ثمار الانتفاضة كثيرة فهل حان قطفها ؟
بقلم ممدوح نوفل في 28/12/2000
تكبد الفلسطينيون في ثلاث شهور من عمر “الانتفاضة” خسائر بشرية عزيزة لا تعوض ولا تقدر بثمن، تعادل تقريبا ثلث تضحياتهم في انتفاضتهم السابقة التي دامت سبع سنين. ولحقت بهم خسائر اقتصادية كبيرة طالت جميع فئات المجتمع باستثناء فئة الموظفين. واصبح معظم العمال وصغار المزارعين يعانون فقرا حقيقيا ويحصلون على قوت يومهم دينا من التجار وما يقدمه الميسورون والجمعيات الخيرية في سياق التضامن الاجتماعي والصدقات. وهذه الخسائر يصعب تعويضها في مدى زمني قصير من دون مساعدات خارجية كبيرة وبدون تحمل الراسماليين الفلسطينيين مسئولياتهم الوطنية. ويردد المتظاهرون في مسيراتهم دعوات التضامن الاجتماعي؛ (يا رمضان جايي عيد/ لا تنسو اهل الشهيد. في جريح في شهيد/ علينا واجب بالتأكيد/ قسما قسما ما ننسى اهلك يا شهيد).
وبالمقابل حصد الفلسطينيون في زمن الانتفاضة ثمارا كثيرة ثمينة بعضها نضج وقطفوها وبعضه الآخر لم ينضج بعد، وقطفه مؤجل. أول هذه الثمار الثمينة الناضجة هي استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي اصابها صدع كبير في العقد الاخير من القرن العشرين، وزوال خطر انقسام الشعب بين داخل وخارج الذي صعد بعد توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993. وصهرت الانتفاضة فئات الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة في بوتقة النضال ضد الاحتلال، باستثناء “انصار الثنائية الفلسطينية الاسرائيلية”، الذين خفتت اصواتهم وتراجعت نشاطاتهم وغابوا عن الظهور في الشوارع اثناء المظاهرات ولم يعودوا يتصدرون الاخبار. ويردد ناس الانتفاضة في مسيراتهم، رجال ونساء واطفال، حزبيين ومستقلين؛ “وحدة وحدة وطنية/ وحدة اسلام ومسيحية”، “وحدة وحدة وطنية/ حماس وقوى وطنية/ هي الرد على الهمجية”. واقتنع الفلسطينيون؛ فقراء واغنياء، عمال وارباب عمل، حزبيين ومستقلين، بان “الانتفاضة” هي الخيار الوحيد الباقي امامهم لحماية حقوقهم الوطنية والانسانية وانتزاع حريتهم واستقلالهم وطرد الاحتلال من ارضهم واقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع. ويخشون من تسرع المفاوض الفلسطيني في قطف ثمار انتفاضتهم قبل نضجها. ويستذكرون بقلق مرونة المفاوض الفلسطيني وقلة صبره في المرحلة الانتقالية، ويحملوه مسئولية تبديد حقوقا هامة حصلوا عليها في الاتفاقات مثل تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، وتنظيم عودة النازحين الى ارضهم وممتلكاتهم..الخ. ويردد المتظاهرون في مسيراتهم: يا مفاوض يا وزير/ لا تستهتر بالجماهير، يا مفاوض يا وزير/ الحساب كبير كبير/ من الشهداء والجماهير.
الى ذلك، أظهر الفلسطينيون في اسرائيل وحدتهم كأقلية قومية تخضع للاضهاد والتمييز، وبرهنوا بالملموس انهم جزء حيوي من الجسد الفلسطيني الذي اذا اشتكى عضو منه تداعت لنجدته بقية الاعضاء. وصنعوا أنبل وأهم ظاهرة عرفها الصراع العربي الاسرائيلي منذ نكبة العام 1948، وظهروا اشد تمسكا بانتمائهم القومي من اي وقت مضى، رغم خضوعهم فترة نصف قرن لحكم استعماري عنصري، عمل المستحيل على تجريدهم من هذا الانتماء وطمس هويتهم الوطنية. ويدرك الاستراتيجيون الاسرائيليون ان تحرك الفلسطينيين في اسرائيل تم على خلفية قومية بالاساس، وأن كسب اصواتهم في الانتخابات وامتصاص نقمتهم ضد الاضهاد يتطلب ليس فقط زوال التمييز العنصري ضدهم وتحسين اوضاعهم المعيشية في اسرائيل، بل وايضا حل قضية اهلهم اللاجئين حلا عادلا، وحصول اخوانهم في الضفة والقطاع على حقوقهم الوطنية وفي مقدمتها اقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. واذا كانت طبيعة الحلول التي تفكر بها القيادة الاسرائيلية لمعضلة الوجود العربي الكثيف في اسرائيل غير واضحة للآن، فثمار هبتهم بعد زيارة شارون للمسجد الاقصى اواخر ايلول الماضي بدأت تأتي أكلها، لجهة تحسين اوضاعهم واسناد مواقف القيادة الفلسطينية في المفاوضات، وبخاصة مطالبتها بسيادة كاملة على منطقة الحرم القدسي الشريف.
الى ذلك، تراجعت في زمن الانتفاضة نغمة لاجئين ومواطنين، عائدين ومقيمين.. الخ وكانت هذه النغمة الانقسامية أخذت مجدها بعد تشكيل السلطة الوطنية في العام1994، ودخول قيادة م ت ف الى المدن الفلسطينية واسنادها معظم الوظائف الحساسة للكوادر العائدة معها. وتأكد اللاجئون والنازحون في الخارج والداخل، من ان عملية السلام لم تقف على رجليها على حسابهم كما روجت بعض القوى السياسية، وان حقوقهم لم تندثر ولا تزال محفوظة. صحيح ان اللاجئين والنازحين وأغلبية الفلسطينيين فقدوا ثقتهم بقدرة عملية السلام الجارية وحدها على استرداد جميع حقوقهم التاريخية، ومقتنعون بعبثية استمرار المفاوضات خاصة بعد تلاعب القيادة الاسرائيلة بالاتفاقات واستهتارها بتواريخ تنفيذ التزاماته، واصرارها على الاستخفاف بالطرف الفلسطيني كشريك في عملية السلام ومحاولة اذلاله امام جمهوره وامام العالم. الا ان آمالهم انتعشت في زمن الانتفاضة، خصوصا وان قضيتهم عادت تتصدر واجهة الاحداث وباتت محورا رئيسيا في المفاوضات والتحركات الاقليمية والدولية.
وأيا تكن مواقف المعارضة من المشاركة في السلطة الوطنية، بشقيها التشريعي والتنفيذي، فالانتفاضة طهرت علاقة الطرفين من شوائبها وحلت بعض عقدها المستعصية. وجسرت علاقة السلطة الى حد كبير بالشارع وبقوى المعارضة بمختلف اتجاهاتها وميولها السياسية والعقائدية. وحررت قيادة م ت ف من تهمة الرضوخ للضغوط الامريكية والخضوع للشروط الاسرائيلية والتفريط بالحقوق الوطنية، التي لبستها ابان المرحلة الانتقالية الطويلة. وتأكد أهل الانتفاضة، بعد فشل قمة كامب ديفيد الثلاثية ومشاركة مؤسسات السلطة في الانتفاضة، من ان “القوى المتنفذه في السلطة و م ت ف” غير مستعدة للتفريط بالحقوق الفلسطينية الاساسية التي اكدتها قرارات الشرعية الدولية. وان اتفاق اوسلو وجميع اتفاقات وتفاهمات السلام التي تمت في المرحلة الانتقالية لم تبدد حقوقهم. و”قيود اوسلو” لم تمنع قيادة السلطة من الدخول في مواجهة مكشوفة مع القيادتين الاسرائيلية والامريكية دفاعا عن هذه الحقوق الوطنية.
واذا كانت خلافات اطراف النظام السياسي الفلسطيني، الجوهرية، حول عملية السلام وحول الاتفاقات التي انبثقت عنها لا تزال قائمة، فالانتفاضة والمواجهات اليومية والتضحيات المشتركة، ازالت بعض المفاهيم غير الديمقراطية التي حالت، لسنوات، دون توحد قوى الحركة الوطنية والاسلامية حول ما يتفق عليه في النضال ضد الاحتلال واستمرار الحوار حول بقية القضايا فيها. وجمدت الاحزاب والحركات السياسية المتدينة والعلمانية مظاهر خلافاتها السياسية والحزبية النافرة، واستعاد بعضها روحه الكفاحية وبرز نشاطه ضد الاحتلال وادواته وفي الحقلين السياسي والاجتماعي.
صحيح ان اجهزة الامن الفلسطينية لم تدخل رسميا، حتى الآن، في معركة عسكرية مباشرة ومكشوفة مع قوات الاحتلال والمستوطنون، الا ان ناس اللانتفاضة يسجلون لهذه الاجهزة سهرها على امن المناطق الوطنية وحمايتها من عبث المستوطنيين والمستعربين، ويطالبون بضرب العملاء بيد من حديد بعد ان ثبت تورط بعضهم في اغتيال عددا من نشطاء الانتفاضة. ويعتبرون مواقف القيادتين السياسية والامنية الاسرائيليتين من قادة وكوادر الاجهزة الامنية عدوانية وخطيرة، وان ارتكابها مجازر وحشية ضد عدد منهم واتهامهم بالتورط في اعمال قتالية مباشرة ضد المستوطنين وضد اهداف عسكرية اسرائيلية في الضفة والقطاع وتسهيل قيام أطراف فلسطينية اخرى بمثل هذه الاعمال..الخ شهادة من العدو على الدور الفاعل الذي تقوم به هذه الاجهزة في الانتفاضة. وأظن ان تحرك ناس الانتفاضة في مسيرات ضخمة لحماية مراكز اجهزة الامن في رام الله وقطاع غزة من القصف المدفعي الاسرائيلي وغارات الطيران، يبين مستوى تطور علاقة الطرفين في زمن الانتفاضة.
ومهما كانت آراء المحليين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين والاجانب في قيمة الوحدة الوطنية كثمرة من ثمار الانتفاضة، ارى انها تصلح كقاعدة لانطلاقة جديدة نحو تعزيز الديمقراطية كناظم رئيسي ثابت بين اطراف النظام السياسي الفلسطيني في الداخل والخارج. ولعل واعتماد مبدأ “وحدة صراع وحدة” في اطار منظمة التحرير يرسي هذه العلاقة على اسس ديمقراطية اكثر تطورا ويعطي لكل ذي حق حقه في الاحتفاظ بقناعاته الفكرية ومواقفه السياسية من الاحداث الكبيرة التي تعصف بالقضية الوطنية. والشروع في اعتماد هذه القاعدة وهذا المبدأ الديمقراطي يفرض على الجميع مراجعة الذات والتخلي عن المواقف والاحكام المسبقة، والقيام بنفضة سياسية تنظيمية داخلية واسعة تطهر الاوضاع من رجس المرحلة الماضية وآثامها المتنوعة. وخصوصا الانقسام والترهل النضالي والاستهتار برأي الشارع وتغليب المصالح الذاتية الضيقة، الحزبية والشخصية، على المصالح الوطنية العليا. واذا كانت هذه القوى ـ سلطة ومعارضة ـ لم تعود الناس على نقد الذات والاعتراف بالاخطاء السياسية الصغيرة والكبيرة التي ارتكبتها في سياق النضال، فقد بدأت ترتفع اصوات حزبية وشعبية كثيرة وازنة تطالب بدمقرطة الحياة السياسية والحزبية وتجديدها. واظن ان منظمة التحرير ومؤسساتها كانت ولاتزال الاطار التنظيمي الانسب والاصلح لتوحيد جهود وطاقات جميع قوى الشعب في الداخل والخارج في مواجهة الاحتلال. وتجربة سبع سنين من عمر السلطة الوطنية وبدء التفاوض حول قضايا الحل النهائي وخصوصا قضية اللاجئين تؤكد اهمية احياء وتفعيل م ت ف وازالة كل التحفظات حول العمل تحت راياتها. وفي كل الاحوال تبقى منجزات الانتفاضة في مجال الوحدة الوطنية ثمرة ثمينة جدا حان قطفها، وادخالها حساب الربح والخسارة في ميزان اي اتفاق فلسطيني اسرائيلي جديد. والتأخر في قطفها خسارة وطنية. فهل ستنهض القوى الوطنية والاسلامية بالمهمة ام لا حياة لمن تنادي..؟