آفاق عملية السلام والتوجهات الفلسطينية المطلوبة
بقلم ممدوح نوفل في 13/09/2000
في لقائه على هامش اعمال قمة الالفية الثالثة، طلب الرئيس كلينتون من رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تأجيل اعلان قيام الدولة على الارض خمسة اسابيع، واعطاء فرصة للجهود الامريكية والدولية المبذولة من اجل التوصل الى اتفاق شامل ينهي النزاع الفلسطيني ـ اسرائيلي. وبالرغم من شكوكه الكبيرة بامكانية التوصل لهذا الاتفاق طلب ابوعمار والوفد الفلسطيني المفاوض من المجلس المركزي تأجيل اعلان قيام الدولة على الارض. ووافق المجلس، على مضض، بأغلبية 85 صوتا على التأجيل وعارضه 15 عضوا. ولقي هذا القرار ارتياحا امريكيا اسرائيليا واوروبيا، قابله انزعاج جماهيري فلسطيني واسع، ونظر اليه باعتباره حيلة مكشوفة هدفها تقطيع الوقت. فهل سينعكس هذا الارتياح الدولي على وضع عملية السلام ويخرجها من مأزقها، ويساعد في التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي قبل الانتخابات الامريكية ؟
بينت مفاوضات كامب ديفيد، وما تلاها من اتصالات ولقاءات، كان آخرها لقاء الرئيس كلينتون بباراك وعرفات في نيويورك، ان قضايا الخلاف بين الطرفين لا تزال كثيرة وكبيرة جدا، ورغم ذلك لا يزال أركان الادارة الامريكية يعتبرون النافذه الضيقة التي فتحها باراك، في “الكامب”، تكفي لحل عقدة القدس خلال بضع أسابيع، وان حلها يفتح الباب على مصراعيه للتوصل الى اتفاق شامل ينهي النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. ويضغطون بكل السبل على القيادة الفلسطينية للموافقة على؛ إما تأجيل حل قضية القدس والموافقة على انهاء النزاع قبل حلها، او قبول الحل الذي اقترحه باراك والذي يقوم على: تقسيم المدينة الى ثلاث قطاعات؛ البلدة القديمة داخل الاسوار، والاحياء الواقعة خارج الاسوار، والقرى المجاورة للمدينة. على ان يمنح الفلسطينيون رعاية كاملة للاماكن الاسلامية المقدسة فقط الواقعة في القطاع الاول، ويقام فيه مجمع رئاسي يتمتع بسيادة فلسطينية، مع بقاء السيادة الاسرائيلية على بقية هذا القطاع وضمنه المسجد الاقصى وساحاته. اما القطاع الثاني فيبقى بكامله تحت السيادة الاسرائيلية ويمنح الفلسطينيون صلاحيات بلدية تدار من قرية ابو ديس. ويوضع القطاع الثالث (القرى المحيطة) تحت السيادة الفلسطينية باستثناء قريتين، لم يحددوهما، تبقيان تحت السيادة الاسرائيلية، وتقيم اسرائيل شبكة طرق تربط مواقع الاستيطان بعضها ببعض.
وتعتقد ادارة كلينتون وحكومة باراك، وفقا لقراءتهم الخاصة لمفاوضات الطرفين في “الكامب” وقبلها في استكهولم، بان هناك امكانية كبيرة لتسوية قضايا الحل النهائي الأخرى. فقضية اللاجئين يمكن حلها، كما يتصورون، بالتوطين والتعويض ولم شمل بضع آلاف من العائلات بشروط تعجيزية تنسف الفكرة من اساسها، منها، حصر العودة ببضع مئات كل سنة فقط، على ان يكون هؤلاء من الباقين على قيد الحياة من لاجئي عام 1948، وان تكون صلة قرابتهم مع اهلهم في اسرائيل صلة مباشرة. واعترف الجانب الاسرائيلي بانه تصرف، بقانون، بأموال صندوق املاك الغائبين، وقالوا ليس لديهم مال وعلى الدول الغنية تمويل صندوق التعويضات. وقدروا عدد اللاجئين الفلسطينيين700 ألف لاجئ فقط، وطرحوا بانهم استوعبوا700 ألف قادم من الدول العربية وطالبوا بتعويضهم، ايضا. ويتصور اهل البيت الابيض ان مشكلة المستوطنين والمستوطنات يمكن معالجتها بتجميع معظمها في اطار تبادل 8 ـ 10% من الاراضي، ووضع بعضها الآخر، المتناثر، تحت السيادة الفلسطينية. والمياه يمكن معالجة قضيتها بالاستغلال المشترك للاحواض الجوفية والبحث عن مصادر اضافية. اما قضيتي الامن والحدود فعلاجهما، كما يتصرون، يمكن ان يتم بتطوير التنسيق الامني الثنائي، ووجود رقابة اسرائيلية على المعابر، واستئجار مساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية وبناء 3 ـ 5 قواعد عسكرية اسرائيلية، و3 مناطق للرقابة العسكرية، وبقاء الاجواء والشواطئ الفلسطينية في كل الاحوال تحت السيطرة الاسرائيلية التامة.
الى ذلك، ترى القيادة الفلسطينية في هذه الاطروحات الاسرائيلية المدعومة امريكيا، اولا، انها ليست نهائية وقابلة للنقصان وخصوصا ما يتعلق منها بالسيادة على منطقة الحرم القدسي، وثانيا، ان الحد الادنى الذي يمكن ان تنزل اليه المواقف والمطالب الاسرائيلية خلال الاسابيع الاربعة او الخمسة الباقية يستحيل ان يقترب من الحدود الدنيا للمواقف الفلسطيني بشان حل مشكلة القدس وبقية قضايا الحل النهائي دون استثناء، وبخاصة قضيتي اللاجئين والارض. واذا كان الجانب الاسرائيلي، مسنودا بموقف امريكي، نجح عبر وسائل الاعلام في تحجيم ازمة المفاوضات، وحصر الخلاف بالسيادة على المسجد الاقصى وساحاته، فحقائق الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وقائع مفاوضات الطرفين اكبر من ان تخفى بالتعتيم عليها في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة. صحيح ان باراك وعرفات أكدا بعد لقائهما الاخير بالرئيس كلينتون، تمسكهما بعملية السلام، ومتابعة المفاوضات في المنطقة بمشاركة امريكية، الا ان عدم تبدل موقفيهما في لقاءات نيويورك، وتشددهما بعدها، يؤكد ان لا افق للتوصل الى اتفاق شامل خلال الفترة القصيرة الباقية من عهد الرئيس كلينتون. وتلكؤ الجانب الاسرائيلي في استئناف المفاوضات شاهد على ذلك. الى ذلك، يمكن القول ايضا ان لا مصلح لباراك وعرفات في مساعدة رئيس امريكي راحل بعد اسابيع قليلة من البيت الابيض في نيل جائزة حل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، ويفضلان منحها للرئيس الجديد. خصوصا وانهما يعرفان ان كلينتون ضعيف، واشبه ببطة عرجاء في نهاية عهده كما يصفه الناس الامريكيون، ولا يقوى على اقناع الكونغرس تغطية نفقات اي اتفاق جديد ومتطلباته الكبيرة والمتنوعة.
ويدرك اركان الادارة الامريكية اكثر من سواهم ان استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية في المنطقة بمستوى اقل من الرؤساء لن يغير مواقف الطرفين، وانها، اذا استؤنفت، سوف تبقى تدور في حلقة مفرغة، حتى لو جندت الادارة الامريكية كامل طاقاتها وتنازلت عن تفردها بعملية السلام واشركت طرفا ثالثا، وتبنت فكرة وضع الاماكن الدينية الاسلامية في القدس تحت سيادة دولية او سيادة اسلامية. فلا افق لتراجع باراك، في ظل ازمته الحكومية، عن مواقفه وشروطه التي تدعو الى بقاء السيادة الاسرائيلية على القدس باعتبارها عاصمة اسرائيل الابدية وحدها. كما لا يمكنه تبديل مواقفه وقناعاته في شهر، وطي صفحة شهواته الامنية والتوسعية في الارض الفلسطينية، والاعتراف بمسؤولية اسرائيل التاريخية عن تشريد اللاجئين. واظنه سيبقى يرفض اي حل جزئي يعيد للفلسطينيين مساحات مهمة من الارض، ولن يقبل اتفاقا جديدا لا يتضمن انتهاء النزاع الفلسطيني الاسرائيلي.
ويخطئ كل من يعتقد انه بالترهيب والترغيب يمكن دفع مرونة عرفات، خلال شهر، نحو التفريط بالسيادة على المدينة المقدسة بكل حاراتها داخل السور وخارجه. وزلة لسان بعض اعضاء الوفد الفلسطيني حول امكانية اعطاء اسرائيل سيادة في منطقة حائط البراق/ المبكى، صححها رئيس م ت ف خطيا، وتمسك بالسيادة الفلسطينية الكاملة على القدس الشرقية كما كانت تحت السيادة الاردنية قبل حرب حزيران في العام 1967.
لقد قدمت القيادة الفلسطينية في دورة المجلس المركزي الاخيرة تنازلا جديدا من اجل السلام، وتحملت سلبيات تراجعها عن قرار سابق، ورضيت دفع ثمن ذلك جزءا من رصيدها الشعبي كي لا يحمل الفلسطينيون مسئولية تفجير عملية السلام، ويتحولون الى “فشة خلق” امريكية اسرائيلية. الى ذلك، ربط المجلس تأجيل اعلان الدولة باجراءين عمليين، الاول، شروع اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني والتشريعي باتخاذ الاجراءات التنظيمية الضرورية لاعلان الدولة. والثاني رفض التهديدات الاسرائيلية، وطلب الى القيادة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لتحضير الشعب الفلسطيني لمواجهة اسوء الاحتمالات وابرزها فشل المفاوضات، واقدام حكومة باراك على اعمال عسكرية عدوانية انتقامية ضد الشعب وقيادته الوطنية، واستغلال المتطرفون الاسرائيليون توتر الاوضاع بين الطرفين وتنفيذ اعمال ارهابية متنوعة. خصوصا وان تصريحات عدد من القادة الامنيين الاسرائيليين وعملياتهم العدوانية الاستفزازية الاخيرة في سردا وعصيرة الشمالية، تشير الى انهم يرفضون الحلول السلمية المطروحة، ويرون فيها تنازلات تعرض امن اسرائيل لخطر استراتيجي ولا تديم لهم استمرار الامتيازات المعنوية والمادية التي يتمتعون بها باعتبارهم حماة امن ووجود اسرائيل.
واذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه، كما يقول المثل الشعبي، فملامح المرحلة باتت واضحة، اخطرها جمود عملية السلام فترة مديدة وسعي اسرائيل الى خلق حقائق جديدة على الارض، وخصوصا في القدس. واذا كان الامل ضعيفا بالتوصل الى اتفاق قبل منتصف شهر تشرين الاول/ اكتوبر القادم، فهذا الامل سوف ينعدم كليا بعد الانتخابات الامريكية في تشرين الثاني/ نوفبر، وستنتظر شعوب الشرق الاوسط انتقال الرئاسة الامريكية، اواخر كانون الثاني2001 الى الرئيس الجديد. وقد تضطر بعدها الى الانتظار فترة أطول ومشاهدة حفل سيرك الانتخابات الاسرائيلية الجديدة المتوقع افتتاحه بداية الصيف القادم. ومن الان وحتى ذاك التاريخ يتوقع ان تشهد العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية تدهورا شديدا، وقد يتخللها مصادمات عنيفة، خصوصا وان اهل الضفة والقطاع لم يعودوا قادرين على تحمل البقاء تحت الاحتلال، وتحمل ممارساته العدوانية ضد ارضهم وكرامتهم الوطنية، ولا مصلحة لهم، في كل الاحوال، في تقديم تنازلات جوهرية من اجل انقاذ باراك، فهي مجازفة سياسية غير مضمونة، ولا احد يضمن فوزه في الانتخابات المقبلة، ناهيك عن كون التنازلات المطلوبة تخترق المحرمات الوطنية والقومية والاسلامية وتمزق وحدة الشعب الفلسطيني، وتصل حد التفريط بحقوقه الوطنية التي اقرتها الشرعية الدولية.