أزمة المفاوضات السورية الاسرائيلية تكتيكية عابرة
بقلم ممدوح نوفل في 25/01/2000
بعد اقل من شهر على استئنافها، دخلت المفاوضات السورية الاسرائيلية ازمة تبدو للبعض كبيرة. فقبل توجه رئيس السلطة الفلسطينية الى واشنطن لبحث اوضاع المفاوضات على المسار الفلسطيني مع الرئيس كلينتون واركانه، اعلنت القيادة السورية تأجيل سفر وفدها للجولة الثالثة من المفاوضات. واشترطت استئنافها على ذات المستوى العالي الذي بدأت به بالتزام الحكومة الاسرائيلية بالانسحاب من الاراضي السورية المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران 1967. وربط بعض اوساط السلطة بين تاجيل سفر الوفد السوري وسفر الوفد الفلسطيني. الى ذلك جاء رد باراك على الاعلان السوري هادئ وقال “سندرس الموقف عندما تغير سوريا موقفها. اسرائيل لا تخضع للابتزاز، والسلام حاجة مشتركة ولن نرضخ للشروط المسبقة”. فهل الموقف السوري الجديد يبدد فرصة توصل الطرفين الى اتفاق ينهي نزاعهما المزمن، ام ان الازمة تكتيكية وسيتم تجاوزها بسرعة، وموقف القيادة السورية يساعد في تفعيل دور الشريك الامريكي، ويسرّع وصول الطرفين الى اتفاق شامل “في غضون الشهرين المقبلين” كما تعهدا للرئيس كلينتون ؟
بديهي القول انه لا يمكن للسوريين والاسرائيليين التوصل بيسر وسهولة الى اتفاق مقدر له احداث تغيير نوعي في اوضاع المنطقة لسنوات طويلة، دون وقوع ازمات كبيرة وصدمات قوية هدفها تحسين المواقف وتحضير الراي العام لاستقبال الحدث الكبيرة. ويخطئ من يعتقد ان نشر الصحافة الاسرائيلية “مسودة معاهدة السلام” التي تقدم بها الرئيس كلينتون في الجولة الثانية من المفاوضات تم بفعل تسريب فضولي قام به احد اعضاء الوفد الاسرائيلي. فالتسريب مقصود وتم بمعرفة باراك لاظهار ما حققه في مجال الامن وتطبيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والسياحية، وتهيئة الجمهور الاسرائيلي لتقبل الاتفاق والتصويت لصالحه في الاستفتاء الذي التزم باجراءه. ورد القيادة السورية على التسريب بالاصرار على التأجيل يتضمن محاولة نفي تهمة التسرع في ابداء تفهم مطالب اسرائيل بتطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والسياحية، والتجاوب مع مفاهيمها الامنية قبل حسم مسألة الانسحاب من الجولان. والتأزيم المدروس كما هو حاصل لا يتعارض مع دور الراعي الامريكي، بل يعززه كشريك مبادر. والمطلوب حسب وجهة نظره عودة الطرفين الى شيفردز تاون بقرارات سياسية حاسمة، وبخاصة حول انسحاب الجيش الاسرائيلي الى حدود 4 حزيران كما تطالب سوريا، بعد ان وافقت على معظم تفاصيل تطبيع العلاقات التي طلبها باراك.
في كل الاحوال يمكن القول ان الازمة التي عبرتها المفاوضات السورية الاسرائيلية ازمة عابرة سيتم تجاوزها بسرعة، وتختلف عن الازمات السابقة التي مرت بها في مرحلة اتفاق اوسلو عام 1993 وفي فترة حكم نتنياهو 96ـ99. فالطرفان توجها هذه المرة الى شبردز تاون ومعهما، لاعتبارات متعددة ومتنوعة، قرارات استراتيجية بحل نزاعهما المزمن حلا نهائيا وشاملا، ودفع ثمن السلام حتى لو كان مؤلما وقاسيا كما وصفه باراك.
والهبات الساخنة والباردة التي هبت وستهب لاحقا على الصحافة ووكالات الانباء لا تغير حقيقة ان الطرفين دخلا المفاوضات وليس باستطاعتهما، لاعتبارات داخلية وخارجية كثيرة، تفجيرها والخروج منها دون اتفاق. لاسيما وان حسابات الطرفين تبين ان فوائدة وارباحه كبيرة وتفوق بما لا يقاس خسائره. واذا كانت مصالحهما الاستراتيجية والمباشرة ضغطت باتجاه استئناف مفاوضات، ورغبتهما المتبادلة في الوصول الى اتفاق دفعتهما لقبول قيام الراعي الامريكي بدور الشريك الذي يملك زمام المبادرة، فهي تضغط الان بقوة اكبر لاستمرارها، ومصالح ادارة الرئيس كلينتون تضغط على الطرفين، وعامل الزمن يضغط على الاطراف الثلاث بقوة، لجهة ضمان تحقيق نتائج ملموسة خلال اقصر فترة زمنية ممكنة، وتحديدا قبل ارتفاع درجة حرارة الانتخابات الامريكية منتصف العام القادم.
وتؤكد مجريات مفاوضات الجولة الاولى والثانية ونتائجها الاولية، كما وردت في “ملخص كلينتون”، تجاوز الطرفين خلال اسبوعين فقط من المفاوضات المباشرة المكثفة، مرحلة جس النبض، ودخلا بناء على ما تحقق في البحث عن حلول وسط، وحققا تقدما ملموسا في معالجة المسائل الاجرائية، وجوانب عديدة من القضايا الجوهرية وبخاصة في مجال تطبيع العلاقات الثنائية والترتيبات الامنية المشتركة. وما حققاه في جولتين يوفر لكل طرف تحقيق الحدود الدنيا من اهدافه الوطنية، ويؤسس لتقدم اسرع واشمل واهم ويؤهلهما وصول صفقة متكاملة ينتج عنها “اتفاقية سلام” او “اعلان مبادئ” تفصيلي وموسع يكون مرشدا لعلاقاتهما المستقبلية، وينقلها من حالة الحرب الى حالة جديدة من السلام. خاصة بعد اعتمادهما رسميا “ملخص كلينتون”، قاعدة لعمل اللجان الاربع الاساسية، ومستمران في التفاعل ايجابا مع مبادراته ومع الدورالمحوري المكثف الذي يقوم به. الى ذلك سيكون مع الاتفاق السوري او بعده، وليس قبله، اتفاق لبناني اسرائيلي شامل. ينهي نزاع البلدين، بصرف النظر عن رأي القوى الوطنية اللبنانية، حول كافة القضايا الثنائية. ويطبع رسميا علاقاتهما الثنائية، ويغلق ملف الصراع في جنوب لبنان، وينهي مبررات وجود الحزام الامني الذي انشأته اسرائيل، ويعالج ظاهرة انطوان لحد لجهة استيعاب قواته وطواقمه الاساسية من قبل الطرفين.
واي تكن نصوص الاتفاق السوري وملحقه اللبناني فالمؤكد انه سيخلق عددا من الحقائق الجديدة في المنطقة تظهر مباشرة على سطح العلاقات العربية العربية، والعربية الاسرائيلية. ابرزها تعزيز توجه شعوب المنطقة نحو نبذ الحروب واعتماد لغة الحوار سبيلا وحيدا لحل صراعاتهم المزمنة. وتزويد عملية السلام التي بدأت في مدريد عام1991 بقوة دفع اضافية تكفي لمواصلة تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي والعربي في السنوات القادمة. وتدفع بالسياسات التوسعية والمعتقدات الايديولوجية الغيبية المثالية تدريجيا للوراء، تاركة لمن يشاء من الجانبين الاحتفاظ بها في أعماق ضميره.
وبتوصل الاطراف الثلاث لبنان سوريا اسرائيل الى اتفاقاتهم تستكمل اسرائيل اتفاقاتها مع “دول الطوق”، ويغلق ملف النزاع السوري الاسرائيلي “حول الوجود والحدود” ويفتح ملف جديد لعلاقات سلمية، شبيهة بالسائدة مع مصر والاردن. وقد تشهد المنطقة تسارعا في انفتاح مزيد من الدول العربية دبلوماسيا واقتصاديا على اسرائيل. وستحصل اسرائيل على مطلبها بتفعيل مفاوضات متعددة الاطراف، وبعث الحياة في المؤتمر الاقتصادي الشرق اوسطي. وقد نشهد “بدء حوار بين الحضارات، وبدء منافسة مشرفة في مجالات متنوعة سياسية وثقافية وعملية واقتصادية” كما قال الوزير الشرع في خطابه، حيث ركز على قضايا سوريا الاقليمية فقط، وقفز كلية عن مكونات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومصير “قضية العرب الاولى”.
وبصرف النظر عن النتائج البعيدة للاتفاق السوري الاسرائيلي فقد نجح قبل ولادته في ارباك مواقف عدد من القوى السياسية والمثقفين العرب، وبادر بعضهم الى تخفيف حدة معارضته لعملية السلام ووقع تبدل نوعي في علاقة حركة حماس بالحكومة الاردنية وجهته سلبية، وتأثرت علاقة اركان مكتبها السياسي في الخارج بقيادتها في الداخل، وبقيادة حركة الاخوان المسلمين في الاردن. وسارع آخرون في المعارضة، دون مراجعة جريئة وشاملة، لاعادة النظر بعلاقتهم بالسلطة لجهة تطبيعها، وبموقفهم من الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية لجهة التعامل بها كامر واقع. واوقفوا مطالبتهم بالغاءها كشرط للعمل المشترك، وراحوا يبحثون في سبل قيامهم بدورهم الوطني ضمن اطار مؤسسات منظمة التحرير.
وأظن ان الاتفاق السوري الاسرائيلي القادم، ولاحقا اللبناني، سيحركان بقوة وبشكل دراماتيكي الاوضاع والعلاقات داخل اسرائيل وفي عدد من دول المنطقة، بما لا يقل عن تلك التي شهدناها بعد اتفاقات كامب دافيد عام 1979. وسيساهمان في تصحيح العلاقات السورية الفلسطينية، واللبنانية الفلسطينية الرسمية. ويرسيان ارضية جديدة لعلاقة اكثر موضوعية بين الاطراف الثلاث بعد ان تتساوى مواقفهم من السلام مع اسرائيل، ويتم تطبيع لغة الكلام بينهم. وقد ترفع الادارة الامريكية الحظر المفروض على انعقاد القمة العربية المصغرة او الموسعة التي طال انتظارها، فعندها تصبح القمة مطلوبة لمباركة الاتفاق وتوفير كل اشكال الدعم لتنفيذه بنجاح وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية.
الى ذلك استنفر الاتفاق قبل ولادته ايضا القوى الاسلامية في سوريا ولبنان والاردن. وأخذت القيادة الايرانية الرسمية موقفا سلبيا من المفاوضات، ووصفها المرشد الروحي للثورة “تراجع عن مواقف ثورية”. ورفض اضفاء الشرعية على اسرائيل، وباتت العلاقات السورية الايرانية الحميمة معرضة لهزة نوعية عنيفة قد تطيح بتحالف البلدين في امد قريب. وسيضع الاتفاق السوري الاسرائيلي حزب الله بين خيارين صعبين، اما احداث تغيير جذري وسريع في استراتيجيته السياسية والجهادية وفتح مسافة عن ايران والتساوي بالمعارضة الوطنية، او التمسك بايران كمرجعية والدخول في تصادم عنيف مع سوريا واجهزة السلطة اللبنانية.
واذا كان مجرد تجدد المفاوضات بين سوريا واسرائيل استفز واستنفر قوى اليمين الاسرائيلي، العلمانية والدينية، بعضها يشارك في الحكومة، وحشدت في شوارع تل ابيب تحت شعار “لا للنزول من الجولان” ما يزيد على 200 الف، فبالامكان تقدير طبيعة التفاعلات الايدلوجية والصراعات الحزبية التي سنشهدها في الشارع الاسرائيلي وفوق مسرح الكنيست بعد توقيع الاتفاق، وخلال فترة التحضير لاستفتاء الجمهور حوله. ويفترض ان لا يختلف الفلسطينيون على ان رياح الخلافات الاسرائيلية تحمل لهم معها متاعب اضافية، وتكرس عدم قدرة قيادة قيادة حزب العمل وحكومة باراك وقوى اليسار الاسرائيلي على تحمل حلين شاملين على الجبهتين السورية ـ اللبنانية والفلسطينية، وتدفعها نحو التشدد في المفاوضات على مسارهم. وسلفا يمكن القول ان العاصفة القوية التي ستهب على المنطقة بعد الاتفاقات الجديدة سوف تضعف موقف قيادة م ت ف في المفاوضات وموقف المعارضة في معارضتها. وخير للفلسطينيين اجمعين العمل على تقليص نسبة خسائرهم، بترتيب اوضاعهم الداخلية، وتوحيد جهودهم وتركيزها باتجاه انتزاع حقوقهم التي نصت عليها اتفاقات المرحلة الانتقالية، وعدم التعمق في هذه المرحلة في دهاليز الحل النهائي. ويخطئ من يعتقد ان بالامكان في مرحلة المفاوضات السورية الاسرائيلية وفترة تنفيذ ما سينبثق عنها من اتفاقات، التوصل الى “اتفاق اطار” على المسار الفلسطيني يعالج قضايا الحدود والقدس واللاجئين..الخ الا اذا رضخ المفاوض الفلسطيني للموقف الاسرائيلي، ووافقت قيادة م ت ف على بقاء المستعمرات والقدس بمقداساتها تحت السيادة الاسرائيلية، وقبلت “اعلان مبادئ” يتضمن انتهاء النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان الاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، وممارسة السيادة على كامل الاراضي التي احتلت عام 1967 لا يمكن ان يتم بموافقة اسرائيلية مسبقة.