عملية السلام قبل وبعد قمة كامب ديفيد الفلسطينية / مجلة دراسات
بقلم ممدوح نوفل في 05/08/2000
مقدمات القمة وظروف انعقاد القمة
عندما دعا الرئيس الأمريكي بيل كلنتون رئيس منظمة التحرير ورئيس الوزراء الإسرائيلي يهود باراك إلى لقاء قمة يوم 11تموز/ يوليو الماضي، في كامب ديفيد قرب العاصمة الامريكية واشنطن، استبعد احتمال الفشل، وظن أن لقاء عرفات ـ باراك، وجها لوجه في خلوة طويلة بعيدة عن الأضواء، هو السبيل الوحيد لإنقاذ عملية السلام من مأزقها، خصوصا بعد جمود المفاوضات، وتوتر العلاقات بين الرجلين وبلوغها ذروة خطرة. ومضى كل منهما إلى غايته في طريق خاص، واستبدلا لغة الحوار بلغة الاستفزاز والتحدي، وبدأ الواحد يهدد الآخر باتخاذ قرارات سياسية وإجراءات عملية حساسة، من جانب واحد، لا تأخذ بعين الاعتبار مواقف الطرف الآخر ومصالحه. كان أخطرها تهديد باراك بضم بعض الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي إلى دولة إسرائيل في حال تنفيذ قرار المجلس المركزي الفلسطيني المتعلق بإعلان قيام الدولة على جميع الأراضي التي احتلت في العام 1967، وعاصمتها القدس. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي سبق باراك بالتهديد باللجوء للقوة واستخدام الأسلحة والأساليب القتالية اللازمة للحفاظ على مصالح إسرائيل، وقمع أية حركة فلسطينية تستهدف تغيير الوضع القائم، ومحاولة بسط السيادة على الأرض دون اتفاق.
إلى ذلك، رفض الرئيس كلينتون وأركانه في الخارجية والبيت الأبيض الاستماع لنصائح الفلسطينيين بتأجيل القمة بضع أسابيع، ريثما يتم إنجاز التحضيرات الضرورية لضمان نجاحها. واستخفوا بأقوال بعض الفلسطينيين لهم: ” إنكم ترتكبون خطئا فادحا إن اعتقدتم إن ياسر عرفات يمكن أن يوقع على اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، وبخاصة ما يتعلق منها بالسيادة الفلسطينية على القدس الشرقية التي احتلت في العام 1967. وتصور كلينتون بناء على تقييم الإسرائيليين، ونصائح مستشاريه، أن الظروف ناضجة للخروج من القمة باتفاق، حده الأدنى توقيع “اتفاق إطار موسع” يتضمن حلولا وأفكار تمرّحل قضايا الحل النهائي المطروحة على طاولة المفاوضات، وحده الأقصى “إعلان مبادئ” يتضمن أسس تسوية نهائية وشاملة للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المزن. واعتقد كلينتون أن أي من الاتفاقين يكفي لتنفيس احتقان عملية السلام، الشديد، الذي عاشته قبل القمة، ويزودها بشحنة جديدة تؤمن تجاوز قطوع 13 أيلول 2000، تاريخ انتهاء مفاوضات الحل النهائي. ويمحو به ما علق بسجله الشخصي من فضائح قبل مغادرة البيت الأبيض، ويعزز فرص نجاح نائبه آل غور في انتخابات الرئاسة، وفوز زوجته بمقعد في مجلس الشيوخ، ويدخل التاريخ كصانع سلام، نجح في تسوية اعقد وأطول قضية شهدها القرن العشرين. وأظن أن اختيار الرئيس كلينتون منتجع كامب ديفيد كمكان لعقد القمة الثلاثية، كان بمثابة استعارة مقصودة للاستعانة بإيحاءات المكان ودلالاته. حيث تحققت فيه ابرز إنجازات الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، على يد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، حين جمع الرئيس المصري السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن عام 1978 في قمة ثلاثية في كامب ديفيد، قادت إلى اتفاقات حملت اسم المكان، ودشنت مرحلة جديدة، في حياة المنطقة مشحونة بالمتغيرات والإضرابات,
وأي تكن دوافع الرئيس كلينتون للدعوة للقمة قبل تنفيذ باراك استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو بعضها على الأقل، فالدعوة تمت بعد ان هدرت الإدارة الأمريكية وقتا ذهبيا من عمر عملية السلام، والقمة عقدت على خلفية إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي على عقدها، وبعد ان أقفل، بتخطيط مسبق، كل الطرق المؤدية إلى تحقيق تقدم في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية بمساريها الانتقالي والنهائي، وجعل لا لون ولا طعم ولا رائحة لاستمرارها. وأفشل كل الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية في التوفيق بين مطالب عرفات ولاءات باراك المتعلقة بقضايا المرحلة الانتقالية، وأعاد الوزيرة اولبرايت بعد زيارتها الأخيرة للمنطقة إلى واشنطن بخفي حنين. ولم يتردد باراك في القول للرئيس الأمريكي، عبر الهاتف: لا لتنفيذ الاتفاقات المرحلية، ولا انسحاب جديد من الضفة الغربية، ولا إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين ولا تسليم لقرى العزيرية وابوديس والسواحرة المجاورة للقدس..الخ إذا لم تعقد القمة.
ونجحت خطة باراك وكان له ما أراد، ووافق الرئيس الأمريكي على توجيه الدعوة وفق أجندة باراك، وبأمل ان يحمل معه أفكار جديدة تساعد في الوصول الى اتفاق. ومارس سيد البيت الأبيض ضغوطا شديدة على الطرف الفلسطيني للمشاركة في القمة في الزمان والمكان اللذين حددهما بتنسيق مسبق مع باراك. ولم يكن بمقدور هذا الطرف، الأضعف في المعادلة، تحمل تبعات رفض حضورها. ولم يشأ أبوعمار أن يوتر العلاقة مع الإدارة الأمريكية حول مسالة زمان ومكان القمة. وحاول، قبل سفره الى واشنطن، التسلح بموقف عربي موحد بشأن تسوية قضيتي القدس واللاجئين، باعتبارهما قضيتين يتداخل فيهما الشأن الوطني الفلسطيني بالقومي العربي. لكن محاولته باءت بالفشل واصطدم بضعف النظام السياسي الرسمي العربي وتفككه، ورضوخه للضغوط الأمريكية، التي عارضت انعقاد قمة مصغرة أو واسعة، بحجة حماية لقاء باراك ـ عرفات من أية تأثيرات سلبية. وتوجه ابوعمار، على مضض، الى كامب ديفيد قبل تحقيق الحقوق الفلسطينية المحقة التي تضمنها اتفاقات المرحلة الانتقالية، والتي أقر كلينتون وأركانه بمشروعيتها وعدالتها، ووافق، عمليا، على دمج بقايا قضايا المرحلة الانتقالية بقضايا الحل النهائي، وتعهد ابوعمار علنا بالتمسك بالثوابت الفلسطينية.
وبعد الموافقة الفلسطينية على القمة اعتقد كلينتون وباراك وأركانهما أن حالة الضعف التي تعانيها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، تفرض على القيادة الفلسطينية قبول ما يعرضه باراك بعد إدخال ما يمكن إدخاله من تحسينات أمريكية عليها. وظنوا ان عرفات مستعد لدفع الثمن المطلوب مقابل إشباع رغبته الجامحة في إعلان قيام الدولة والشروع في تجسيد سيادتها على الأرض قبل 13 أيلول2000. وتوهم باراك أن بإمكانه الانضمام إلى قائمة عظماء إسرائيل من بوابة كامب ديفيد، والتوصل إلى اتفاق شامل يرسّم إنهاء النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مقابل، فقط، اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية بدون حدود، ولا تكون القدس عاصمتها، وتقوم على قرابة 90% من أراضي الضفة والقطاع.
وتوجه بارك إلى واشنطن وبيده صيغ حلول معدة مسبقا، وراهن على ضغط الرئيس الأمريكي على عرفات لتقديم تنازلات تتعلق بالأرض والقدس واللاجئين. وتلقى وعدا أمريكيا بممارسة الضغط المطلوب، وإرغام عرفات على تقديم تنازلات تقرب الموقف الفلسطيني من الموقف الإسرائيلي. وتعهد باراك لشعبه بالعودة من كامب ديفيد دون المساس بلاءاته الخمس الشهيرة، أو خدش أي من خطوطه الحمراء. ولم يفكر في اصطحاب بيريز أو بيلين او رامون أو يوسي سيريد الخبراء في الشؤون الفلسطينية حتى لا يقاسموه إكليل الغار الموهوم. والواضح ان باراك حبذ كامب ديفيد كمكان ليذكر شعب اسرائيل وخصوصا جمهور المعارضة اليمينية وقيادتها بالاتفاقات التي وقعها مناحيم بيغن ابرز زعمائهم، وأدت إلى انسحاب إسرائيلي شامل من سيناء وتدمير مستوطنة ياميت بإشراف الجنرال شارون.
وعشية بدء القمة الثلاثية تحدث الرئيس كلينتون عنها باعتبارها توفر فرصة لحل شامل ونهائي للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المزمن، والاتفاق حول جميع قضايا الخلاف الجوهرية. وكان يمكن لحديث الرئيس الأمريكي ان يكون مفهوما لو انه اعترف بان الدعوة مغامرة محاطة بأخطار كبيرة، اقدم عليها مجبرا، بعد أن وضعه باراك أمام خيار ثنائي إما القمة أو سفك الدماء. وصارح العالم بان القمة محاولة أخيرة لمنع عملية السلام من الانهيار ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي “الكامب” أخضعت الوفود لبرتوكول صارم تسبب بإلحاق أذى معنويا كبيرا بالعلاقة الداخلية الفلسطينية، وبخاصة داخل القيادة الفلسطينية عندما حال البروتوكول الأمريكي دون لقاء أبو عمار بأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وفرض تعتيما إعلاميا شاملا حول ما يدور في المفاوضات، ولم تجد حنان عشراوي مبررا لوجودها في واشنطن كناطق إعلامي باسم الوفد، بعد أن فقدت المقومات الأساسية لأدائها مهمتها، وتعذر حصولها على ما يلزم من معلومات حول ما يدور داخل غرف المفاوضات.
مجريات محادثات “الكامب” وجديدها
في ظل تلك الأجواء المشحونة بالتوتر، بدأ الرئيس كلينتون لقاءاته الثنائية والثلاثية مع رؤساء الوفود. وفي اللقاء الأول تم تثبيت إطار المحادثات وآلية المفاوضات وقواعدها. وتم الاتفاق، بناء على طلب باراك ودعم كلينتون، طرح كل القضايا الكبيرة والصغيرة، السهلة والمعقدة، على طاولة المفاوضات دفعة واحدة. واستبعدوا فكرة مرحلة قضايا الحل النهائي وتجزئتها، وتم تثبيت مبدأ الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق على شيء. واتفق الزعماء الثلاث ان كل ما يطرح على طاولة المفاوضات من أفكار تصبح لاغية تماما في حال عدم التوصل إلى اتفاق. واتفقوا على إجراء المفاوضات في عدة مستويات، “رؤساء وفود، ولجان تفاوض أساسية، وأخرى على مستوى خبراء”. وتم تشكيل لجان مواضيع أهمها لجنة القدس، ولجنة اللاجئين، واللجنة الأمنية. واسند ابوعمار رئاسة الأولى إلى ياسر عبدربه، الذي سبق واستقال من رئاسة مفاوضات الحل النهائي، لأسباب تتعلق بفتح قناة سرية بين شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير عن الجانب الإسرائيلي، وأبو العلاء وحسن عصفور عن الفلسطيني. وكلف ابوعمار محمود عباس “ابومازن” منسق أعمال لجان التفاوض، بقيادة الثانية، واسند رئاسة الثالثة إلى العقيد محمد دحلان، قائد جهاز الامن الوقائي في محافظات غزة.
وبعد بدء المحادثات، ودخول المفاوضين في صلب قضايا النزاع، بدأت رياح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تهب على كامب ديفيد، وكشفت جذور الصراع كلها ووضعتها في مواجهة الجميع، وراحت تدفع بسفينة الرئيس كلينتون في اتجاه مغاير للذي اشتهاه وتمناه. وبينت المحادثات الماراثونية الثنائية والثلاثية أن الفراغات التي تركها ابو علاء وشلومو بن عامي في مسودة “اتفاق الإطار”، الذي صاغاه قبل القمة، كثيرة ومركبة، ولا يستطيع باراك وعرفات تعبئتها كلها خلال فترة قصيرة. وظهر للجميع أن الأهداف التي حددها الرئيس كلينتون غير واقعية، يصطدم تحقيقها بقضايا خلاف كثير شديدة الحساسية ومعقدة. وبدأت هذه الأهداف، يوما بعد يوم، بالتحول، تحت ضغط وقائع المفاوضات ومجرياتها، إلى أحلام أمريكية، يتطلب تحقيقها حصول معجزة، في زمن ولت فيه المعجزات.
وفي المحادثات طرحت أفكار أمريكية وفلسطينية وإسرائيلية كثيرة ومتنوعة، عكست مصالح كل طرف ورؤياه لسبل حل كل قضية من قضايا الخلاف. ودوما كانت الأفكار والمواقف الأمريكية ـ الإسرائيلية متقاربة ومتجانسة وكثيرا ما كانت متطابقة. الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس عرفات، ودفعه إلى رفع سقف مطالبه، وتسلح بقرارات الشرعية الدولية، وبنصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وبأسس عملية السلام التي نصت عليها رسالة الدعوة الامريكية السوفيتية إلى مؤتمر السلام الذي عقد في مدريد عام 19991. وتشدد ابو عمار في مواقفه، وتبنى مواقف بشأن القدس واللاجئين والحدود ألغت الأفكار الواردة في ورقة بيلن التي لخصها من حواراته الطويلة مع ابومازن، وألغت أيضا ما استخلصه الوزير شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير من لقاءاتهم مع ابوعلاء وباقي الأطقم الفلسطينية المشاركة في مفاوضات الحل النهائي. وتكتم حول الحد الأدنى للموقف الفلسطيني، وانعكس تشدد ابو عمار أوتوماتيكيا على عمل كل اللجان، وعلى علاقة أعضاء الوفد الفلسطيني بالوفدين الأمريكي والإسرائيلي، وبلغت أحيانا درجة تبادل الشتائم والتهديد.
وبعد اقل من أسبوع من المحادثات الشاقة تبددت من سماء كامب ديفيد غيوم الأمل بالتوصل الى اتفاق. ومع دخول الرؤساء الثلاث في بحث مستقبل مدينة القدس ومصير اللاجئين تمسك ابو عمار بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بهما، وطالب بانسحاب إسرائيل من كل مناطق القدس العربية التي احتلت عام 1967، والإقرار بمبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين وتعويضهم عن الأضرار المادية والنفسية التي لحقت بهم في مدى نصف قرن. وارتفعت درجات الحرارة في بارومتر المفاوضات، وزاد التوتر في العلاقات الفلسطينية ـ الأمريكية والفلسطينية ـ الإسرائيلية. وبدلا من طرح مشاريع حلول أمريكية واقعية ومنصفة ومحاولة فرضها على الطرفين، رفع الرئيس كلينتون وتيرة ضغطه على الرئيس عرفات ومارس الابتزاز السياسي، وتجاوز في كثير من الأحيان المألوف في الأعراف الدبلوماسية. وصمد ابوعمار ورفض التوقيع على أي اتفاق ينص على إنهاء النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ولا يتضمن حل قضيتي القدس واللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. ورد قدر المستطاع، وضمن الممكن في إطار الحرص على المصالح الفلسطينية العليا، على كل ما خرج عن المألوف في العلاقات بين الدول. وفي رده لم يخرج ابوعمار عن الأعراف الدبلوماسية والتقاليد العربية، وهدد بالانسحاب من المفاوضات، وأمر مرافقيه اكثر من مرة تجهيز حقائبهم للرحيل، وتصلب في مواقفه اكثر فاكثر، وتمترس خلف قرارات الشرعية الدولية. وذكّر عرفات الرئيس كلينتون بالتزامات الإدارات الأمريكية السابقة بشأن حل مشكلتي القدس واللاجئين، وبتعهداته التي قطعها على نفسه خلال سنوات المفاوضات، ولم تنفذ. وكاشف عرفات الرئيس كلينتون بأنه لا يستطيع التصرف بمصير اللاجئين والقدس بمفرده، ولا بد من العودة الى عدد من زعماء العرب والمسلمين والمسيحيين والفاتيكان والوقوف على وجهات نظرهم، قبل التوقيع على اي اتفاق يمس وضع المدينة والمقدسات الإسلامية والمسيحية.
ومع ازدياد تمسك ابوعمار بالحقوق الفلسطينية وقرارات الشرعية الدولية، بدأت ملامح انهيار القمة تلوح في الأفق، وتأكد باراك أن الضغوط الأمريكية واختلال ميزان القوى لصالحه، وضعف قدرات السلطة الفلسطينية في مواجهة قوة إسرائيل العسكرية، غير كافية لإرغام عرفات على تقديم تنازلات تنتقص مساحة الأرض التي احتلت في العام 1967، وتتضمن تنازلا عن السيادة الفلسطينية على القدس، وتمس حقوق اللاجئين التي ضمنتها قرارات الشرعية الدولية. ومع اقتراب موعد قمة الدول الثمانية الصناعية في طوكيو، بدأ الرئيس كلينتون بالبحث عن مخارج تنقذ الموقف وتحول دون فشل القمة. وأجرى اتصالات مطولة مع عدد من الملوك والرؤساء العرب طالبهم فيها تشجيع عرفات على تليين موقفه في المفاوضات حول القدس، ولم يتفاعلوا مع طلب كلينتون، وساندوا مواقف عرفات، وشجعوه على رفض التوقيع على أي اتفاق ينتقص من السيادة فلسطينية على القدس. وتصلب عرفات، وتأكد الرئيس كلينتون، عبر لقاءاته اليومية الثنائية والثلاثية الطويلة، ان قضايا الخلاف المطروحة على جدول الأعمال، شائكة، وحساسة، ولها أبعاد رمزية عند الطرفين، وخصوصا قضيتي القدس واللاجئين. وان قدرة باراك وعرفات على التصرف بهما محدودة، وليس بمقدور أي منهما تقديم تنازلات تقرب الواحد منهما من الحدود الدنيا التي تلبي قناعة الآخر وتحقق له أهدافه الاستراتيجية، وتمكّنه من تمرير الاتفاق في إطار مرجعيته الرسمية والشعبية. وآثر كلينتون تأجيل الاعلان عن انتهاء القمة الى ما بعد عودته من اليابان، كي لا يدخل قمة طوكيو ضعيفا يجرر فشله. وطلب من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي البقاء في “الكامب” ومواصلة التفاوض برعاية الوزيرة اولبرايت، واستجابا لطلبه. وخلال فترة غيابه أمضى الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي إجازة قضاها كل طرف حسب ظروفه وحالته النفسية.
وبعد عودته من طوكيو تقدم الرئيس كلينتون بمقترحات تفصيلية لحل قضايا الخلاف الأساسية، وكان مفهوما للوفد الفلسطيني ان جميع الاقتراحات والأفكار الأمريكية تطرح بعد تداول مع الإسرائيليين. وتجاوب باراك مع تمنيات الرئيس الأمريكي، وخفّض سقف توقعاته، وتراجع عن بعض مواقفه، تحت ضغط الخوف المشترك من نتائج فشل القمة على أوضاعهما الداخلية. وبدأت لاءآت بارك الخمس بالتحول الى “لعمات”، وتحركت خطوطه الحمراء مثل حركة أضواء إشارات المرور، وتغير لونها الأحمر وصار أقرب إلى اللون الأصفر. صحيح ان باراك ظل طيلة فترة المفاوضات متمسكا بمدينة القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ورفض العودة الى حدود ما قبل 5 حزيران 1967، ورفض الاعتراف بمسئولية إسرائيل عن النكبة التي حلت باللاجئين عام 1947-1948ورفض الإقرار بحقهم في العودة إلى أرضهم حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، وأصر على بقاء المستوطنات، ورفض وجود جيش أجنبي غربي نهر الأردن..الخ، لكن الصحيح أيضا، انه تنازل خلال أسبوعين فقط من المفاوضات عن معظم أطروحته السابقة. وافق من حيث المبدأ على قيام دولة فلسطينية مستقلة على قرابة 95% من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967. وتراجع عن المطالبة بفرض سيادة إسرائيلية على معابر الضفة والقطاع مع مصر والأردن، ووافق على تطبيق سيادة فلسطينية عليها بوجود طرف ثالث. واستبدل فكرة ضم مناطق واسعة من الأغوار ومرتفعات رام الله والخليل لاعتبارات أمنية، باستئجار بعض القواعد العسكرية، محدودة المساحة، ولفترة زمنية محددة. وسلم بإخلاء عدد كبير من المستوطنات وإبقاء آلاف من المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية إذا قبلوا بذلك، ولم يرفض فكرة تبادل الأراضي كسبيل لمعالجة ضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة لإسرائيل. واقر بتحمل إسرائيل مع آخرين المسئولية المعنوية عن نكبة اللاجئين وتشريدهم، وقبل بعودة بعضهم إلى أرضهم التي صار اسمها إسرائيل، وأصر على أن يتم ذلك في إطار إنساني وتحت بند لم شمل العائلات. وتراجع عن المطالبة بسيادة إسرائيلية كاملة ومطلقة على مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي، وبقائها عاصمة موحد لإسرائيل وحدها، ووافق على اقتراح أمريكي بتقسيم المدينة الى ثلاثة قطاعات: قطاع تحت السيادة الإسرائيلية، وقطاع تحت السيادة الفلسطينية، وقطاع ثالث يوضع تحت سلطة الفلسطينيين الإدارية. ويتكون قطاع السيادة الفلسطينية، حسب الاقتراح الامريكي، من أحياء محيطة بالبلدة القديمة، مع وجود اذرع له ممتدة الى داخلها. والأحياء المعنية بعضها واقع خارج نفوذ بلدية القدس الحالية مثل أبو ديس والعيزرية والسواحرة. أما الاحياء الشمالية الواقعة ضمن حدود بلدية اولمرت، بيت حنينا وقلنديا والرام وشعفاط وعناتا، فالاقتراح الأمريكي الموافق عليه إسرائيليا يمنح السلطة الفلسطينية سيادة كاملة عليها. والأحياء الجنوبية راس العامود وجبل المكبر والثوري تحصل فيها السلطة الفلسطينية على حقوق إدارية كاملة.
الى ذلك، اقترح شلومو بن عامي “العلماني” نموذجا أطلق عليه “حكم خاص بالبلدة القديمة”. وحسب اقتراحه يحصل الفلسطينيون داخل أسوارها على حقوق إدارية كاملة وحكم ذاتي شبه كامل، بشرط بقاء القانون المطبق على هذه المناطق إسرائيليا. وإضافة لذلك تفرض إدارة دينية فلسطينية كاملة على الحرم القدسي يطلق عليه اسم “سيادة دينية” او “سيادة على أملاك الغائب”، وطالب رسميا، ولأول مرة، ان يحصل الإسرائيليون على زاوية صلاة في الحرم القدسي بالتنسيق مع الحاخامية اليهودية الرئيسية.
الى ذلك، رفض عرفات المقترحات الأمريكية والإسرائيلية بوضوح لإنها تنتقص حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في المدينة المقدسة، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. واعتبر ابو عمار أطروحات الإسرائيليين بشأن القدس خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنها، من جهة أخرى، مشوهة وخطيرة جدا، لاسيما الحديث عن تقاسم السيادة على ما فوق ارض الحرم القدسي الشريف وتحته، واتهم الإسرائيليين بالتخطيط لهدم المسجد الاقصى، وتحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى حرب دينية. ووجه خطابا للرئيس كلينتون طالب فيها بإنهاء المحادثات، مشيرا إلى عدم وجود مقترحات بناءة بشان القضايا الجوهرية المتعلقة بالقدس واللاجئين والحدود، وانه لا يمكن أن يتخيل حلا عادلا بدون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وبدون سيادة فلسطينية كاملة على جميع الأماكن المقدسة، ورفض ابو عمار الغوص في موضوع تعويض اللاجئين قبل إقرار باراك بحقهم من حيث المبدأ في العودة حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194. وطلب تحضير موكبه لمغادرة منتجع كامب ديفيد، وتجهيز طائرته لمغادرة الأراضي الأمريكية.
حاول الرئيس كلينتون إنقاذ القمة من الانهيار، وقدم في الليلة الأخيرة ثلاثة خيارات لحل قضية القدس: الأول تأجيل حلها لمدة تتراوح من سنتين وحتى 25 سنة، والثاني سيادة فلسطينية على حيين في البلدة القديمة وحكم ذاتي إداري في أحياء حول البلدة القديمة، والثالث وضع معاكس، أي حكم ذاتي في البلدة القديمة وسيادة في الأحياء المحيطة بها. ولم يرفض باراك هذه المقترحات ووافق عليها بواسطة مبعوثه شلومو بن عامي، واعتبر بعض أعضاء الوفد الإسرائيلي الموقف الذي اتخذه باراك لم يسبق له مثيل. ووافق باراك على نقلها الى عرفات، ونقلها صائب عريقات لكنه عاد بعد فترة قصيرة برد سلبي. عندها قرر الرئيس كلينتون إنهاء القمة، وراح هو وأركانه يبحثون في سبل الإعلان عن انتهائها بأقل الخسائر الممكنة، وبما يضمن بقاء عملية السلام على قيد الحياة.
نتائج القمة واسباب فشلها
بعد اكثر من أسبوعين من المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الشاقة والمكثفة في كامب ديفيد، اضطر الرئيس كلينتون يوم 24 تموز / يوليو الماضي الى الإعلان في مؤتمر صحفي عن انتهاء أعمال القمة دون اتفاق. ورفض الاعتراف بفشله وفشلها، وأشار إلى أن المحادثات حققت نتائج هامة، وأنها كانت غير مسبوقة فيما يتعلق بالمجالات التي تطرقت إليها. وأكد تعهد الطرفين “مواصلة جهودهما للتوصل في أسرع وقت ممكن إلى اتفاق يشمل جميع ملفات المتصلة بقضايا الحل الدائم”، وان الطرفين، يتفهمان، “أهمية عدم القيام بأعمال أحادية الجانب من شانها التأثير على نتيجة المفاوضات، وان خلافاتها ستحل فقط عن طريق مفاوضات تجري بحسن نية”، وأشار إلى تعهدهما بإشاعة مناخ ملائم للمفاوضات بعيدا عن الضغوط والترهيب والتهديد بالعنف. ولم يكتف الرئيس بيل كلينتون بالضغوط الشديدة التي مارسها ضد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في القمة، والتي خرجت عن المألوف في الأعراف الدبلوماسية وبلغت حد التهديد، بل تابعها، وألمح في مؤتمرة الصحفي “التأبيني” إلى أن ياسر عرفات لم يكن مرنا بما فيه الكفاية، ولم يتقدم على طريق الحل بمقدار بما تقدم باراك. ونسي او تناسى أن الفلسطينيين دفعوا فاتورة حسابهم كاملة مقدما قبل مشاركتهم في مؤتمر مدريد عام 1991، وقدموا تنازلات عن حقوق كثيرة من اجل صنع السلام في المنطقة، واعترفوا بدولة إسرائيل قبل قيام دولتهم فوق أقل من ربع أرضهم التاريخية.
وبدلا من تحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل جهوده في القمة الثلاثية، ومعاقبة وزير خارجيته اولبرايت، ومنسق عملية السلام الشرق أوسطية دينس روس، ومستشاره لشئون الأمن القومي سندي بيرغر، الذين ورطوه في عقد القمة قبل توفر الحد الأدنى لنجاحها، واظهروا جهلا بشخصية عرفات وتفكيره، واصل كلينتون الأخذ بنصائحهم، وانحاز لمواقف باراك بقوة، وأشاد عبر التلفزيون الإسرائيلي بحكمته في الدفاع عن مصالح إسرائيل الاستراتيجية، وشجاعته في اقتحام الصعاب من اجل تحقيق أهدافها. وبعد اقل من أسبوع من انتهاء القمة، صعّد هجومه ضد الفلسطينيين وطوره، وقصف مواقفهم العادلة والمشروعة دوليا بنيران أسلحته الثقيلة، وأدان علنا تفكيرهم بإعلان قيام دولتهم فوق أرضهم فور انتهاء الفترة المحددة لانتهاء مفاوضات الحل النهائي كما حددتها الاتفاقات. وهددهم بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس قبل نهاية هذا العام، وبوقف كل صنوف المساعدات الدولية التي تقدم لهم إذا أعلنوا قيام دولتهم من جانب واحد، علما انه شخصيا أقر في أيار 1999 حقهم في إعلانها، وتمنى عليهم تأجيلها حتى أيلول 2000 وتعهد لهم بالاعتراف بها إذا قبلوا تمنياته.
واي تكن دوافع الرئيس الأمريكي بيل كيلنتون من كيل المديح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، فإقدامه على فتح معركة مباشرة ضد الفلسطينيين، يعكس حالة الإحباط الشديد التي يعيشها بعد كامب ديفيد. وتشير إلى انه فقد الأمل بإمكانية إنجاز الاتفاق التاريخي الذي انتظره طويلا. وتصريحاته الأخيرة تفتح الأبواب أمام خروج العلاقة الفلسطينية ـ الأمريكية عن سياقها الذي سارت فيه منذ التوقيع على اتفاق اوسلو عام 1993، في حديقة البيت الابيض، وحتى قمة كامب ديفيد، وتدفعها باتجاه تطور سلبي خطير، لا يخدم المصالح الفلسطينية، ويلحق أضرارا واسعة بالسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا، متابعة جهودها كراع لعملية السلام على مسارها الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ومحاولة إنجاز ما لم تحققه القمة الثلاثية. ومواقف كلينتون وأركانه، خلال القمة وبعدها، عمقت شك الفلسطينيين في نزاهة الراعي الأمريكي، وأضعفت ثقتهم بعملية السلام. وتعزز الاتجاهات الفلسطينية والعربية المتطرفة والمتشددة التي تشكك بجدواها، وذلك على حساب تقدم الاتجاهات الواقعية المنخرطة فيها، وتقوي الأصوات الفلسطينية الداعية للإقتداء بنهج حزب الله في استرداد الحقوق اللبنانية وطرد الاحتلال من جنوبه. وتكرس قناعة القيادة الفلسطينية، التي شكلتها قبل وخلال كامب ديفيد، بان لا أفق للتوصل إلى حل مقبول “وليس عادل” في عهد إدارة كلينتون ـ اولبرايت. وأظن ان مواقف كلينتون في القمة وتصريحاته بعدها تضعف حماس القيادة السورية الجديدة نحو إحياء مفاوضاتها مع الإسرائيليين حول الجولان، في الفترة الباقية من عهد كلينتون، وتدفعها للتريث وانتظار نتائج انتخابات الرئاسة ومجلس الشيوخ والكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
الى ذلك، أكدت مفاوضات كامب ديفيد ان تساهل ابوعمار في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق على القضايا المصيرية. ولا يمكن إنكار ان القضية الفلسطينية استعادت من بوابة كامب ديفيد موقعها الطبيعي كقضية متفجرة، وتجدد الحديث على كل المستويات أن منطقة الشرق الأوسط لن تشهد السلام والاستقرار إذا لم يتم حل هذا النزاع المزمن، وأقرت جميع القوى الدولية من جديد، بأن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لا يزال مستمرا، وهو الأساس، وان ما وقع من اتفاقات بين الطرفين لا يحول دون انفجاره بصورة دموية في كل لحظة. وبصرف النظر عن مواقف إدارة كلينتون ونتائج القمة على الأرض، لا يمكن لأشد معارضي عملية السلام تجاهل المعركة القاسية التي خاضها الوفد الفلسطيني في كامب ديفيد، وإنكار صمود ابوعمار في مواجهة الضغوط الأمريكية الشديدة التي تعرض لها. وتصديه بنجاح للإبتزاز الإسرائيلي، وتكريسه حالة من الندية في المواقف الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والتكافؤ في المفاوضات، بعكس الصورة التي تشكلت عن حالة المفاوض الفلسطيني في مفاوضات المرحلة الانتقالية.
وبجانب ذلك، هزت قمة كامب ديفيد النظام السياسي الإسرائيلي هزة عنيفة. وانهمرت على الكنيست، قبل وخلال وبعد انعقادها، مشاريع حجب ثقة عن الحكومة تلتها محاولات تطويق الحكومة بقوانين تقيد حركتها في المفاوضات، وخصوصا بشان القدس واللاجئين. ومع ان حكومة باراك لم تظهر، حتى الآن، الاستعداد الحقيقي لدفع متطلبات السلام واستحقاقاته، واستمرارها على مواقفها لا يعني سوى شيء واحد :هو قتل عملية السلام في منتصف الطريق، لم يقف الأمر عند هذه الحدود، وسارعت أحزاب معسكر اليمين من شاس إلى المفدال مرورا بليفي إلى الانسحاب من الحكومة، تاركة الحكومة ورئيسها بدون أغلبية وعرضة للاهتزاز وعدم الاستقرار. ورغم حرص باراك على القول في مؤتمره الصحفي “التابيني” الذي عقده قبل صعوده طائرته عائدا إلى تل أبيب: “انه طالما لم يتم إبرام اتفاق سلام فان كل الافكار الإسرائيلية التي طرحت في المفاوضات لاغية”. إلا إن عمليات الانسحاب من الائتلاف الحكومي توالت، وتوجت بانسحاب كتلة ليفي، بعد تهديد استمر بضع أسابيع، واتهمت باراك بتقديم تنازلات خطيرة في كامب ديفيد، تمس المحرمات الإسرائيلية. ودعمت شاس انتخاب ممثل الليكود موشيه قصاب رئيسا لدولة إسرائيل. وصوتت الكنيست بأغلبية بسيطة على قراءة أولى لصالح حل نفسها، والتوجه لانتخابات برلمانية مبكرة. ومع فشل قمة كامب ديفيد وتمزق “حزب إسرائيل واحدة” وسقوط بيريز، تعيس الحظ، في انتخابات الرئاسة، دخل حزب العمل بزعامة باراك مرحلة من التراجع، مرشحة للتواصل في الشهور القادمة، وقد يكون ختامها سقوط حكومة باراك، يليها انتخابات تعيد اليمين الى مباني رئاسة الوزراء. وفي كل الأحوال ستظل الكنيست في الشهور القادمة مسرحا مفتوحا لوقائع تبرهن على بقاء النظام السياسي الإسرائيلي أسير التطرف والتوسع ومناهضة السلام الحقيقي. والواضح أن اتفاقية سلام مع الفلسطينيين أو السوريين هي وحدها القادرة على إنقاذ باراك وإخراج حزب العمل من الأوضاع المزرية التي وصلها في عهد باراك. فهل هذا ممكن، أم أن قناعات باراك وتدهور أوضاع قيادة حزب العمل وضعف كلينتون في نهاية عهده تعرقل التوصول لهكذا اتفاق؟
مستقبل عملية السلام بعد قمة كامب ديفيد
قبل مغادرتهما واشنطن، وبعد وصولهما غزة وتل أبيب، حرص الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على القول ان قمة كامب ديفيد لم تفشل وان لم يتم التوصل إلى اتفاق. ولم ينتظرا وصول المبعوث الأمريكي إلى المنطقة وبادرا إلى استئناف مفاوضاتهما. وعقدت أول جولة محادثات حول قضايا المرحلة الانتقالية يوم تموز30 تموز الماضي. وبصرف النظر عن اقوال الطرفين، فالكل يعرف، تمام المعرفة، ان ما لم يحققه كلينتون وعرفات وباراك في قمتهم الماراثونية لن يحققه صائب عريقات وعوديد عيران حتى لو انضم لهما دينس روس، وتابعت أعمالهما الوزيرة اولبرايت. وأي تكن مبرراتهما لاستئناف المفاوضات، بعد اقل من أسبوع من عودتهما من واشنطن، فالواضح ان استئنافها تم في سياق حرص متبادل على تغطية فشل قمة كامب ديفيد، وتنفيس الاحتقان الذي بلغ ذروته في الشارع الفلسطيني ضد الاحتلال وضد السياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل، وتعطيل انفجاره قبل استكمال عملية المراجعة التي تجريها كل الأطراف، وتحديد توجهاتها اللاحقة. إلا أن الحرص على بقاء عملية السلام على قيد الحياة لا يعني إطلاقا، في ظل الظروف المحيطة بها، توفر إمكانية فعلية للتجاوز عقدتي القدس واللاجئين وتحقيق تقدم جوهري، فالتطورات الأخيرة على الساحة الإسرائيلية بينت أن اسرائيل حكومة ومجتمع ونخب سياسية دخلت مرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي، وهي ليست جاهزة لصنع السلام العادل والدائم والشامل مع العرب بعامة ومع الفلسطينيين على وجه الخصوص. وفي كل الأحوال ستبقى عملية السلام في الأسابيع والشهور القادمة تكافح من اجل البقاء، واعتقد ان هناك عناصر كثيرة قادرة على إبقائها على قيد الحياة، بصيغة وأخرى. فكل الأطراف ليست معنية في تدميرها خصوصا بعد إحراز تقدم جدي في كافة مواضيع القضايا الجوهرية، والبديل المرئي مدمر للجميع. لقد جرب الطرفان حل خلافاتهم عبر الصراع المسلح فتعقد الصراع وتأخر الحل ودفعت شعوب المنطقة ثمن ذلك وكان على حساب تقدمها. وقول باراك “أن كل التنازلات والأفكار التي طرحها الوفدان غير ملزمة” لا يلغي أنها كلها بقيت على طاولة المفاوضات بانتظار استكمال بحثها. وإذا كان تدهور أوضاع باراك الحزبية والحكومية يجعل البحث في الأسابيع القليلة القادمة عن حل نهائي، شامل وكامل، مضيعة للوقت، فواقع الصراع يجعل التركيز على ما يمكن تحقيقه وتأجيل، إلى إشعار آخر، ما لم يمكن الاتفاق حوله، مخرجا من المأزق. ومن حق الفلسطينيين التمسك بتنفيذ بقية باستحقاقات المرحلة الانتقالية، وخصوصا تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، وإطلاق سراح المعتقلين، والمطالبة ببسط السيادة الفلسطينية على القرى الثلاث العيزرية وابوديس والسواحرة، وعلى كل الأراضي المصنفة تحت بند ب، ورفض إدراج إعلان قيام الدولة قبل نهاية العام ضمن قائمة القضايا المؤجلة.
وإذا كانت القمة بينت ان السيادة على القدس الشرقية التي طالب بها الطرفان كانت حجر العثرة الرئيس في طريق محادثات كامب ديفيد، ودفعت عملية السلام الى مأزقها القاتل الذي تعيشه الان، فهذا يكفي ليدل على ان مصيرها لا يجوز ان يكون رهنا باتفاق متسرع يفرض على الفلسطينيين بقوة الإكراه، وبسبب ضيق الوقت وإنقاذ باراك. فالتجربة التاريخية أكدت ان لا أمن ولا استقرار في الشرق الأوسط إذا لم تستقر أوضاع هذه المدينة المقدسة. وأكدت أيضا ان التسويات المفروضة وغير المرضي عنها من أصحابها لا تدوم وتبقى النار تحت الرماد. لا شك في ان معركة انتزاع الحقوق الفلسطينية في المدينة المقدسة طويلة وقاسية. ويمكن للفلسطينيين اعتبار الاقتراح الأمريكي الموافق عليه إسرائيليا، والذي يقسم عمليا مدينة القدس والأحياء المحيطة بها إلى مدينتين منفصلتين، قدس عاصمة إسرائيل وأخرى عاصمة فلسطين، بداية يمكن البناء عليها، والشيء ذاته، ينطبق على الاقتراحات الإسرائيلية التي أقرت بوجود نوعا من الجزر الخاضعة للسيادة الفلسطينية في البلدة القديمة.
ومع وصول الوضع الداخلي الإسرائيلي حافة التهديد الحقيقي لعملية السلام، يتبادر للذهن بإلحاح سؤال يتعلق بالموقف الأمريكي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها ضد مواقف قيادة م ت ف والسلطة الفلسطينية، لاسيما وأننا نراه، الآن، يلوذ بصمت القبور إزاء الضربات المميتة التي تتعرض لها عملية السلام على يد الإسرائيليين. أن يغضب كلينتون بسبب فشله بعد كل الجهود المضنية التي بذلها في كامب ديفيد أمر مبرر، وان يتحرك لإنقاذ سمعته في نهاية عهده ولإنقاذ باراك من الورطة التي زج نفسه فيها أمر قد يكون مفهوم، ولكن أن يختار الفلسطينيين لتنفيس غضبه وإنقاذ سمعته فأمر يبعث على القلق والريبة في دور الإدارة الأمريكية، في هذه المرحلة، كوسيط محايد، وراع وحيد لعملية السلام، ويغذي سيناريوات العنف التي يريد ان يتجنبها. ويشكك المراقبون في نيته دعوة عرفات وباراك الى قمة جديدة قبل انتهاء المرحلة الانتقالية في 13 أيلول القادم، ويبدو انه بات أميل الى حل النزاع على نار حامية، وجمع الرجلين بعد اشتعال النيران على ارض الضفة والقطاع.
لا شك أن بإمكان إدارة كلينتون معاقبة الفلسطينيين شعبا وسلطة ورئيس، ولا أحد يقلل من قدرتها على تنفيذ العقاب قبل رحيلها، والضغط على دول العالم وإجبار بعضها وهيئة الأمم المتحدة على مشاركتها في جلد اللاجئين في كل مكان، وإطالة أمد عذابهم في مخيماتهم، بسبب مظاهراتهم ضد السياسية الأمريكية المنحازة لإسرائيل، وتأكيد تمسكهم بحقوقهم في العودة والتعويض، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية، وبإمكانها أيضا قطع المساعدات الدولية عنهم وإضعاف سلطتهم، وتشجيع الحكومة الإسرائيلية على المضي قدما في عدم تنفيذ الاتفاقات التي تم توقيعها وعدم الانسحاب، وهدم المسجد الأقصى بدعوى أنه يقوم على أنقاض هيكل سليمان. لكن سلوكها هذا لا يجلب الاستقرار للشرق الأوسط، ولا يصنع سلاما دائما، ويصفي عملية البحث عن السلام من أي مضمون، ويلحق أضرارا جسيمة بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
وفي كل الأحوال، مفيد تذكير الجميع أن كثير من اللآت الإسرائيلية القديمة المتعلقة بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبالانسحاب من أراضي الضفة والقطاع التي احتلت عام 1967، وبقيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن..الخ تبدلت وتغيرت في10 سنوات عدة مرات، وبخاصة بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991.
ويبقى السؤال مطروحا: ماذا سيفعل العرب إزاء الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية على الفلسطينيين للقبول بحل ظالم؟ وماذا سيفعل المسلمون والمسيحيون بعد ان حول كلينتون الصراع حول القدس إلى صراع بين الأديان ؟ وحتى ظهور جواب مقنع لأهل القدس في كل حاراتها داخل السور وخارجه، سيسجل التاريخ إن النظام السياسي العربي والإسلامي بشقيه الرسمي والشعبي تقاعس عن مساندة الفلسطينيين إبان خوضهم معركة الدفاع عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.