باراك يتجه نحو التصعيد وزعزعة أعمدة السلطة الفلسطينية

بقلم ممدوح نوفل في 17/11/2000

في كل اجتماعاته الداخلية واتصالاته الاقليمية والدولية يحمّل باراك السلطة الفلسطينية ورئيسها مسئولية تفجير “العنف الجاري في المناطق” وضمنها ما يتم في الاراضي الخاضعة لسيطرة القوات الاسرائيلية. ويرفض الاعتراف ان تلاعبه بالاتفاقات ومحاولة اذلال القيادة الفلسطينية وفرض مفهومه للتسوية، وتطاوله على الاماكن الفلسطينية المقدسة، هي التي فجرت هذه الاحداث العنيفة. ودفعت الشعب الفلسطيني الى الخروج من زاوية اليأس والقنوط من عملية السلام، والنزول للشوارع، والقيام بدور مباشر في تحقيق تطلعاته نحو الخلاص من الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال، واسناد سلطته في رفضها الخضوع للشروط المذلة. ويعتقد باراك ان رئيس السلطة الفلسطينية قادر على وقف “العنف” اذا اراد، ومتى شاء، ويطالب العالم مساعدته في الضغط على عرفات، وحمله على اصدار اوامره باعادة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل انفجار الانتفاضة في 29/9/2000.
وعوض البحث عن حلول سياسية واقعية للأزمة، والاقرار بان واقعا جديد قد نشا بعد خمسين يوما من الصدامات الدموية، يصر باراك واركانه العسكريين ومستشاريه السياسيين على اعادة عقارب الزمن الى الوراء، ويتمسكون بحلول امنية للازمة، وبمقولة اسرائيلية قديمة خلاصتها؛ الفلسطينيين يقبلون غدا ما يرفضوه اليوم شرط اظهار الحزم في وجوههم وعدم تدخل آخرين في حل الخلاف معهم، ويستخدمون القوة كوسيلة اقناع. ويشترط باراك وقف “العنف” او تخفيضه قبل العودة الى طاولة المفاوضات واستئناف المحادثات حول مقترحاته “السخية”، التي قدمها في كامب ديفيد، بشان قضايا الحل النهائي. ويرفض، في الوقت ذاته، اصدار اوامره للجيش الاسرائيلي بوقف عمليات القتل التي يمارسها بدم بارد، والانسحاب الى مواقعه القديمة التي كان يتمركز فيها قبل الاحداث. ويغلق الابواب امام الاستعانة بقوات دولية، ابسط المقترحات التي ربما تساعد في تهدئة الاوضاع، وتسهل على القيادة الفلسطينية اقناع شعبها بان تضحياته لم تذهب هدرا، وتعوضه عن تضحياته البشرية الغالية وخسائره المادية الجسيمة، وتهيئ المناخ لاعادة عملية السلام الى مسارها الصحيح.
الى ذلك، يقف الراعي الامريكي عاجز عن التأثير في الاحداث، وبدلا من تقدم ادارة الرئيس كلينتون، في نهاية عهدها، بمبادرات سياسية منصفة تستند الى قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتفرض على باراك تنفيذ ما ينفذ من الاتفاقات التي وقعها، نرى هذه الادارة، لا تبذل الجهد مطلوب لاعادة باراك الى جادة السلام، وتساوي بين القاتل والضحية، وتعرقل اجراء تحقيق دولي بالجرائم التي ارتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين. وتعارض ارسال قوات دولية لمراقبة الاوضاع في الضفة والقطاع، ووضع حد للمجزرة المستمرة على يد القوات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد السلام. وبعد لقائه الاخير بالرئيس كلينتون عاد باراك وهو أكثر حماسا للمضي قدما في مواقفه غير المنطقية التي طرحها في كامب ديفيد. وامتنع كلينتون عن اتخاذ موقفا متوازنا، وايد طلب باراك وقف العنف اولا، وصمت على مواقفه واجراءاته العسكرية والاقتصادية ضد السلطة الفلسطينية. وبعد الانتخابات الامريكية تفرغ كلينتون للضغط على عرفات لوقف العنف او خفض مستواه.. تارة عبر الهاتف، واخرى غير مباشرة عبر الوسطاء. ويتناسى هو واركانه ان ليس بمقدور القيادة الفلسطينية مجتمعة القفز عن قرارات القمتين العربية والاسلامية، والتخلي، اكراما لسيد البيت الابيض، عن الاسناد السياسي والمعنوي والمادي التي قدمتهما لشعب فلسطين. وليس بمقدور عرفات القفز فوق جثث 250 شهيد الى غرف المفاوضات، قبل طمأنة أهلهم في المدن والقرى ان تضحياتهم لم تذهب هدرا، وطمأنة قرابة 8000 جريح ان دمائهم لم تنزف سدى، وحصوله على ضمانات مقنعة للناس انهم لن يظلوا تحت احتلال ساعة رحيله مجهولة.
وبصرف النظر عن موقف الرئيس كينتون ونوايا الطيبة..؟ فتمسك باراك “بوقف العنف” اولا، يعني انه يرغب ببقاء الاوضاع على ما هي عليه فترة أطول، يسعى خلالها الى زعزعة اوضاع السلطة الفلسطينية ووضعها في مواجهة شعبها. وتجريد المفاوض الفلسطيني، قبل دخول غرف المفاوضات، من كل اوراق القوة، الاقليمية والدولية، التي وضعتها الانتفاضة بيده. ويبدو ان تواصل الانتفاضة اكثر من 6 أسابيع، لم ترفع موقف راعي عملية السلام وقادة حزب العمل والجنرال “الذكي” باراك، الى مستوى الادراك بان محاولتهم مكشوفة وبائسة، وهدفهم لن يتحقق لانه يقوم على القوة والاكراه. الى ذلك، يتحدى باراك العرب والمسلمين ويستخف بقرارتهم المعتدلة، ويوجه، يوميا، للفلسطينيين، قيادة وشعب، التهديد تلو التهديد، ويذّكرهم، على مسمع العالم، بان جيش الدفاع الاسرائيلي لم يستخدم الا جزء يسيرا من طاقاته القتالية. وينسى باراك مقولة رابين الشهيرة ان لا حل عسكري للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي المزمن، وان الاعمال الحربية تؤجج نيران الصراع في المنطقة، وتغذي التطرف عند الطرفين، وتعمق الحقد والكراهية بين الشعبين. وان قائده، رابين، جرّب، قبل اكثر من سبع سنوات، وقف الانتفاضة الفلسطينية الاولى، بقوة السلاح، وتكسير العظام، وفشل. وبادر، وجلس مع قيادة م ت ف “القيادة العليا لتلك الانتفاضة” وتوصل معها الى اتفاق اوسلو، وتوقفت الانتفاضة تلقائيا وبدون طلب او أوامر من أحد.
ويسجل لباراك زعيم حزب العمل تفوقه بامتياز على نتنياهو زعيم ليكود في تخريب معظم علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية التي بنتها خلال فترة السلام، وانه نجح بتفوق في اعادة منطقة الشرق الاوسط الى ما كانت عليه قبل عشر سنوات، حيث كان اطراف الصراع يتباهون بطريقة استعراضية بقدراتهم العسكرية وعملياتها القتالية. ونسى السيد الجنرال انه خلع بدلته العسكرية، وان قتاله الطويل والمرير ضد الفلسطينيين، وضمنها فترة رئاسته للاركان، وعملياته الخاصة الناجحة ضد قيادتهم في بيروت وتونس، لم تنيسهم حقوقهم المغتصبة، ولم تضعف تصميمهم على انتزاعها مهما غلت التضحيات.
لا شك بان رفض باراك الاقرار بالمستجات الفلسطينية والاقليمية التي أحدثتها الانتفاضة، يعكس رغبة في استمرار الازمة مع الفلسطينيين الى ما بعد انتهاء ولاية الرئيس كلينتون، كحد أدنى. ورفضه التسليم بان اقتراحه تقاسم السيادة في منطقة الحرم القدسي الشريف سقط في اول ايام الانتفاضة، مع الضحايا الذين حصدهم رصاص جيشه في ساحة المسجد الاقصى. ورفضه الاعتراف بان فكرة بقاء المستوطنات على ارض الضفة والقطاع دفنت مع اول شهيد قتله المستوطنون اثناء قطفه زيتونه، يؤدي فقط الى تطوير المصادمات بين الفلاحين الفلسطينيين والمستوطنين. الى ذلك، فان تخاذل قوى السلام في اسرائيل عن مواجهته، يطلق العنان لعبقريته العسكرية المدمرة للعلاقة بين الشعبين. ودعم الادارة الامريكية لمواقفه المتطرفة، وصمت اوروبا والامم المتحدة، يغيب الردع الدولي ويسهل له المضي قدما في طريق العنف. وذلك كله يقود الى شيء واحد؛ استمرار المفاوضات الدموية الجارية في الضفة والقطاع شهور طويلة، وتوفير اسباب اضافية لتمددها، بصيغ مختلفة، الى ميادين جديدة. وأظن ان المفاوضات الجارية بين الحجر الفلسطيني وبندقية المستعمر المحتل سوف تنتقل في الايام والاسابيع القادمة الى مرحلة أشد عنفا وأكثر دموية.
واذا كان باراك واركانه ركزوا، في المرحلة الاولى، عملياتهم ضد اهداف مدنية فلسطينية، أفرادا وممتلكات، وتجنبوا الدخول في اشتباكات مباشرة مع الاجهزة الامنية الفلسطينية، ولم تطال رمايات رشاتهم ومدافعهم وطائراتهم المراكز القيادية والامنية والعسكرية الفلسطينية الا ما ندر، فتصريحاتهم الاخيرة، وممارسات قواتهم في الايام القليلة الماضية تشير الى انهم سيتجاوزوا في المرحلة الثانية ما تجنبوه في الاولى، والمؤشرات على ذلك كثيرة؛ فبعد تعرض عدد من المستوطنات الاسرائيلية المجاورة للمدن الفلسطينية لرمايات فلسطينية من بنادق خفيفة، اعلن باراك الحرب ضد “التنظيم” حزب السلطة، وشرع في اغتيال واعتقال كوادره وضرب مقراته. وبعد مقتل اربعة من افراد قواته ومستوطنيه في كمين مسلح، قرب مدينة رام الله وجنوب قطاع غزة، فرض طوقا امنيا محكما، واغلق مداخل المدن والقرى والفلسطينية، ومنع الحركة على الطرق. ومؤخرا شرع قناصته تركيز نيرانهم باتجاه افراد اجهزة الامن الفلسطينية، وزاد عدد الشهداء والجرحى من هذه الاجهزة. ولن يعجز باراك عن خلق ذريعة للدخول في معركة عسكرية مكشوفة مع هذه الاجهزة جهازا بعد جهاز، او معها كلها دفعة واحدة. واتهام عدد من اركانه، بعض هذه الاجهزة بالمشاركة في اطلاق النار ضد الجيش والمستوطنين الاسرائيليين وتشجيع منظمة الجهاد الاسلامي على تنفيذ عمليات قتالية ضد اسرائيل، مقدمات اولية هدفها رفع وتيرة الضغط على قيادة السلطة وقادة الاجهزة، وتحضير الاجواء الداخلية والخارجية للدخول في اشتباك معها. ظنا منه ان الصدام المباشر مع السلطة وتفكيك قاعدتها الحزبية واجهزتها الامنية والعسكرية، يقنع القيادة الفلسطينية بقبول ما لم تقبله بالتي هي أحسن. و يعتقد باراك بان الاعمال الحربية غير المقنعة للسلطة الفلسطينية كافية، مع قليل من المال، لاقناع حزب شاس بالعودة الى مقاعدة في مجلس الوزراء، وبالحد الادنى تمديد شبكة الآمان التي منحته اياها، والتي تنتهي آخر الشهر الجاري. وتصلح، أيضا، لتكون جسرا يربط ما انقطع مع شارون ورفاقه الاشد تطرفا، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تطيل امد البقاء في السلطة فترة طويلة.
واذا كان لا خلاف بين الفلسطينيين حول الاستمرار في الانتفاضة، فتنظيم اوضاع الجبهة الداخلية وتقليص الخسائر هو السبيل للصمود في مواجهة موجة العنف القوية القادمة.