة تلبي مطالبهم وتعيد لهم بعض حقوقهم. خاصة وأنهم مبعثرين في دول عربية متعددة، ولا يخضعون لسلطة السلطة الفلسطينية. ويمكن الجزم سلفا ان لا أفق لأي إتفاق حول موضوع اللاجئين قبل ايلول 2000، وان التفاوض حول قضيتهم سيستغرق سنين طويلة، خاصة وانه من غير المرئي توفر قدرة لدى اي من الطرفين على تغيير موقفه، او اقناع اللاجئين بتغيير مواقفهم. وبديهي القول ان لا حل للصراع ولا امن لاسرائيل ولا استقرار دائم في المنطقة، اذا لم تحل قضيتهم. والتجربة اكدت ان معالجة قضيتهم بالمسكنات ابقت النار نصف قرن متقدة تحت الرماد. ومحاولة فرض حلول غير عادلة وغير مقنعة يخلق شرخا عميقا في صفوف الشعب والمنظمة ويخلق ظروفا مواتية لانبعاث “حزب العودة ” ولو بعد زمن طويل.
الاستيطان: أما بشأن الاستيطان بشرا ومنشأءات، فالفلسطينيون يتمسكون بقرارات الامم المتحدة الكثيرة التي تعتبره غير شرعي ويجب زواله مع زوال الاحتلال، باعتباره من صناعته واحد أدواته ومرتكزاته التي تحول مناطق الضفة الغربية الى تجمعات سكانية معزولة عن بعضها البعض، وتقضي على وحدة الأرض وتقطع أوصال الدولة الفلسطينية المنشودة وتقوض سيادتها.
والتدقيق بمواقف القوى الإسرائيلية من الإستيطان يؤكد أن التباين بينها لا يمس مبدأ وجوده، ويتمحور حول عدد المستوطنات ومواقع إنتشارها. فحزب العمل في عهد باراك يعتبر بعضها ضرورة أمنية لا غنى عنها، وضرورية لتوسيع حدود دولة اسرائيل وللدفاع عن امن اسرائيل العام، وللسيطرة على خزانات المياه الجوفية في الضفة الغربية. ويطالب بتجميعها في ثلاث نقاط استيطانية كبيرة تحتل مساحة واسعة من اراضي الضفة الغربية والقطاع ويصر على ضمها الى اسرائيل ويرفض اخضاعها للسيادة الفلسطينية. الى ذلك تراجعت حكومة باراك العمالية عن تصنيف رابين للاستيطان بين استيطاني امني حيوي لامن اسرائيل وآخر سياسي يمكن الاستغناء عنه. وقراراتها الاخيرة التي اضفت صفة قانونية على اكثر من 30 بؤرة استيطانية جديدة مؤشرعلى توجهات تزيل عمليا الفروق بين العمل وقوى اليمين التي تولي الاستيطان نفس الاهمية الامنية، وتنظر له باعتباره تكريس للوجود الابدي في الارض التي منحها الرب لبني إسرائيل للابد.
الى ذلك تدرك القيادة الفلسطينية ان بقاء الاستيطان يجرد الدولة الفلسطينية من سيادتها على اجزاء واسعة من اراضيها. واقتراح بعض رموز اليسار تجميع المستوطنين في عدد محدود من الكتل الاستيطانية لا يغير في الامر شيء. صحيح ان الادارة الامريكية لا تزال تعتبر الاستيطان غير شرعي، لكنها لم تطرح تصورها لحل عملي. ولا شك في ان نموذج يميت في سيناء، والاتفاق السوري الاسرائيلي القادم حول مصير الاستيطان في الجولان تمثل نماذج يمكن للمفاوض الفلسطيني الاسترشاد بها. وإذا كان الاستيطان قد عقد مفاوضات المرحلة الانتقالية، ووتر العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية في اكثر من محطة، فلا شك بانه عقبة كبيرة وحجر عثرة في طريق تقدمها نحو الحل النهائي. ولن يستطيع الطرفان التوصل الى إتفاق مبادئ لحل نهائي حول الاستيطان ومستقبله حتى شباط القادم، وطالما بقي حزب العمل يعتبره ضرورة لأمن اسرائيل وتوسيع حدودها، ويرفضون اخضاع المستوطنيين للسيادة الفلسطينية او ترحيلهم الى داخل اسرائيل.
بعد هذا العرض المكثف لمواقف الطرفين من قضايا الحل النهائي يبرز على سطح مفاوضات الحل النهائي سؤال جوهري؛ هل يمكن التوفيق بين متطلبات امن اسرائيل والسيادة الفلسطينية ؟ في سياق البحث عن جواب واقعي يمكن تثبيت:
اولا/ اكدت وقائع الحياة ان الاتفاقات العربية الاسرائيلية احدثت ثغرات واسعة في جدار الامن الاسرائيلي، وغيرت جزئيا مزاج الشارع الاسرائيلي تجاه الامن والعلاقة مع العرب والفلسطينيين، لكنها لم ترقى لمستوى تحرير مفهوم الامن من تأثيرات الايدلوجيا الغيبية، ولم ترقى لمستوى التاثير في القرار السياسي الامني الرسمي. ولم تقتنع القيادة الاسرائيلية ان صنع السلام مع العرب يفرض تجريد الامن القومي من الايدلوجيا والتوسع والهيمنة.
ثانيا/ اطروحة باراك الجديدة بشأن اقامة دولة فلسطينية على اراضي غزة الخاضعة حاليا للسيطرة الفلسطينية ومعها 18% من اراضي الضفة الغربية، تمثل الحد الادنى الذي سيطرح على طاولة المفاوضات. وتشير الى تصميمه على مرحلة الحل النهائي وتجزءته. اي تمديد المرحلة الانتقالية، والهروب من الدخول في بحث جدي لحل التناقض بين الامن الاسرائيلي والسيادة الفلسطينية. مقابل اقامة “دولة فلسطينية” مجردة من مقومات السيادة.
ثالثا/ تسليم باراك بمبدأ قيام “دولة فلسطينية” مجردة من مقومات السيادة يفسح المجال لتدخل امريكي ودولي اوسع لحل التناقض، ويعزز تمسك الفلسطينيين بدولة مستقلة ذات سيادة. ويفرض على الفكر الفلسطيني ان يكون خلاقا ويقدم مقترحات تزود مواقفه المبدئية بروح عملية، تقنع اوسع قطاع من الشعب الاسرائيلي ان الامن الاسرائيلي يمكن تأمينه باتفاقات ملزمة بين دولة فلسطينية ذات سيادة وحكومة اسرائيل. ويمكن للدولة الفلسطينية ابداء استعدادها لتوقيع كل صنوف الاتفاقات التي لا تمس بسيادتها على الارض والحدود.
رابعا/ التدقيق في مصالح الطرفين ومواقفهما يشير الى ان ليس بامكانهما وحدهما حل هذا التناقض ولا بد من تدخل طرف ثالث. واعتقد ان طرح الادارة الامريكية او مجلس الامن صفقة متكاملة يمكنها تقريب مواقف الطرفين، وتقصير طريق الآلام الذي يسير فيه الفلسطينيون والاسرائيليون، خاصة اذا تضمنت انسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلت عام 1967 وقيام دولة فلسطينية، مقابل ضمان امن اسرائيل واعتراف عربي بها.
خامسا/ بصرف النظر عن موقف حكومة باراك فالامن الفلسطيني كان ولا يزال جزء لا يتجزء من الامن القومي العربي الشامل. وبحكم التماس في الحدود يتشابك عمليا مع الامن القومي المصري والاردني والسوري، وليس في صالح الفلسطينيين التوصل الى اتفاقات فلسطينية اسرائيلية حول الحدود والامن دون تفاهم مسبق مع هذه الدول والشيء ذاته ينطبق على حل مشكلة النازحين والحقوق العربية في المياه.
الى ذلك كله ليس من شك ان موازين القوى عامل حاسم في حل هذا النوع من التناقض. ولا يمكن الحديث عن سيادة فلسطينية كاملة طالما ان ميزان القوى محليا واقليميا ودوليا مختل لصالح لاسرائيل. وطالما ان اسرائيل ترفض تكييف مفاهيمها ومتطلباتها الامنية للقوانين والاعراف الدولية. وتتصرف بأريحية مع قرارات الشرعية الدولية، تطبق ما تريد وترفض ما تريد ولا تجد من يردعها. وأظن أن الاعلان عن قيام دولة الفلسطينية على الارض، خطوة ضرورية لاغنى لمواجهة الموقف الاسرائيلي وانهاء المرحلة الانتقالية وتحسين اسس التفاوض وافتتاح مرحلة جديدة من النضال من اجل انتزاع السيادة على كل اراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. والواضح ان اصرار القيادة الاسرائيلية على مفاهيمها الامنية سيطيل أمد الصراع في المنطقة ويجعل طريق تطور”الكيان الفلسطيني” إلى دولة مستقلة ذات سيادة طريقا شاقا ومؤلما. والامن في هذا الصراع ورقة قوية بيد الفلسطينيين اذا اجادوا استخدامها. واذا كانت شروط المرحلة الانتقالية المجحفة تسببت في تشويه مفهوم الامن الوطني الفلسطيني ودور اجهزته، فانطلاق مفاوضات الحل النهائي مناسبة لتصحيح المفهوم وتحسين الصورة. وفي كل الظروف والاحوال يجب ادراج مهمة الدفاع عن امن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وعن ارضه في قمة اولويات السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية في هذه المرحلة الحاسمة من الصراع.