الانتخابات الاسرائيلية تقلص فرص الحل وتؤجج الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 12/12/2000
من الطبيعي تماما، ان يستقيل باراك من رئاسة الوزراء، على خلفية فشله في تحقيق برنامجه الذي انتخب على أساسه قبل 18 شهرا، والتسبب في تفجير الانتفاضة، وفشله في اخمادها بعد محاولات دامت اكثر من 70 يوما، وزج اسرائيل في حرب طويلة لا تحسمها الدبابات والطائرات. لكن ربط استقالته بالدعوة الى انتخابات جديدة لهذا المنصب فقط والاعلان عن ترشيح نفسه، بذات اليوم 9/12/2000، ولذات المهمة التي فشل في ادائها، وتمسكه بذات البرنامج ـ لاءاته الشهيرة ـ الذي فشل في تحقيق الامن لاسرائيل والسلام مع العرب..الخ أمر غير طبيعي اطلاقا، وخارج عن المألوف في الدول والاحزاب الديمقراطية التي تحترم نفسها. ويجسد احتقار باراك لقيادة وجمهور حزب العمل ورموزه التاريخية، خصوصا وان فشله لا يزال طازجا وحيا في ذهن الجميع.
وبصرف النظر عن تفسير قادة حزب العمل لمنح باراك بركاتهم، فخطوته المفاجئة لهم ولجمهورهم، وكل المعنيين بصنع السلام في المنطقة لها دلالات كبيرة في نظر الآخرين. تنم عن وقاحة سياسية وحزبية، وتجسد بعض صفاته الشخصية، وبخاصة غرقه في ذاتيته وغروره بتاريخه العسكري، وعدم ايمانه بالديمقراطية والعمل الجماعي. اما تبرير ضربته الاستباقية، بحالة الطوارئ التي تعيشها اسرائيل، وتخبط الكنيست، ورفض حزب ليكود المشاركة في حكومة وحدة وطنية..الخ فينطبق عليه المثل القائل “عذر اقبح من ذنب”. ومحاولة مفضوحة هدفها التعتيم على فشله في قيادة اسرائيل على درب السلام وتحقيق الامن، ولانقاذ مستقبله السياسي من الدمار، وقطع الطريق امام اية منافسة من داخل حزب العمل، وشل قدرة نتنياهو على دخول السباق نحو رئاسة الوزراء.
وتعطي، الخطوة المفاجئة وردود الفعل الحزبية عليها صورة حية عن واقع النظام السياسي في اسرائيل، سلطة ومعارضة. وتشير الى تفاقم حالة عدم الاستقرار التي دخلها هذا النظام مع بداية العقد الاخير من القرن العشرين. وتحديدا، منذ مشاركة اسرائيل في عملية صنع السلام التي انطلقت من مدريد في العام1991، وتوصل حكوماتها المتعاقبة الى اتفاقي اوسلو ووادي عربة مع القيادتين الفلسطينية والاردنية في العام 1993. فمنذ ذلك التاريخ، احتدم الصراع داخل اسرائيل حول طبيعة علاقاتها بجيرانها العرب في مرحلة جديدة دخلتها العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة. وتعاقب، خلال هذه الفترة القصيرة، على منصب رئاسة الوزراء خمسة زعماء، اسحاق شامير واسحاق رابين وشمعون بيريز ونتنياهو وباراك، وجميعهم غادروا هذا المنصب القيادي الرفيع، بصيغة واخرى، على خلفية الموقف من صنع السلام مع العرب، وقبل استكمال المدة الزمنية التي منحها القانون لهم.
والتدقيق في اسماء المتنافسين الآن على منصب رئاسة الوزراء ـ باراك وشارون او نتنياهوـ يبين عمق ازمة النظام السياسي الاسرائيلي وفشله في انتاج قيادات تاريخية قادرة على حل ازمة الديمقراطية الاسرائيلية في القرن الحادي والعشرين وتخليص دولة اسرائيل من سياستها التوسعية العنصرية ومعالجة معضلات تطبيع وجودها مع محيطها العربي. فالمتنافسون الثلاث، منحو فرصة تبوء مناصب قيادية اولى في المؤسسة الحاكمة، وثلاثتهم ادينوا شعبيا وحزبيا بالفشل، واعترفوا الى حد ما، بالصوت والصورة، بارتكاب أخطاء سياسية. وحامت حول نتنياهو شبهات كثيرة، وأدين شارون بارتكاب جرائم جنائية سياسية بحق الفلسطينيين، ومنعه القانون من تولي حقيبة وزارة الدفاع في اي وقت من الاوقات. وايا تكن مبررات المؤسسات الحزبية لترشيحهم مجددا لمنصب رئاسة الوزراء، فوضع الناخب الاسرائيلي امام هذا الخيار السيء، يعطي صورة عن مدى تدهور مفهوم الديمقراطية في هذه المؤسسات. ويعكس افلاسها التنظيمي السياسي واستهتارها بالناخب الاسرائيلي.
وبصرف النظر عن نتائج الصراع الجاري داخل المؤسسة الحزبية في اسرائيل، والذي سيحتدم اكثر فاكثر في الايام والاسابيع القادمة، فان فوز اي من المرشحين الثلاث يثير تساؤلات فلسطينية حول موقف الحكومة الاسرائيلية القادمة تجاه الانتفاضة، ومصير عملية السلام وتعايش الشعبين. ويستخلص الفلسطينيون من استقالة باراك وذهاب الاسرائيليين الى انتخابات مبكرة، نتيجة واحدة لا ثاني لها، هي؛ جمود عملية السلام مع الفلسطينيين حتى ظهور نتائج هذه الانتخابات. وهم مقتنعون ان هذا الاستخلاص الرئيس يبقى صحيحا سواء ذهب الاسرائيليون لانتخاب رئيس الوزراء فقط، وفاز بها باراك، او جرى انتخابه مع اعضاء الكنيست. ففوز باراك برئاسة الوزراء، في نظر ناس الانتفاضة، من دون انتخابات جديدة لعضوية الكنيست، يعيد وضع النظام السياسي في اسرائيل الى ما كان عليه قبل الانتخابات، ويعيد باراك الى مواجهة ذات الوضع الذي واجهه في الكنيست. وبرامج المرشحين، ازاء الانتفاضة وقضايا الحل النهائي، تعيد الطرفين، بأحسن الاحوال، الى مربع المواجهة الاول، الذي دخلاه بعد خروجهما من قمة كامب ديفيد، بصرف النظرعن الفائز في الانتخابات.
واذا كان لا جدال في حاجة باراك، الملحة، الى اتفاق مع الفلسطينيين يقدمه للناخب الاسرائيلي، ويمنحه هدوءا على الارض خلال فترة الانتخابات، فمن الخطأ الاعتقاد بان هذه الحاجة ستدفعه لتقديم تنازلات تسهل توصل الطرفين، قبل الانتخابات، لمثل هذا الاتفاق. خصوصا وان شقة الخلاف الفلسطيني الاسرائيلي حول قضايا الحل النهائي لا تزال واسعة، ويستحيل تجاوزها خلال اقل من 60 يوم. وذهن باراك مشغول في كسب اصوات المتشددين، ويرفض التجاوب مع مطالب الانتفاضة. ويبدو ان تفاعلات الانتفاضة الاقليمية والدولية، وسقوط عدد من القتلى، ربما يراه باراك قليلا، في المصادمات المسلحة التي وقعت بين الطرفين خلال اكثر من70 يوما، لم تقنعه، حتى الآن، باهمية التراجع عن مواقفه التي طرحها في قمة كامب الثلاثية وتقريبها من الموقف الفلسطيني ومن قرارات الشرعية الدولية.
واذا كان لا افق امام التوصل لاتفاق نهائي في غضون 60يوما، فحظوظ التوصل الى اتفاق مرحلي جديد، في مرحلة الانتفاضة، ليست اكبر. وأغلبية القيادة الفلسطينية ترفض، من حيث المبدأ، العودة الى صيغ الاتفاقات المرحلية بعد التجربة المريرة مع هذا النمط من الاتفاقات، وبعد استشهاد ما يزيد على 300 مواطن فلسطيني وجرح ما يزيد على عشرة آلاف على يد الجيش الاسرائيلي والمستوطنيين. واهل الانتفاضة مصرون على حل نهائي عادل، يقوم على اساس تطبيق القرار 242، وانسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران 1967، ورحيل المستوطنيين. ويرى الفلسطينيون، سلطة ومعارضة، في عرض باراك تأجيل حل قضيتي القدس واللاجئين فترة 3 سنوات، وقيام دولة فلسطينية على50% من مساحة الضفة والقطاع، دون الاعلان عن انتهاء النزاع بين الطرفين..الخ، مضيعة للوقت ولا يلبي الحد الادنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية ويعرضها للتبديد والضياع.
الى ذلك، اعتقد ان مصالح باراك الانتخابية، وحرصه على كسب الممكن من اصوات الجمهور المتطرف واصوات قاعدة الاحزاب اليمينية العلمانية والدينية، ستدفعه في الايام والاسابيع القليلة القادمة نحو تبني خطابا سياسيا متشددا في قضايا الحل مع الفلسطينيين، واتخاذ مواقف اكثر قمعية وعنصرية تجاه انتفاضتهم. وقد بدأ حملته الانتخابية بالعودة الى لاءاته الشهيرة التي أفشلت قمة كامب ديفيد، وتراجع عن بعض المواقف التي طرحت في تلك القمة، وبخاصة ما تعلق منها بمدينة القدس. وعاد يتحدث عن بقاء هذه المدينة موحدة تحت السيادة الاسرائيلية وعاصمة اسرائيل الابدية، ونسي ان مواقفه السابقة اشعلت فتيل الانتفاضة، ودفعت الشعوب العربية والاسلامية الى النزول للشوارع دفاعا عنها.
وأظن ان تطورات الانتخابات الاسرائيلة والامريكية وما رافقها من احداث دراماتيكية تدفع بمسار الفلسطينيين نحو الانضمام الى مسار اشقائهم السوريين المجمد منذ فترة طويلة. وبات في حكم المؤكد ان يرحل الرئيس كلينتون من البيت الابيض دون امل بالحصول على جائزة نوبل لصنعه السلام في الشرق الاوسط. وسيحتاج اركان الادارة الامريكية الجديدة من بعده بضع شهور لاعادة تنظيم ملفاتهم الداخلية والخارجية قبل الغوص في مستنقع الشرق الاوسط. وهذ يعني، ان لا افق لانعاش اي من المسارين السوري او الفلسطيني قبل صيف عام 2001. ولا خيار امام الفلسطينيين في الشهور القادمة سوى خيار مواصلة النضال من اجل انهاء الاحتلال، والحرص على ابقاء انتفاضتهم في طابع سلمي.
ان اعتماد سياسة النفس الطويل في ادارة المعركة الجارية على ارض الضفة والقطاع، ورفع درجة الحذر واليقظة الامنية ازاء الجرائم التي يمكن ان يرتكبها المستوطنون والمتطرفون في الجيش خلال حمى المزاودات الانتخابية، يتطلب العمل على تفعيل جبهة العمق العربي في اسناد للانتفاضة، واحداث تطوير نوعي على الادوات والوسائل التي استخدمت في المعركة الاعلامية. فكسب المعركة في الحقل الاعلامي يقرب الفلسطينيين من اهدافهم، ويحد من سفك دماء الاطفال، وهذا ممكن ومطلوب.