عاصفة الاتفاق السوري الاسرائيلي قادمة وتفاعلاتها كبيرة

بقلم ممدوح نوفل في 11/01/2000

في التاسع عشر من شهر كانون الجاري يستأنف الطرفان السوري والاسرائيلي مفاوضاتهما في واشنطن بمشاركة امريكية مباشرة وبذات الوتيرة المكثفة. وكان الرئيس كلينتون قد صرح بعد انتهاء الجولة الثانية من المفاوضات التي عقدت في شبردز تاون بولاية فرجينيا “3/1/ ـ10/1/2000، ” ان الطرفين تعهدا بتسوية خلافاتهما في غضون الشهرين المقبلين. وانه يشعر بتفاؤل، ومفعم بالأمل الى حد بعيد بشأن امكانية احراز نجاح”. الى ذلك اكدت، لاركان القيادة الفلسطينية، مصادر دبلوماسية غربية وعربية مطلعة على مجريات هذه المفاوضات، جدية الطرفين في البحث عن تسوية ثنائية ترضي الطرفين، وتحقق لهما اهدافهما. وانهما تجاوزا مرحلة جس النبض، وحققا تقدما ملموسا في معالجة المسائل الاجرائية، وجوانب عديدة من قضايا جوهرية هامة وبخاصة في مجال تطبيع العلاقات الثنائية والترتيبات الامنية المشتركة. وان ما تحقق حتى الان يؤسس لتقدم اسرع واشمل واهم، وتتوقع حصول تطورات نوعية في علاقات الطرفين، وتحقيق اختراقا مهما في جولة المفاوضات “الثالثة” التي ستستانف قريبا في واشنطن، او في الجولة التي ستليها على أبعد تقدير. يعقبه اشعال الضوء الاخضر لاستئناف المفاوضات الاسرائيلية اللبنانية برعاية امريكية، وانها لن تستغرق وقتا طويلا ونتائجها مضمونة في حال اقتراب السوريون والاسرائيليون من الاتفاق.
وبصرف النظر عن دقة المعلومات، وعن الهبات الامريكية الساخنة والباردة التي هبت وستهب لاحقا على الصحافة ووكالات الانباء حول سير المفاوضات السورية الاسرائيلية، فالواضح ان الجانبين اخذا قراراتهما، لاعتبارات متعددة ومتنوعة، بحل نزاعهما المزمن حلا نهائيا وشاملا، ودفع ثمنه حتى لو كان مؤلما وقاسيا كما وصفه باراك. ومجريات مفاوضات الجولة الاولى والثانية، ونتائجهما الاولية المعلنة وغير المعلنة تؤكد تصميمهما المشترك على تجاوز العقبات الكثيرة المتوقع بروزها، والبحث عن حلول وسط تحقق لهما الحدود الدنيا من اهدافهما الخاصة. واي يكن ترتيب جدول الاعمال وعدد جولات المفاوضات التي سيعقدها الطرفان، يفترض ان لا يكون هناك جدال بان الطرفين دخلا المفاوضات وليس باستطاعتهما، لاعتبارات داخلية وخارجية كثيرة، تفجيرها والخروج منها دون اتفاق. وما كان لباراك توريط نفسه بقيادة المفاوضات مباشرة، والتفرغ لها وتعطيل جميع مهامه في قيادة الدولة لو لم يكن واثقا بان الاتفاق قاب قوسين او ادنى. واذا كانت مصالح السورية والاسرائيلية المباشرة والاستراتيجية ضغطت باتجاه استئناف المفاوضات، وقبلا ان يلعب الراعي الامريكي دور الشريك الذي يملك زمام المبادرة، وتجاوزا بمساعدته الازمات الاجرائية التي واجهاها، فهي تضغط الان بقوة اكبر لاستمرارها، والتوصل الى انهاء حالة الحرب التي عاشاها نصف قرن. وعامل الزمن يضغط على الاطراف الثلاث، ومصالح ادارة الرئيس كلينتون تضغط على الطرفين لجهة ضمان استمرار المشاركة الامريكية المباشرة فيها، وتحقيق نتائج ملموسة خلال اقصر فترة زمنية ممكنة، وتحديدا قبل ارتفاع درجة حرارة انتخابات الرئاسة والكونغرس بدء من منتصف العام القادم .
ورغم معرفة اركان الادارة الامريكية بحجم الصعوبات التي يواجهها الطرفان وبطبيعة الخلافات التي لم يتم تسويتها حتى الان، فهم متفائلون بتوصلهما الى صفقة متكاملة ينتج عنها “اتفاقية سلام” او “اعلان مبادئ” تفصيلي وموسع يكون مرشدا لعلاقاتهما المستقبلية، وينقلها من حالة الحرب الى حالة جديدة من السلام. ويسعون لانجازه قبل شهر تموز القادم كحد اقصى، خاصة بعدما اعتمد الطرفان “الملخص الموسع”، الذي قدمه الرئيس كلينتون، كقاعدة صالحة لعمل اللجان الاربع الاساسية. ويراهنون على استمرار تفاعل الطرفين ايجابا مع مبادرات الرئيس كلينتون ومع الدور المحوري المكثف الذي يقوم به. ومقتنعون تماما بان الاتفاق السوري الاسرائيلي يفرز اتوماتيكيا اتفاق اسرائيليا لبنانيا.
لا شك في ان الاتفاق القادم بين الدولتين، سوف يتضمن التزامهما بانهاء نزاعهما المزمن، وترسيم حدودهما من جديد. ويحدد بدقة طبيعة السلام بينهما والفترة الزمنية التي سيستغرقها تطبيع علاقتهما الثنائية وآلية تجسيده سياسيا ودبلوماسيا وامنيا واقتصاديا. وسيكون معه او بعده، وليس قبله، اتفاق لبناني اسرائيلي شامل، ينهي نزاع البلدين حول كافة القضايا الثنائية، ويطبع علاقاتهماالثنائية، بصرف النظر عن رأي كل القوى اللبنانية دون استثناء. ويغلق ملف الصراع في جنوب لبنان، وينهي مبررات وجود الحزام الامني الذي انشأته اسرائيل. واي تكن نصوص الاتفاق السوري الاسرائيلي وملحقة اللبناني، فالمؤكد انهما سيخلقان سريعا عددا من الحقائق الجديدة تظهر مباشرة على سطح العلاقات العربية العربية، وفي العلاقات العربية الاسرائيلية، وتترك بصماتهما على الصراع العربي الاسرائيلي لفترة زمنية طويلة. وابرزها تعزيز توجه شعوب المنطقة نحو نبذ الحروب واعتماد لغة الحوار سبيلا وحيدا لحل صراعاتهم المزمنة. ويزودان عملية السلام، التي بدأت في مدريد عام1991، بشحنة قوية تجعلها قادرة مع الزمن، بديناميكيتها وميكانزمها الذاتي، تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي والعربي اكثر فاكثر. وتدفع بالسياسات التوسعية والمعتقدات الايديولوجية الغيبية المثالية تدريجيا للوراء، تاركة لمن يشاء من الجانبين الاحتفاظ بها في أعماق ضميره.
وبتوصل الاطراف الثلاث لبنان سوريا اسرائيل الى اتفاقاتهم تستكمل اسرائيل اتفاقاتها مع “دول الطوق” وتتبدل علاقتها بسوريا ولبنان من حالة الحرب الى حالة سلامية شبيهة بالحالة السائدة مع مصر والاردن. وستشهد المنطقة تسارعا في انفتاح مزيد من الدول العربية دبلوماسيا واقتصاديا على اسرائيل. وستحصل اسرائيل على مطلبها بتفعيل مفاوضات متعددة الاطراف، وبعث الحياة في المؤتمر الاقتصادي الشرق اوسطي، ويرجح ان تتاخر مشاركة سوريا ولبنان فيهما الى ما بعد توقيع اتفاقاتهما مع اسرائيل. وقد نشهد “بدء حوار بين الحضارات، وبدء منافسة مشرفة في مجالات متنوعة سياسية وثقافية وعملية واقتصادية” كما قال الوزير الشرع في خطابه الشهير، الذي ركز فيه على قضايا سوريا الاقليمية فقط، وقفز كلية عن مكونات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومصير “قضية العرب الاولى”.
الى ذلك استنفر الاتفاق قبل ولادته القوى الاسلامية في سوريا ولبنان والاردن. وأخذت القيادة الايرانية الرسمية موقفا سلبيا من المفاوضات، ووصفها المرشد الروحي للثورة “تراجع عن مواقف ثورية”. ورفض اضفاء الشرعية على اسرائيل، وباتت العلاقات السورية الايرانية الحميمة معرضة لهزة نوعية عنيفة قد تطيح بتحالف البلدين في امد قريب. سيضع الاتفاق السوري الاسرائيلي حزب الله بين خيارين صعبين، اما احداث تغيير جذري وسريع في استراتيجيته السياسية والجهادية وفتح مسافة عن ايران والتساوي بالمعارضة الوطنية، او التمسك بايران كمرجعية والدخول في تصادم عنيف مع سوريا واجهزة السلطة اللبنانية.
الى ذلك اربكت المفاوضات السورية الاسرائيلية مواقف عدد من القوى السياسية والمثقفين العرب، ودفعت بعضهم الى تخفيف حدة معارضتهم لعملية السلام. وأضعفت مواقف السلطة الفلسطينية والقوى المعارضة لعملية السلام، وبخاصة من لا يزال يراهن على امكانية معارضتها من الخارج. ووقع تبدل نوعي في علاقة حركة حماس بالحكومة الاردنية وجهته سلبية، وتأثرت علاقة قيادتها في الداخل باركان مكتبها السياسي في الخارج. وسارع آخرون في المعارضة، دون مراجعة جريئة وشاملة، لاعادة النظر بعلاقتهم بالسلطة لجهة تطبيعها، وبموقفهم من الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية لجهة التعامل بها كامر واقع، واوقفوا مطالبتهم بالغاءها كشرط للعمل المشترك، وراحوا يبحثون في سبل قيامهم بدورهم الوطني ضمن اطار مؤسسات منظمة التحرير. وأظن ان الاتفاق السوري الاسرائيلي القادم، ولاحقا اللبناني، سيساعدان في تصحيح العلاقات السورية الفلسطينية، واللبنانية الفلسطينية الرسمية، ويرسيان ارضية جديدة لعلاقة اكثر موضوعية بين الاطراف الثلاث بعد ان تتساوى مواقفهم من السلام مع اسرائيل، ويتم تطبيع لغة الكلام بينهم. وقد ترفع الادارة الامريكية الحظر المفروض على انعقاد القمة العربية المصغرة او الموسعة التي طال انتظارها، فعندها تصبح القمة مطلوبة لمباركة الاتفاق وتوفير كل اشكال الدعم لتنفيذه بنجاح، وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية.
الى ذلك ستشهد الاوضاع والعلاقات داخل اسرائيل وعدد من دول المنطقة حركة دراماتيكية نشيطة. واذا كان مجرد تجدد المفاوضات بين سوريا واسرائيل استفز واستنفر قوى اليمين الاسرائيلي، العلمانية والدينية، بعضها يشارك في الحكومة، وحشدت في شوارع تل ابيب تحت شعار “لا للنزول من الجولان” ما يزيد على 200 الف، فبالامكان تقدير طبيعة التفاعلات الايدلوجية والصراعات الحزبية التي سنشهدها في الشارع الاسرائيلي وفوق مسرح الكنيست بعد توقيع الاتفاق، وخلال فترة التحضير لاستفتاء الجمهور حوله. ويفترض ان لا يختلف الفلسطينيون على ان رياح الخلافات الاسرائيلية تحمل لهم معها متاعب اضافية، وتكرس عدم قدرة قيادة قيادة حزب العمل وحكومة باراك وقوى اليسار الاسرائيلي على تتحمل حلين شاملين على الجبهتين السورية ـ اللبنانية والفلسطينية، وتدفعها نحو التشدد في المفاوضات على مسارهم. وسلفا يمكن القول ان العاصفة القوية التي ستهب على المنطقة بعد الاتفاق السوري اللبناني ـ الاسرائيلي، سوف تدفع بمفاوضتهم حول قضايا الحل النهائي للمراوحة مكانها، في احسن الاحوال، طيلة السنوات الثلاث الباقية من ولاية باراك الاولى، الا اذا رضخوا للموقف الاسرائيلي وقبلوا ببقاء المستعمرات والقدس بمقداساتها تحت السيادة الاسرائيلية، ووافقوا على “اعلان مبادئ” يتضمن انتهاء نزاعهم مع اسرائيل، مقابل اعتراف اسرائيل والادارة الامريكية بدولة على اقل من 42% فقط من اراضي الضفة والقطاع