قراءة اولية في جولة كامب ديفيد الاولى وآفاق الثانية
بقلم ممدوح نوفل في 25/07/2000
استجابة لطلب الرئيس كلينتون، مدد باراك وعرفات اقامتهما في منتجع كامب ديفيد، واستكملا، بعد عودته من قمة الدول الثمانية الصناعية، مناقشة كافة قضايا الحل النهائي. ولم تستطع الوزيرة اولبرايت ومساعدوها، كما كان متوقعا، تحريك مواقف الطرفين من مكانها الحساس، بعد غيابه. ويمكن اعتبار الايام التي قضاها كلينتون في طوكيو بمثابة اجازة قسرية قضاها الوفدان الفلسطيني والاسرائيلي، كل على طريقته الخاصة وحسب حالته النفسية.
واذا كان التعتيم الاعلامي الامريكي الشامل حال دون التقاط صورا حية تبين كيف قضى كل من باراك وعرفات اجازته، فالقراءة الموضوعية لظروف الرجلين بعد الجولة الاولى من المفاوضات تشير الى ان عرفات استمتع بها قدر المستطاع، فالاجازة القسرية جاءت بعد معركة قاسية صمد فيها في مواجهة الضغوط الامريكية الشديدة التي تعرض لها على مدى ثمانية ايام، وهو لم يعد شعبه بأكثر من عدم تقديم تنازلات تمس المحرمات الفلسطينية. ولا يستطيع اشد معارضي عملية السلام تجاهل تصدي عرفات الناجح للابتزازات الاسرائيلية، وتكريسه حالة من الندية في المواقف الفلسطينية ـ الاسرائيلية، والتكافؤ في المفاوضات، بعكس الصورة التي تشكلت عن حالة المفاوض الفلسطيني في مفاوضات المرحلة الانتقالية. الى ذلك أكدت مفاوضات كامب ديفيد ان تساهل ابوعمار في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق على القضايا المصيرية. ولا يمكن انكار ان القضية الفلسطينية استعادت من بوابة كامب ديفيد موقعها الطبيعي كقضية متفجرة، وتجدد الحديث على كل المستويات ان منطقة الشرق الاوسط لن تشهد السلام والاستقرار اذا لم يتم حل هذا النزاع، واقرت جميع القوى الدولية من جديد، بأن الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي لا يزال مستمرا، وهو الاساس، وما وقع من اتفاقات بين الطرفين لا يحول دون انفجاره بصورة دموية في كل لحظة.
اما باراك فأظن انه قضى اجازته في كامب ديفيد مهموما مغموما بعد ان اكتشف خطأ تقديراته لحالة عرفات ومواقفه من قضايا الحل النهائي. وظل متوترا وسهر الليالي وهو يفكر في كيفية الخروج من المصيدة الذي اوقع نفسه فيها عندما استفز عرفات وتحداه، وضغط على الرئيس كلينتون لعقد القمة قبل استكمال التحضيرات الضرورية لنجاحها.
لقد توهم باراك ان بامكانه الانضمام الى قائمة عظماء اسرائيل من بوابة كامب ديفيد. والتوصل الى اتفاق شامل يرسّم انهاء النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، مقابل اعتراف اسرائيل بدولة فلسطينية بدون حدود، ولا تكون القدس عاصمتها، وتقوم على قرابة 80% فقط من اراضي الضفة والقطاع. وتوجه الى واشنطن بعد ان تعهد لشعبه بالعودة منها دون المساس بلاءاته الخمس الشهيرة، ودون خدش اي من خطوطه الحمراء. ولم يفكر في اصطحاب بيريز او بيلين او رامون او يوسي سيريد الخبراء في الشؤون الفلسطينية حتى لا يقاسموه اكليل الغار الموهوم. لكن الرياح لم تجري كما اشتهاها باراك، وتحركت السفينة الفلسطينية في كامب ديفيد في اتجاه معاكس لتقديرات مستشاريه للشؤون الفلسطينية. وأظن ان ابوعمار كرر مع ذاته، مقولته الشهيرة، “هبت رياح الجنة” التي يقولها عادة بعد اطلاقه اللاء الحقيقية، وتبنى مواقف بشأن القدس واللاجئين والحدود تتعارض مع ورقة يوسي بيلن التي لخصها بعد حواراته الخاصة مع ابومازن، وايضا، غير التي استخلصها الوزير شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير من لقاءاتهم مع ابوعلاء وباقي الاطقم الفلسطينية المشاركة في مفاوضات الحل النهائي.
لاشك في ان مفاوضات كامب ديفيد بلغت، مع بدأ جولتها الثانية، مرحلة شديدة الحساسية، ويصعب تصور استمرارها اكثر من اسبوع آخر، او انفضاضها بعد اكثر من اسبوعين دون اتفاق ما ينقذ القمة من الفشل، خصوصا وان للرئيس كلينتون مصالح مباشرة في تواصل المفاوضات، ووصولها الى اتفاق قبل رحيله من البيت الابيض. وفشلها يظهرعجز القطب الاوحد في السيطرة على الصراعات الدولية ومعالجتها، وقد يلحق اذى كبيرا بتطلعات الحزب الديمقراطي بالفوز بانتخابات الرئاسة وطموحات هيلري بالفوز بمقعد مجلس الشيوخ. وبصرف النظر عن تصريحات الاطراف الثلاثة حول مبررات التمديد فالمؤكد ان رئيس اللجنة التنفيذية وافق، مكرها، على تمديدها، مثلما كانت موافقته على المشاركة فيها، ومثلما صبر على العنجهية الاسرائيلية التي ظهرت بابشع صورها، وتحمل على مضض منع الادارة الامريكية اعضاء اللجنة التنفيذية من اللقاء به والتواجد بجانبه. وبامكانه العودة الى شعبه بدون اتفاق، وعودته دون تنازل عن الحقوق الفلسطينية يعتبر انتصارا، ولا احد، بما في ذلك المعارضة، يطالبه في ظل الظروف المحيطة بالقمة وموازين القوى السائدة، بأكثر ذلك.
أما باراك فهو خير العارفين ان عودته الى اسرائيل دون اتفاق يعني بداية نهاية حياته السياسية. فالمعارضة لن تغفر له مساسه في كامب ديفيد بالمحرمات الاسرائيلية. وفشله مع الفلسطينيين بعد فشله مع السوريين، يؤكد، للاغلبية التي انتخبته باعتباره رجل الامن القادر على صنع السلام، عجزه عن ترجمة برنامجه الانتخابي وترجمة توجهات حزب العمل نحو صنع السلام مع العرب، وقد يدفع اعدادا مهمة من كوادر حزب العمل، وقطاعا واسعا من ناخبيه، وخصوصا انصار السلام، الى الانفضاض من حوله.
وما تسرب من أنباء يفيد بان لاءآت بارك الخمس تحولت كلها عبر المفاوضات الى “لعمات”، وان خطوطه الحمراء تحركت مثل اشارات المرور الضوئية، وتغير لونها وبات اقرب الى اللون الاصفر. صحيح انه لايزال يتمسك بمدينة القدس موحدة وعاصمة ابدية لاسرائيل، ويرفض العودة الى حدود ما قبل 5 حزيران 1967، ويرفض الاعتراف بمسئولية اسرائيل عن النكبة التي حلت باللاجئين عام 1947-1948ويرفض الاقرار بحقهم في العودة الى ارضهم حسب قرار الامم المتحدة رقم 194، ويصر على بقاء المستوطنات، ويرفض وجود جيش اجنبي غربي نهر الاردن..الخ، لكن الصحيح ايضا، انه تنازل بعد اسبوع واحد من المفاوضات عن السيادة الاسرائيلية الكاملة والمطلقة على المدينة المقدسة، ووافق على وجود سيادة فلسطينية كاملة على بعض احيائها، وبناء سيادة مشتركة في اجزاء اخرى، واقر بتحمل اسرائيل مع آخرين المسئولية عن نكبة اللاجئين وتشريدهم وقبل عودة بعضهم الى ارضهم التي صار اسمها اسرائيل، ووافق على قيام دولة فلسطينية مستقلة على ما يزيد عن 95% من الاراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وعلى تسليم حدود قطاع غزة مع مصر للدولة الفلسطينية، ويدور نقاش تفصيلي حول استئجار قواعد عسكرية محدودة المساحة ولفترة زمنية محددة، في الاغوار ومرتفعات رام الله والخليل، وايضا، حول وجود طرف ثالث يتولى مراقبة المعابر والحدود مع الاردن، وسلم باخلاء عدد كبير من المستوطنات وابقاء آلاف من المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية اذا قبلو بذلك.
الى ذلك بينت الجولة الاولى من مفاوضات كامب ديفيد وموافقة باراك على تمديدها، ان مصالحه الخاصة والعامة ومجريات المفاوضات قادرة على اجباره على خفض سقف توقعاته. وكل ما يتمناه هي العودة الى اسرائيل باتفاق ينقذ مستقبله السياسي ويحفظ ماء وجهه في مواجهة انصاره وخصومه، ويساعده في لملمة اوضاع ائتلافه الحزبي الذي بناه في اطار “اسرائيل واحدة”، ويسهل له اعادة تشكيل حكومته التي فرط عقدها قبل ذهابه الى كامب ديفيد.
واذا كانت خطوط ولاءات باراك انتقلت بعد اسبوع واحد فقط من المفاوضات من اللون الاحمر الى الاصفر، فبمزيد من الصمود الفلسطيني والدعم العربي والاسلامي للحقوق الفلسطينية، التي يتمسك بها مفاوضوه، يمكن ان تتحول لاءات باراك في هذه القمة او بعدها من الاصفر الى الاخضر، لاسيما وان مفعول الاسباب التي دفعته لقبول تمديد اقامته يزداد أكثر كلما تأخر أكثر. ومفيد تذكير الجميع ان كثير من اللآت الاسرائيلية القديمة المتعلقة بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبالانسحاب من اراضي الضفة والقطاع التي احتلت عام 1967، وبقيام دولة فلسطينية غرب نهر الاردن..الخ تبدلت وتغيرت في10 سنوات عدة مرات، وبخاصة بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991.
واذا كان الرئيس كلينتون فشل في الجولة الاولى في ثني ابوعمار عن التمسك بقرارات الشرعية الدولية، فاظنه لن ينجح في الثانية، خصوصا وان ابوعمار استوعب موجة الضغط االامريكية ـ الاسرائيلية الاولى، وهي الاقوى والاعنف، ومن صمد اكثر من اسبوعين بامكانه الصمود بضع ايام اخر. واعتقد ان ابو عمار لن يقبل انهاء النزاع قبل حل قضايا القدس واللاجئين، والانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران 1967، بصورة ترضي شعبه في الداخل والخارج. واذا كان لا مصلحة لاي من الاطراف الثلاثة في فشل القمة، فالبحث عن حل نهائي شامل كامل مضيعة للوقت، واقصى ما يمكن تحقيقه في هذه القمة هو التوصل الى “اتفاق اطار” يجمل ما تم الاتفاق عليه في كل القضايا، ويسهل قيام الدولة الفلسطينية، ويؤكد عزم الطرفين على متابعة المفاوضات، وستكون المفاوضات بدء من اواخر هذا العام بين الدولة الفلسطينية والدولة العبرية. وفي كل الاحوال سيشتد الصراع داخل المجتمع الاسرائيلي، وسيسجل التاريخ ان النظام السياسي العربي والاسلامي بشقيه الرسمي والشعبي تقاعس عن مساندة الفلسطينيين ابان خوضهم معركة الدفاع عن اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.