في ذكرى الكمالين 2 – باراك هاجم منازل القادة الثلاث وشاحاك نسف مقر الجبهة الديمقراطية
بقلم ممدوح نوفل في 08/04/2000
في النصف الاول من عام 1973 صعدت قوات الثورة نشاطها العسكري من جنوب لبنان، ومس بعضه سكان القرى والمستعمرات الاسرائيلية الواقعة على الحدود الشمالية. وخشيت القيادة الاسرائيلة من تمركز قوات م ت ف على حدودها الشمالية، ومن تطور قدراتها العسكرية وتحولها الى قوة جدية المزعجة. ووجهت الحكومة الاسرائيلية أكثر من رسالة رسمية تحذيرية للسلطات اللبنانية، طالبتها بالسيطرة على نشاط “المخربين” الفلسطينيين، وضبط تواجدهم على اراضيها، ومنعهم عن القيام بعمليات “تخريبية” من اراضيها. ولم تتوانى في الرد على العمليات القتالية الناجحة التي نفذها مقاتلوا فصائل الثورة. وزادت من غاراتها الجوية وقصفها المدفعي ضد مواقع الفلسطينيين في الجنوب والبقاع والعرقوب.
وفي العاشر من نيسان 1973، وبعد تحضيرات استخبارية استمرت شهرين، نفذت قواتها الخاصة من “دورية الاركان” عملية خاصة، جريئة محكمة التخطيط، في قلب العاصمة اللبنانية. دخلت القوات الاسرائيلية بيروت عن طريق البحر، وكان رجال وعملاء المؤسات قد سبقوهم بجوازات سفر اوروبية وامريكية، واقاموا في فنادقها واستأجروا 7 سيارات مدنية. في حينه، هاجمت، القوة الاسرائيلية، في وقت واحد، المقر المركزي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الفاكهاني، احدى ضواحي بيروت الغربية، ومنازل قادة م ت ف كمال عدوان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وابو يوسف النجار عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، وكمال ناصر، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وكانت معلوماتها تشير الى ان الاول قائد جماعة ايلول الاسود، والثاني، مسئول عمليات فتح في اسرائيل، والثالث ناطق رسمي باسم عرفات وم ت ف.
ونجحت المجموعة الاولى، بقيادة “ايهود باراك”، في الوصول الى هدفها، واغتالت القادة الثلاث في منازلهم. ونسفت الثانية بقيادة “أمنون شاحاك”، بصورة جزئية، مقر الجبهة الديمقراطية في منطقة الفاكهاني قرب المدينة الرياضية. في حينه اشتبكت معهم مجموعة حراسة مقر الجبهة، وقتل من القوة المهاجمة جنديان من قوات المظلات “ابيدع شور وحجاي معيان”. وفقدت القوة المهاجمة عنصر المفاجئة، ولم تتمكن من العمل بحرية تامة، ولم تحقق هدفها كاملا. فبعد اغتيال المجموعة الاسرائيلية الحارس المركزي امام مدخل البناية بواسطة مسدس كاتم للصوت، اطلقت عليها نيران غزيرة، من قبل كمين جانبي نصب، في حينه، للدفاع عن مقر الجبهة الديمقراطية من هجوم كان متوقعا ان ينفذه تنظيم القيادة العامة بزعامة احمد جبريل. حيث كانت المشاحنات السياسية، بين الجبهة الديمقراطية وتنظيم “جبريل”، حول البرنامج السياسي المرحلي على اشدها، وتطورت الى صدمات مسلحة في مخيم تل الزعتر، واستشهد، دفاعا عن البرنامج، قائد قوات الجبهة في مخيم عين الحلوة، “النقيب المناضل “فايز خلدون” ابن التعامرة المجاورة لمدينة بيت لحم.
اثر سماعي صوت الرصاص الكثيف والانفجارات غادر منزلي القريب من مقر الجبهة المستهدف، وتوجهت راجلا لاستطلاع ما يجري، وكنت واثقا من ان حرس المقر اشتبك مع مجموعات القيادة العامة. وكم كانت مفاجئتي كبيرة عندما منعني افراد مجموعة الحراسة “الكمين” من الاقتراب من مبنى المقر قائلين؛ موقعنا تعرض لهجوم اسرائيلي، استغلت القوات الاسرائيلية مشاكلنا مع القيادة العامة، وحاولت نسف المقر بمن فيه، اشتبكنا معهم واقعنا خسائر في صفوفهم، وهناك احتمال وجود متفجرات موقوتة والغام لم تنفجر. في حينه لم أصدق اقوال الرفاق، الا بعد ان سلمني احدهم مسدسا اسرائيليا عيار 6 ملم كاتم للصوت، يحمل شعار نجمة داوود. وتبين لي، كما قال الحرس، بان القوات الاسرائيلية هاجمت المقر في سيارتين مدنيتين، تحرسهما من بعيد سيارة جيب عسكرية، تشبه تماما سيارات قوات الدرك اللبناني. خلال عمليات مسح وتفتيش المقر وتنظيفه من المتفجرات، تم العثورعلى مزيد من المسدسات والقنابل والمتفجرات، تحمل علامات جيش الدفاع الاسرائيلي. وظهرت بقع دماء على الارض.
وخلال تواجدي حضر للمكان احد افراد حرس “ابواياد” صلاح خلف، وهمس قائلا “الاخ ابو اياد موجود في المبنى المقابل ويريد ان يراك”. تحركت مباشرة الى حيث يتواجد ابو اياد، واستغربت تواجده في ذلك المكتب الفرعي التابع لامن فتح، وعلمت ان المصادفة قادته للمكان. قبل السلام بادرني بالقول: “هل هذا وقت الاشتباك مع القيادة العامة فانت تعرف ان المشكلة ليست مع ال…احمد جبريل بل مع من يقف خلفه، وكان يقصد المخابرات السورية. ولم يصدق ابواياد، ان الاشتباك كان مع مجموعات اسرائيلية، الا بعد ان ابرزت له مخلفات المجموعة المهاجمة. عندها قال؛ “ضاعت علينا فرصة اصطيادهم فقد كانوا تحت مرمى نيران حراستي”. وفورا اصدر اوامرة للاجهزة الامنية الفتحاوية بالتحرك فورا باتجاه شواطئ بيروت والجنوب، على أمل اللحاق بالقوة الاسرائيلية قبل صعودها البحر. وكان تقديرنا انهم قدموا من البحر بمساعدة عملائهم في السلطة اللبنانية، وسينسحبوا بواسطة زوارق تنتظرهم في نقطة ما على الشاطئ. لاحقا، بينت مخلفاتهم بانهم قدموا من البحر وغادروا بيروت بسلام، كما وصلوا، دون ان تقع بهم اصابات باستثناء تلك التي لحقت بهم اثناء هجومهم على مقر الجبهة الديمقراطية. وكان واضحا ان العملية اعتمدت على عمل استخباري دقيق، وان مجموعاتها دخلت قلب بيروت بعدما هيأ لها عملاء الموساد المحلين ما يلزم من سيارات ومرشدين. وفعلا عثرت مجموعات فتح على عدد من السيارات المدنية متروكة على شاطئ الاوزاعي، جنوب بيروت، احدها يحمل آثار دماء.
الى ذلك، طلب ابواياد من مرافقيه البحث عن ابوعمار وابوجهاد. وبعد دقائق معدودة اتصل ابوعمار وقال: سارسل لكم سيارة للحضور لطرفي بسرعة، وفهمنا منه انه موجود في مكتب ابوشاكر “ابراهيم قليلات”، قائد قوات “المرابطون”، وان عدة مجموعات اسرائيلية دخلت بيروت، ونجحت في اغتيال ابويوسف النجار في منزله. بعد المكالمة الهاتفية تحركت مع ابواياد، تحت حراسة مشددة، باتجاه المقر المركزي للمرابطين، الواقع في حي ابو شاكر على كرنيش المزرعة. في المقر، كان حشد من قادة القوى والاحزاب الوطنية اللبنانية والفلسطينية يتوافدون، ويتبادلون المتوفر من المعلومات حول ما حصل، ويجرون الاتصالات اللازمة مع الجهات المعنية في السلطة اللبنانية. رويت لهم عملية الهجوم على مقر الجبهة، وسمعنا ما روي حول استشهاد ابو يوسف النجار. واوعز ابوعمار للاجهزة الامنية الفلسطينية بالاتصال ببيوت القادة الفلسطينيين دون استثناء، وزيارتها كلها وشدد على زيارة البيوت التي يتعذر الاتصال الهاتفي معها. بعد دقائق قليلة ابلغ الحاضرون باغتيال “كمال عدوان،، وبعدها نقل خبر استشهاد “كمال ناصر”. وفوجئ الجميع، بان كمال ناصر هو الوحيد الذي اتيحت له فرصة استخدام سلاحه، وانه بالفعل اطلق النارعلى قاتليه الاسرائيليين، علما بانه كان يكره حمل السلاح، ولا يحب ان يكون معه مرافقين، وكان يعتبرهم اقرب الى السجانيين يحدون من الحركة، ويقيدون نمط الحياة العادية.
الى ذلك، حمّلت قيادة م ت ف الحكومة اللبنانية قسطا رئيسيا من المسؤولية عن دخول القوات الاسرائيلية قلب بيروت، ونجاحها في الوصول الى بيوت القادة الثلاث. ووجهت اتهامات علنية للمكتب الثاني اللبناني “المخابرات اللبنانية”، وبعض رموز قيادة الجيش اللبناني، بالتواطئ مع الاسرائيليين. ولاحقا شيعت بيروت القادة الثلاث في جنازة مهيبة شارك فيها جميع قادة الاحزاب الوطنية وبعض قادة القوى والاحزاب المارونية، وكان ضمنهم “بيار الجميل” زعيم حزب الكتائب. والقى زعماء المسلمين الذين شاركوا في الجنازة خطبا رنانة، هاجموا فيها تواطئ السلطة اللبنانية، وطعنوا في تركيبة أجهزتها ومؤسساتها المدنية والامنية، وطالبو باقالة الجيش. وتحدث بعضهم عن المقاومة الفلسطينية، وكأنها جيش المسلمين في لبنان. وكانت الجنازة فرصة مهمة، استعرضت فيها قيادة م ت ف اسلحتها وقدراتها العسكرية والجماهيرية، بطريقة اقلقت السلطات اللبنانية، ونبهت اجهزتها الامنية وارعبت بعض القوى المسيحية المتزمتة، التي رأت في منظمة التحرير قوة اخلت بالتوازن الداخلي لصالح المسلمين، عامة، والسنة على وجه الخصوص. ورغم علمانية الحركة الوطنية اللبنانية، وتبوء كثير من المسيحيين مراكز قيادية اولى فيها، الا ان تخوفات الحركة السياسية المسيحية كان لها ما يبررها في بلد تنخره الطائفية الدينية والسياسية.
بعد عملية فردان اصبحت قيادة م ت ف مجبرة على ايلاء وجودها في لبنان اهتماما استثنائيا، وراحت تعطي مسألة حماية وجودها اهمية كبيرة، وبدأت تغرق تدريجيا في الاوضاع اللبنانية الداخلية، ونسيت ما استخلصته من دروس تجربتها في الاردن.
ومع كل خطوة كانت تخطوها داخل المستنقع اللبناني، كانت تبتعد اكثر فاكثر عن عملها الاساسي داخل الاراضي الفلسطينية. وحل، دون قرار، شعار الدفاع عن الوجود الفلسطيني المدني والمسلح في لبنان، مكان شعار تصعيد ونقل الكفاح المسلح الى داخل الاراضي المحتلة. وراحت تعزز تسليح المخيمات الفلسطينية، وشجعت القوى الوطنية اللبنانية للتدرب على السلاح وبناء تشكيلات عسكرية خاصو بها. وعملت على تجنيد اعداد كبيرة من الشباب الوطني اللبناني، وبدات تتدخل مباشرة في الشؤون السياسية والحزبية والاجتماعية اللبنانية. وبقي احتلال اسرائيل عام 1967 لكل فلسطين ولاجزاء واسعة من الاراضي العربية السورية والمصرية قائما وتقلصت كلفته.