بارك استبدل طريق السلام بالحرب والمواجهات الاعنف قادمة
بقلم ممدوح نوفل في 06/10/2000
رغم تحذير القيادة الفلسطينية الادارة الامريكية والحكومة الاسرائيلية، في محادثات قمة كامب ديفيد، من ان المس بالمسجد الاقصى، ولو بالكلام، يعني زرع رياح التطرف والعنف القومي والديني في المنطقة، ويهيئ المناخ لهبوب عواصف تطيح بعملية السلام وما نشأ عنها من علاقات سلمية بين اسرائيل والدول العربية كافة، الا ان الرئيس الامريكي ورئيس وزراء اسرائيل واركانهما استهتروا بالتحذير الفلسطيني، وبرأي الزعماء العرب الذي انضموا لهذا التحذير واكدوه. وظل كلينتون وباراك أسيرين، الاول، لفكر الدولة العظمى التي لا يعصى لها أمر، والثاني لعقلية المحتل التي تحتقر من تحتلهم. وبدلا من من قراءة مدلولات فشل “قمة الكامب” بصورة موضوعية، واصل رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير خارجيته بالوكالة حديثهما حول الحق التاريخي لليهود في منطقة الحرم القدسي الشريف، وهيجا غرائز المتطرفين الاسرائيليين متديين وعلمانيين. وفتحا باب المزايدات داخل المجتمع الاسرائيلي.
ومضيا قدما في استفزاز مشاعر الفلسطينيين والعرب، مسلمين ومسيحيين، تحت سمع وبصر حمائم حزب العمل وقوى السلام في اسرائيل، وتوجا مواقفهم العنجهية والاستفزازية بتسهيل زيارة شارون لمنطقة الحرم القدسي لتحقيق اهداف سياسية وحزبية وشخصية، واستطلاع موقع لكنيس يهودي يدعو لبنائه فوق المصلى المرواني الذي اسماه “اصطبلات داوود”. واي تكن اهداف هذه الزيارة الاستفزازية، فقد كانت شرارة كافية لتفجير موجة الغضب الشعبي الفلسطيني، واشعال انتفاضة الاقصى، وتحريك الشارع العربي المأزوم. وتفسيرات الثنائي باراك وبن عامي للزيارة ودفاعهم عنها وتوفير الحماية لها، لم تقنع احدا، بما في ذلك اولبرايت واركان ادارة كلينتون المنحازين لاسرائيل بشكل اعمى فج. وكانت تبريراتهم لها بمثابة عذر اقبح من ذنب، لم تستطيع تمويه اهداف تسهيلها.
والقراءة الموضوعية لمواقف حكومة باراك، وسير المصادمات من اليوم الاول وحتى التاسع تؤكد وجود خطة مبيتة لاستدراج القيادة الفلسطينية وتفجير الازمة الكامنة، واستخدم باراك شارون حصان طروادة لتثبيت توجهات سياسية وايدلوجية وتحقيق اهداف مباشرة اهمها؛ اولاـ محاولة فرض شروطه وفهومه للتسوية النهائية بالقوة على الطرف الفلسطيني بعد فقدانه الامل بقدرة الادارة الامريكية، في نهاية عهدها، على تجريعها للفلسطينيين، ويأسه من اقناع عرفات، بالّتي هي احسن، الحوار، التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي، حسب ساعته الاسرائيلية الخاصة، يحقق انهاء النزاع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي، ومكاسب كبيرة أخرى، يوظفها في معالجة ازمته الداخلية الخانقة، ويتوجه بها الى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة مضمونة النتائج. وتوهم باراك واركانه ان ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف الفلسطينيين ترعب القيادة الفلسطينية وتجبرها على توقيع الاتفاق. ثانيا ـ محاولة باراك تبرير موقفه امام ناخبيه واستبدال درب السلام والمفاوضات الذي التزم به امامهم بطريق القوة ولغة العنف. بأمل ضمان مستقبله السياسي بشطب فكرة تشكيل حكومة مصغرة تنهض بمتطلبات صنع السلام مع العرب بالاعتماد على اعضاء الكنيست العرب العشرة، وبدأ بمد جسور جديدة، على جثث الفلسطينيين، للعلاقة مع الاحزاب الدينية المتزمتة، ومع زعيم الليكود شارون، على طريق بناء تشكيل ائتلاف حكومي جديد مع اليمين يجنبه الذهاب الى انتخابات مبكرة، خاسرة حتما. ومعرفة باراك الدقيقة بتاريخ شارون المدموغ بالانتهازية السياسية، وبتغليب مصالحه الشخصية على الحزبية، تشجعه على المضي قدما بهذا التوجه، خصوصا بعد تبرئة المدعي العام الاسرائيلي ساحة نتنياهو واعتزامه العودة الى منافسة شارون على زعامة حزب ليكود. ثالثا ـ محاولة الثنائي باراك وبن عامي، احياء وتجديد موقع هيكل سليمان، على ابواب القرن الجديد، كركيزة نظرية اساسية في العقيدة الصهيونية لجذب اليهود، وليس لبناءه على الارض، بعد تآكلها في العقود الاخيرة من القرن العشرين.
واذا كانت الاسابيع الثلاث القادمة كفيلة بكشف حقيقة نوايا باراك واهدافه من تفجير معركة الحرم وتوقيتها، فالمؤكد ان انتفاضة الاقصى، وما رافقها من تفاعلات اقليمية ودولية، تمثل حدا فاصلا بين نهاية مرحلة كانت واضحة المعالم، وبداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد. بدأت بتهييج المشاعر الدينية في عموم ارجاء المنطقة، وسفك القوات الاسرائيلية، بقرار سياسي مبيت، دماء أكثر من الفين من أطفال وشباب وشيوخ ونساء فلسطين في الضفة والقطاع. ومع سفكها فتح جرح الفلسطينيين العميق المزمن، في الجليل والمثلث والنقب “عرب اسرائيل”. وانهارت الافكار والمشاريع الاسرائيلية والامريكية المتعلقة بحل مشكلة القدس، ودخلت قضية هذه المدينة في صلب المسار السوري في حال تجدد المفاوضات السورية الاسرائيلية. وبات الافق القريب مقفلا في وجه اي اتفاق سياسي. وفتحت ابواب المنطقة، من جديد، امام موجة قوية جديدة من العنف. ودخلت عملية السلام على المسار الفلسطيني في سبات عميق. واكدت لقاءات باريس وغياب اسرائيل عن لقاءات شرم الشيخ ان باراك غير ناضج لاستيعاب دروس الانتفاضة، التي يراها عرفات وكل ما رافقها من حركة عربية ودولية واسعة، منحة جاءته من الله، في أحلك الظروف، دفاعا عن اولى القبلتين وثالث الحرمين.
ونجاح باراك في اطالة عمر حكومته بتجديد تحالفه مع حزب شاس او حزب ليكود، او فشل في ذلك وذهب الى انتخابات مبكرة، خياران كلاهما علقم في حلق عملية السلام، ويعززان الاستخلاص المذكور اعلاه، ويمددان سريان مفعوله سنتين اضافيتين بالحد الادنى. فالذهاب الى الانتخابات المبكرة دون اتفاق مع الفلسطينيين يؤدي الى فوز اليمين فيها، كما يؤكد اركان حزب العمل وكل الخبراء في الشئون الاسرائيلية. وتشكيل حكومة وحدة وطنية يعني تفجير حزب العمل من داخله، وتراجع باراك عن الافكار الاولية التي طرحها لحل مشكلة القدس التي رفضها الفلسطينيون في كامب ديفيد وبعده. والمضي في اجراءات توسيع البقع الاستيطانية داخل البلدة القديمة وخارجها، وتوسيع حدود بلدية القدس لتشمل مستوطنة جبعات زئيف قرب رام الله، ومستوطنة معاليه ادوميم المطلة على البحر الميت.
الى ذلك بينت انتفاضة الاقصى لجميع القوى الاقليمية والدولية، انحطاط مواقف ادارة كلينتون كقوة عظمى وكراعي لعملية السلام. وتراجع دورها دفعة واحدة، وهبط من مستوى البحث عن حل لمشكلة القدس وقضايا الحل النهائي الاخرى وتوقيع اتفاق في حديقة البيت الابيض ينهي النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، الى مستوى البحث عن أماكن لجمع باراك وعرفات وترطيب الاجواء بينهما، وتجميد المصادمات ووقف اطلاق النار. وظهرت هذه الادارة، في نهاية عهدها، وكأن اقصى ما تطمح له ارضاء رئيس الحكومة الاسرائيلية وتقطيع الوقت وتمرير الانتخابات الامريكية دون تشويش شرق اوسطي.
واذا كانت حماقة باراك هيجت المشاعر الدينية، وفجرت انتفاضة الاقصى، فموقف ادارة الرئيس كلينتون السلبي من هذه الحركة الشعبية، وفاشية جيش الاسرائيلي وسادية القيادة الاسرائيلية، كما ظهر في تصريحات عديد المسئولين الامريكيين وفي اجتماعات مجلس الامن الدولي، عقّد الموقف، واضعف دور الراعي الامريكي في معالجة الازمة الجديدة. واكد للشارع العربي وللناس في الضفة والقطاع مضي ادارة كلنتون ـ روس ـ اولبرايت قدما في دعم مواقف اسرائيل، وتوفير الغطاء الامريكي للقيادة الاسرائيلية للاستمرار في عملية القتل وتصعيد عمليات التنكيل، التي هزت مشاعر الانسانية في كل انحاء الارض باستثناء اركان النظام الرسمي العربي والاسلامي المرعوبون من عقاب الادارة الامريكية. وجاء رفض الوزيرة اولبرايت في اجتماعات باريس وشرم الشيخ، اقتراح عرفات المدعوم فرنسيا ومصريا، بتشكيل لجنة تحقيق دولية، وتبنيها حلا امنيا وليس سياسيا، لانتفاضة الاقصى، وزاد في الطين بله، ولم يساهم في اطفاء النار المشتعلة في الضفة والقطاع، بل زودها بمقومات الاستمرار. حقا، لقد ضيعت ادارة الرئيس كلينتون فرصة تحقيق تقدم نوعي على طريق السلام العربي الاسرائيلي اكثر من مرة، وهدرت من عمر عملية صنع السلام على المسار الفلسطيني سنوات ثمينة وارتكبت بحقها جرائم كبيرة وصغيرة كثيرة، وبات غير مأسوف فلسطينيا وعربيا على رحيلها وهي تجرجر فشلها في صنع السلام في المنطقة.
بعد قمة كامب كامب ديفيد وقبل انتفاضة الاقصى قدّر بعض العرب والفلسطينيين في السلطة والمعارضة بان عرفات سيفرط بالحقوق الفلسطينية وسيقدم التنازلات التي تطلبها الادارة الامريكية واسرائيل، وجاءت وقائع الحياة وأكدت خطأ هذه التقديرات. واذا كانت قوى النظام السياسي الفلسطيني والعربي لم تتعود مراجعة مواقفها والاعتراف باخطائها، فالمصلحة الوطنية الفلسطينية والقومية المشتركة تفرض اعادة النظر في المواقف التي ثبت خطأها، والشروع برسم توجهات سياسية جديدة تقوم على اساس: ان لا افق في هذه الفترة لاتفاق حول قضايا الحل النهائي، حتى لو تجددت المفاوضات، وهذا يكفي لتوحيد الصفوف في اطار انتفاضة الاقصى وتحويلها الى نمط حياة للشعب الفلسطيني وقيادته وقواه الوطنية. فقدر الفلسطينيين في مرحلة تخاذل النظام الرسمي العربي، والامم المتحدة، وانحطاط الفكر الانساني عند القوى الدولية المهيمنة، تقديم ارواح ودماء اطفالهم ضريبة لاسترداد ابسط حقوقهم الطبيعية والانسانية. واذا كان هذا الامر قدرا لا مفر منه فتقليص نسبة الخسائر ضرورة وطنية وممكنة.