كلمة وفاء في ذكرى استشهاد ابن بيت فوريك البار
بقلم ممدوح نوفل في 29/03/2000
قبل اربعين يوما رحل العقيد ابوعماد الفوريكي فجأة وبهدوء تماما كما كان يحب الحياة، وكما ادى واجبه الوطني. داهمه الموت فجأة، وفقدت بلدة بيت فوريك ابنا بارا عشق زيتوها وجبالها. وفقدت الحركة الوطنية مناضلا مقداما ساهم في صناعة تاريخها العسكري المشرف، وهي في امس الحاجة لامثالثه. لم تمنحه الاقدار فرصة استكمال الرسالة التي بدأها قبل اكثر من ثلث قرن، وبخلت عليه استكمال المشوار وتحقيق احلام الشهداء والاحياء من ابناء فلسطين. أظنه حاول ليلة 9 شباط التمرد على القدر كعادته، وقاوم الموت ببسالة، فهو لم يكن ممن يسلمون بسهولة بالوقائع التي لا يرغبها، وممن لم يستسلموا يوما للاعداء. بعد عودتنا للوطن لم اكن اتوقع ان أرثي رجلا هزم الموت، لكن الموت لا يقهر، ولا بد من كلمة تحيي تراثه الزاخر بالوطنية الصادقة، وتساهم بتخليد ذكرى مقاتل عاش 56 عاما من اجل فلسطين، ورحل وهو يدافع عن ارضها وحقوق اهلها واستقلالية حركتهم الوطنية.
في الطريق من بيت فوريك الى نابلس سخر ابوعماد من الموت وطمأن من حوله. وأظنه قال “لا تقلقوا، عرفت الموت جيدا ورافقني 33 عام. صحيح انه ترك بصمات كثيرة على جسدي لكني هزمته ولم ينال مني”. شاهد “العقيد كامل حنني” الموت بين عام 67 وعام 2000 الموت يخطف ارواح الثوار مرات ومرات. رافقه حياته بدء من معركة الصوانة شرق بيت فوريك مرورا بالاغوار الاردنية الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية وعند كل مخاضات النهر، وفي كل زوايا احراش جرش وعجلون. طارده مع ربعه في جبا وجباتا ووادي الرقاد والقنيطرة وكل اراضي الجولان السورية والحمة الفلسطينية. وخاض معه صراعا باسالا وتغلب عليه في جبل صنين والعرقوب والشوف وكل بقاع شمال وشرق وجنوب لبنان. وشاهده فاجرا يخطف ارواح النساء والشيوخ والاطفال في حروب الاعداء والاشقاء على مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج الراجنة والداعوق، واقسم لو ان ان الموت رجل لخنقه بيديه. وفي المستشفى اعترف لنفسه بان الموت يبقى حق لا يقهر، والحياة تخلد الذكرى والافكار. وقال “نال الموت قبلي قادتي، سعد صايل “ابوالوليد” جارنا في “كفر قليل”، وابو جهاد وابو اياد وخالد نزال وابو الهول وغسان كنفاني. ولم يمنحني فرصة العيش الطويل مع أعز الرفاق والاحباب والاصحاب، ابو الغضب ومراد وخليفاوي وابو سمرة ابو محمود الفوريكي ابن حارتنا.
شاءت الاقدار ان يعيش ابوعماد نكبة شعبه عام 1948، ورآى في مخيم بلاطة وعسكر اذلال وتشريد اهل يافا وحيفا والمثلث والجليل. في بيت فوريك فاجئه الاحتلال عام 67 مثله مثل كل ابناء فلسطين، فاستقبل الحدث بهدوء في الظاهر وبغليان ابن العشرين. حسم امره دون تردد، وحتراف النضال وشروع في العمل من اجل تحرير ما اغتصب من فلسطين واستعادة حقوق وكرامة اللاجئين، ورسم لذاته طريقا اختار اعنفها واخطرها. استذكر تاريخ الشمال الفلسطيني في النضال، وتأمل زيتون وجبال ووديان بيت فوريك وبيت دجن والصوانة التي احبها حتى العشق، وقدر انها قادرة على احتضان ثوارها، كما احتضنت احراش يعبد عز الدين القسام، واحتضنت احراش فيتنام رجال الفيتكونغ، ورآى في جيفارا مثل. تخيل شمال فلسطين منطلقا للثورة، وعمل المستحيل لاغراء الرواد الاوائل لبناء قواعدهم فيها. واسس اولى معسكرات التدريب في ظلال زيتونها، واستقبل مع اخوانه اولى شحنات السلاح من الخارج ووزعها على الفلاحين دون تمييز. جال شوارع نابلس وأزقة القرى وقال للناس كلمات بسيطة “فلسطين ضاعت بالسلاح ولا تعود الا بالتضحية والكفاح”. كان اعتزازه بفلسطينيته بلا حدود، وايمانه راسخا بان “الارض لا تفلحها الا عجولها”، وكان مقداما لدرجة التهور في حرثها وفلحها. طارد قوات الاحتلال وعملائها حيث استطاع، ولم تقصر هي الاخرى في مطاردته. غادر الارض التي احبها، وبنى في السلط قاعدة “ابناء بيت فوريك” وبنى في الاغوار “محطة العودة”. اختفى عن الانظار اكثر من مرة، وكان يظهر مرة في نابلس واخرى في الصوانة وثالثة بين ربعه في قرى الشمال وتحت شجرة الزيتون “الرومية” التي احبته وأحبها واستظل بها ليل نهار.
احب ارض بلاده وكره البقاء خارجها، لكن الاقدار فرضت عليه التنقل ثلث قرن بين الاردن وسوريا ولبنان وتونس. في اغوار الاردن عرفته عن قرب كرفيق سلاح وفيّ مخلصا، يحب العمل المنظم ويكره الفوضى، ويمقت شخصنة النضال ولا يهتم بصغائر الامور. امتاز بمواقفه الوطنية الوحدوية والقومية الصلبة، وتميز بميدانيته وبقدرته الخارقة على تجنيد الناس في صفوف الثورة وفي تعبئة المقاتلين بحب الوطن والتضحية لاجله. كان رائدا من رواد الوحدة الوطنية ودافع ببسالة عن استقلالية الحركة الوطنية. ورغم ملاحظاته الكثيرة حول المواقف السياسية المتطرفة والمسلكيات الخاطئة لبعض قيادات وكوادر فصائل الثورة في الاردن، الا انه ميز الاخطاء التكتيكية الضارة عن الاخطاء الاستراتيجية المدمرة. وساهم بجدارة في الدفاع عن القرار الوطني المستقل وعن شعبه في عمان والمخيمات والاحراش، وعن حقه في النضال من كل الاراضي العربية ضد الاحتلال. وصمد على راس وحدته العسكرية في كل المواجهات القتالية التي فرضت عليها.
بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من الاردن لم ييأس ابو عماد وشرع مع رافقه اعادة تنظيم وتشكيل القوات. وشكل في الجولان وحدة عسكرية مقاتلة لعبت دورا مميزا في مقارعة الاحتلال فوق الاراضي السورية من صنين وحتى وادي الرقاد والحمة الفلسطينية. وفي حرب اكتوبر عام 1973 قاتل ورفاقه في جيش التحرير الفلسطيني وكل فصائل الثورة مع الجيش السوري دفاعا عن الاراضي السوري وتصدوا للقوات الاسرائيلية وساهموا في سد الثغرة التي فتحت باتجاه دمشق. وقال “لا بئس من الدفاع عن الانظمة العربية في مواجهة قوات الاحتلال”، رغم انه سكن زنانين بعضها بتهمة اختراق الحدود، والدفاع عن المخيمات وتزويد العرفاتيين بالاسلحة والذخائر واوراق مهمة تسهل حركتهم.
من الجولان انتقل ابو عماد الى لبنان، وعبر جبل الشيخ ماشيا على قدميه حاملا على كتفيه عدة الشغل الثوري. وهناك صار من “اتباع توما” لا يصدق الا ما يشاهده بعينية ويلمسه بيده. جدّ في النضال واجتهد في تحصيل العلوم العسكرية، وصعد بجدارة سلم الرتب العسكرية في الثورة. وتولى مناصب قيادية رفيعة في الجبهة الديمقراطية وصار عضوا في لجنتها المركزية وقيادتها العسكرية. وجمع بمقدرة عالية بين دور القائد العسكري الميداني والقائد السياسي المحنك. وخلال ترؤسه غرفة عملياتها العسكرية تطورت قدرات قواتها وتصاعدت عملياتها ضد الاحتلال. وبعد العودة رست سفينته في ميناء السلطة الوطنية وجمع بين عمله ضابطا في غرفة عمليات قوات الامن الوطني في نابلس،ومنطقة الشمال، وعضويته في قيادة حزب فدا.
آمن منذ البداية بدور الجماهير العربية في دعم واسناد النضال الفلسطيني، وبث فكره في كل اتجاه، وكان من ابرز المدافعين عن بناء علاقة مبدئية كفاحية مع الحركة الوطنية اللبنانية. وناضل بقوة من اجل احترام قرارها وعدم تكرار اخطاء الثورة في الاردن. وساهم من بيروت والعرقوب والجنوب جنبا لجنب مع مناضلي الثورة في تثبيت وجود الثورة في لبنان والدفاع عن المخيمات في وجه الاعتداءات التي تعرضت لها. وفاجأ القيادة الاسرائيلية مرات، وانتقم من غارات طيرانها على المخيمات ومواقع القوات الفلسطينية في لبنان. ونفذت وحدته عمليات نوعية خاصة في عمق اسرائيل. وفي تموز1981 أدار مع رفاقه في جيش التحرير وفصائل الثورة معركة المدفعية الشهيرة، وظهرت خبرات كوادرها القتالية والفنية العسكرية المتطورة.
مع بداية عام 1982 أدرك ابو عماد ان المواجهة الشاملة مع الجيش الاسرائيلي قادمة لا محالة. وعندما وقعت الحرب صمد مع رجال الثورة الفلسطينية والجيش العربي السوري في معركة السلطان يعقوب ومفرق حلوة ـ عيتا الفخار. وبعد احتلال بيروت والجبل واجزاء من البقاع اللبناني لم ييأس، وظل يؤمن بان وجود مقاومة لبنانية عسكرية فعالة، ومقاومة فلسطينية مستمرة، يخلق مناخ لانبعاث مقاومة شعبية عربية شاملة. وقال: لا خوف على منظمة التحرير فستبقى حية طالما هناك شعب اسمه شعب فلسطين. المهم تأكيد بقاء جسمها العسكري حيا فاعلا” وادامة المعركة ضد الغزاة. ركز جهده لاستخلاص دروس المعركة وتجربة الثورة والاستفادة منها في النضال ضد الاحتلال، وتطبيقها على الارض مع الجماهير اللبنانية وقواها الوطنية. وبعد خروج قوات الثورة من بيروت حوّل مناطق البقاع والشمال الى معسكرات تدريب، وقواعد لتزويد الحركة الوطنية والمخيمات بالخبرات والكوادر والذخائر والسلاح.
فور سماعه نبأ اغتيال بشير الجميل قائد القوات اللبنانية يوم 14 ايلول 82، قال “بشير وصل رئاسة الجمهورية على ظهر دبابة اسرائيلية، والمهم ان لا يدفع شعبنا ثمن اغتياله، كما دفعنا ثمن طموحه الارعن”. وبعد سماعه نبأ المجزرة التي ارتكبتها القوات اللبنانية يوم 17 ايلول بقيادة “الوزير” ايلي حبيقة في صبرا وشاتيلا شعر ابو عماد بتأنيب ضمير تجاه ابناء المخيمات، وقال: أخطأت الثورة عندما وثقت بالقوات المتعددة الجنسيات وبتعهدات الامريكان”. وحزن لخروج اكبر مظاهرة ضد مجازر صبرا وشاتيلا في شوارع تل ابيب وليس في عاصمة عربية. وقال “عار علينا الصمت امام استباحة دم اطفالنا ونسائنا وشيوخنا العزل، ويجب ان لا نغفر او ننسى، فالذاكرة الحية تصون الحوق وتعبئ الاجيال”. تسلل الى برج البراجنة ليكون مع اهله في اصعب الظروف. وتنقل بين البرج وشاتيلا، واكل مع اهلها لحم القطط والحمير، وذاق علقم حصار الاشقاء. واذا كان الخبراء والبحاثة اعتبروا صمود مخيمات بيروت والرشيدية ثلاثة سنوات في وجه الحصار حدثا تاريخيا، فابحاثهم تبقى ناقصة اذا لم تؤكد دوره ودور “يوسف” و”آمنة” و”على ابو طوق” في صنعه. واذا كان التاريخ سجل في ملفاته بطولات المقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية لغزو اسرائيل للبنان عام 1982 فابوعماد احد روادها.
آمن بالعمل الجماهيري والسياسي والدبلوماسي باعتبارها اشكال نضال قيمة. ورآى في الانتفاضة اشراقة نور التحرير والعودة الاستقلال. ورآى نفسه “في المنام” يتنقل بين براري بيت فوريك وازقة نابلس القديمة. حاول التسلل من العرقوب ليكون مع المنتفضين في القرى والمخيمات، لكنه اصطدم بعوائق كبيرة كثيرة. واقتنع ان اهل الانتفاضة ادرى بشجونها ودروبها، وشق من لبنان طرق كثيرة متنوعة لامدادها، ونقل ما أمكن مما لزم لمن استلم.
بعد حرب الخليج وتخاذل الانظمة وتحويل مدافع جيوشها للخلف، ايد عملية السلام منذ انطلاقتها. ورآى فيها وفي اتفاق اوسلو وبقية الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية خطوات نحو تحرير الارض والانسان ومنع تفاقم الاستيطان، واعتبرها منافذ للعودة وبناء الاستقلال. ولم ينتظر ظهور الخيط الابيض من الاسود واسرع بالعودة الى بيت فوريك. وانخرط فورا في ورشة تمدين ودمقرطة الحياة الفلسطينية، واستكمال مهمة طرد الاحتلال، وبناء مقومات الدولة المستقلة. وليلة عرس ابنه محمود زار صرح الشيد في القرية برفقة العروسين، على امل تكريس تقليد وطني جديد. وبعد بدء القيادة الاسرائيلية التلاعب بالاتفاقات، قال “عدنا مقتنعين بصنع السلام الشامل، فوجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى ابعد من انفها. تحاول شطب تاريخ الشهداء، وتحويل السلام الى استسلام مذل. وترفض، ومعها الادارة الامريكية، ان ترى حقوق أربعة ملايين فلسطيني يقيمون على ارضهم، وان تسمع مطالب مثلهم من اللاجئين والنازحين في العودة التعويض.
واليوم نفتقده، ونفتقد معه المواقف المبدئية الجريئة، ونحن في امس الحاجة اليها، لبناء ما تم تحريره من الارض، وتحرير ما لم يتحرر. ودمقرطة حياتنا الفلسطينية وصنع مستقبل واعد لاطفالنا، وحماية كرامة الشهداء وصيانة تاريخهم وتاريخ الثورة. ومواجهة المنافقين والمتسلقين الذين صعدوا في غفلة من الزمن ويحاولون سرقة بعض هذا التاريخ وتزوير الآخر. أجزم ان هذه الكلمات لا تفي الشهيد الصديق حقه، وأتمنى ان يبادر رفاقه واصحابه الى تخليد ذكراه وجمع وتوثيق تاريخه المجيد، وتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. فسيرة رموزها تختصر مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة بعجرها وبجرها. وترفع عاليا صور الألم الفلسطيني الطويل في النصف الثاني من القرن العشرين، وفيها بذور الأمل المشرق في القرن الجديد. ومهمة تعريف الاجيال بحلاوة تاريخهم ومره امانة تستحق من الجميع، اليوم قبل الغد، جهدا خاصا. وفقدان هذا التراث الغني خسارة كبيرة يصعب تعويضها. واشهد ان “ابوعماد الفوريكي” اتعب وارهق، في النزهة ودرعا ودمشق وخبرة روحا وبرج البراجنة زوجته المناضلة ام عماد بتامين منامة واطعام وغسل ثياب الرفاق. وان اهتمامه بشؤون جنوده ورفاقه المقاتلين وسهره على سلامتهم وراحتهم ، تم على حساب راحة اسرته وسعادة اولاده وبناته السبعة، هدى وكفاية ولندا وفدا وياسر ومحمود وعماد.