مشهد يتكرر في الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 16/12/2000
تتداول معظم قطاعات الشعب الفلسطيني، داخل الوطن، مجريات احداث الانتفاضة يوميا. وبجانب الندوات العامة ولقاءات العصف الفكري التي تنظمها مراكز الابحاث والدراسات والجامعات، يكاد لا يخلو بيت من ندوة يومية مسائية مصغرة يشارك فيها افراد العائلة، او موسعة تضم الاسرة وناس من الجيران والاصدقاء، والضيوف الذين حال اجراء مفاجئ لقوات الاحتلال او المستوطنون دون عودتهم الى قراهم وبيوتهم. فكثير من الطرق الرئيسية والفرعية والترابية الواصلة بين المدن والقرى تكون احيانا سالكة صباحا يغلقها الجيش الاسرائيلي او المستوطنون او الطرفين معا، ظهرا او مساء، بحواجز طيارة او بالأتربة والكتل الاسمنتية، ومؤخرا لم يتورعوا عن قطع الطرق بحفر بعضها بالجرافات.
اكثر السهرات الفلسطينية في رام الله والبيرة حيوية تكون عادة في ايام الاغلاق الشامل، وبخاصة بعد مظاهرة دعت اليها القوى الوطنية والاسلامية، او مسيرة شعبية نظمت تلقائيا لتشييع شهيد الى مقبرة الشهداء وتقديم واجب العزاء. يردد فيها المتظاهرون هتافات متنوعة منها: (في شهيد في جريح/ علينا واجب بالتأكيد/ ما ننسى أهل الفقيد). (دم الشهداء غالي غالي/ مش بضاعة مش تسالي). يتوجه بعدها المتظاهرون نحو مواقع المواجهات، وهم يرددون شعارات حماسية متنوعة من نوع: (احمل حجر ولع نار/ ما بدهاشي انتظار ـ نحن اصحاب القرار/ هي انتفاضة وانتصار). (انتفاضة ومواجهات / هو الرد على القتل والاغتيالات). (شرعوا كل الادوات/ اغتيالات وتصفيات ـ استخدم نفس الادوات/ مفتوحة كل الخيارات/ بدها بدها مواجهات). يتلو ذلك، مصادمات تستمر بضع ساعات مع دوريات ومراكز جيش الاحتلال الثابتة في حواجز “محاسيم حسب التعبير الدارج بالعبرية”، اقاموها على مفارق الطرق ومداخل القرى والمدن والمخيمات، استوعبت نسبة كبيرة من قوات الوحدات الخاصة وحرس الحدود والمشاة الميكانيكية وبعض الاحتياط. وتكاد تكون المواجهات السلمية محصورة في مدينتي رام الله والبيرة بموقع فندق “ال ستي ان” الواقع على مدخلها الشمالي، والقريب نسبيا من مستوطنة بيت ايل والمواقع العسكرية المحيطة بها.
تبدأ المواجهات، عادة، قبل وصول المسيرة الرئيسية التي تتصدرها القيادات الوطنية والاسلامية، حيث يكون بعض الباعة المتجولون ومعهم ترمس وذرة الصفراء وقهوة عربية قد وصلوا المكان، وتكون مجموعات متفرقة من الاطفال دون الخامسة عشر سبقت الجميع الى نقاط الاحتكاك ركضا على الاقدام، دون اذن من احد، وهم يحملون اعلام فلسطين واخرى خاصة بالتنظيمات، وزعت عليهم بالمجان في مركز انطلاق المسيرة. وهم حملوها دون التدقيق في اصحابها وفي ما كتب او رسم عليها، ودون الاكتراث بتسابق التنظيمات على تكثيف اعلامها امام عدسات مصوري الصحافة والفضائيات ووكالات الانباء. وعند وصول الاطفال “المحسوم” يكون جنود الاحتلال قد تأهبوا للمواجة واحتلوا مواقعهم القتالية حسب خطة عسكرية اعدت مسبقا. ويبدأ الاطفال تسخين الاجواء قبل وصول المظاهرة الرئيسية باشعال عدد من اطارات السيارات، وجمع الحجارة. ودفع بقايا الواح الخشب والكرتون وقطع السيارات المستعملة خطوات قليلة الى الامام، بأمل تقريبها مسافة تمكن الاطفال توصيل حجاراتهم الى سيارات الجيب الاسرائيلية البعيدة والمصفحة من كل الجهات. والاختفاء خلفها عندما يبدأ الجنود الاسرائيليون الرد على الاطفال باطلاق الرصاص المطاطي والحي والقنابل الدخانية والغازية المسيلة للدموع. وتبدأ سيارات الاسعاف التابعة للهلال الاحمر الفلسطيني والبعثة الطبية الاردنية والهيئات الصحية والمستشفيات المحلية، باطلاق العنان لصفاراتها ونقل المصابين الى مراكز الاسعاف والمستشفيات القريبة من مواقع الصدام.
ومع اقتراب المظاهرة الرئيسية من المواقع الاسرائيلية، مسافة مئات قليلة من الامتار، ينقسم المتظاهرون عدة اقسام. كبار السن، من الرجال والنساء المحجبات وبدون حجاب، يقفون وهم يتبادلون اطراف الحديث وعيونهم شاخصة نحو الاطفال وهم يلعبون لعبة الموت (حجر وحرامي). ويبدأ قادة الفصائل والتنظيمات، المشاركين في المسيرة، باجراء مقابلات تلفزيونية وصحفية وغالبا ما تكون مختزلة. اما الشبان، وعدد قليل من الشابات، فيواصلون مسيرتهم نحو السواتر الفلسطينية الواهية وينضمون للاطفال، وهم يجمعون الحجارة والزجاجات الفارغة ويرددون؛ (ما في خوف ما في خوف/ الحجر صار كلاشينكوف)، (لا خلاص لا خلاص/ غير الحجر والرصاص). ويبدأ رجال الاسعاف عملهم، وتزداد حركة سيارات الاسعاف ذهابا وايابا. وفي احيان كثيرة يتفرق المتظاهرون والباعة المتجولون من المكان بسرعة، وينسحب الشبان والاطفال من خلف المتاريس ركضا كما وصلوها، عندما يطلق مسلح فلسطيني ملثم مجهول الهوية بضع رصاصات نحو جنود الاحتلال من بناية مجاورة قيد الانشاء. وفي المساء يتوجه البعض لزيارة اسر الشهداء في بيوتهم والجرحى في المستشفيات، يعودون بعدها الى منازلهم وتبدا أمسيتهم الجديدة.
وفي سياق التعليق على تجدد الاتصالات الفلسطينية الاسرائيلية وحديث اركان الادارة الامريكية والمبعوثين الاوروبيين حول وقف العنف واعادة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل انفجار الانتفاضة يوم 29/9/2000، عاد ناس الانتفاضة يتداولون في امسياتهم، من جديد، قصة يهودي عنصري بخيل مع عامل فلسطيني فقير. تقول الرواية: ان فتى فلسطينيا عمل سنوات طويلة في مزرعة يملكها يهودي ليكودي بخيل. دفع اليهودي له اجرا زهيدا واسكنه غرفة صغيرة، واذن له بتربية عنزة وكلب وحصان وحمار وبقرة وبضع دجاجات. وفي مدى سنوات الاحتلال الطويلة كبر الفتى وتزوج، وطلب من صاحب المزرعة مساعدته في بناء غرفة اضافية يستخدمها كمطبخ ومبيت لحيوانته، لكن اليهودي البخيل لم يستجب لطلبه. كرر العامل الفلسطيني الطلب مرات عدة وكان رد اليهودي في كل مرة لا ضرورة لذلك وبقائك على ما انت عليه خير لك من بناء غرفة جديدة. وذات يوم قال له اليهودي؛ اذا كنت يا “خبيبي” حقا منزعج، دعنا نجرب طريقة اخرى تحدث تغيرا في نمط حياتك قبل بناء الغرفة الجديدة. واقترح على الفتى ادخال جميع حيواناته الى غرفة النوم. وافق العامل الفلسطيني، ظنا منه ان اثبات فشل الفكرة يعجل في حل المشكلة. وفي المساء أدخل جميع حيوانته الى الغرفة، وطبعا لم يسستطع النوم. في الصباح حضر صاحب المزرعة وسأله كيف كانت ليلتك الماضية ؟ فرد علية “زفت”، وشرح له ما عاناه وكرر طلب بناء غرفة جديدة.
خلال الحديث كان اليهودي يستمع ويسأل عن مدى ازعاج كل حيوان وكل طير. وفي النهاية قال وضعك الان صعب جدا، وحديثك يؤكد ان البقرة هي الاشد ازعاجا، دعنا نجرب النوم مع الحيوانات كلها باستثناء البقرة. وافق الفلسطيني مكرها بعد الحاح اليهودي على الامر، وحصل له ما حصل في الليلة الاولى ناقصا ازعاج البقرة. صباح اليوم التالي جاء اليهودي كالعادة وسأل عن الحاله فكرر العامل ما قاله في اليوم السابق، واشار الى ان تحسن الوضع قليلا بعد خروج البقرة. فاقترح اليهودي المبيت من جديد مع الحيوانات واخراج الحمار. وفي الليلة التي تلها اقترح اخراج حيوان آخر، وبقي هكذا دواليك حتى جاء يوم نام فيه العامل بدون حيوانات ولا طيور وعاد الى وضعه السابق. وسأله اليهودي المتزمت كيف كانت احولك في الليلة الماضية ؟ اجاب العامل كانت مريحة بالنسبة للايام السابقة. فقال اليهودي؛ اذن دعنا نتفق على المحافظة على هذه الحالة الجيدة بحيث تبقى في الغرفة الموجودة وتنام وحدك بدون حيوانات، فانت سعيد الان بفضل افكاري والاجراءات التي ساعتك عليها…
الى ذلك، يطرح ناس الانتفاضة في جميع الامسيات اسئلة كثيرة ومتنوعة حول واقعهم ومستقبلهم. بعضها يجدون له جوابا شافيا، والبعض الآخر يبعث القلق في نفوسهم وينكد يوميهم. وينغص رغبتهم في تواصل الانتفاضة وتفعيل حركتها ضد الاحتلال وتقليص الخسائر الى ادنى حد ممكن والحاق خسائر أكبر في صفوف الاسرائيليين، وخصوصا المستوطنين. وغالبا ما يبقى في كل السهرات اسئلة كثيرة معلقة دون جواب، يجري تداوله في الايام اللاحقة بمن حضر، منها تكرار اطلاق الرصاص من بين البيوت واثناء المظاهرات..ولماذا لا يخرج هؤلاء المسلحون للتصدي للمستوطنين بعيدا عن المدن والقرى والمخيمات ؟ والاستفسار حول مصير التضحيات الكبيرة واحوال الطرق وآخر اخبار الاغلاق، والاوضاع المعيشية وسبل تدبير لقمة العيش، والمساعدات العربية والدولية، والخسائر والارباح اليومية، من أهم هذه الاسئلة واكثرها حساسية هذه الايام في كل السهرات.
وتبقى حقيقة وراء كل الاحداث وما يدور حولها من حديث، هي ان الجميع لم يعودوا يتحملون العيش في ظل الاحتلال، وبدون زواله ستتوالى الانفجارات وتستمر المواجهات.