قصة فشل باراك حلقة 5 – بعنجهيته سرع في تفجير الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 30/01/2001
بعد وصول باراك وعرفات الى غزة وتل أبيب، حرص الرجلان على القول ان قمة كامب ديفيد لم تفشل وان لم يتم التوصل إلى اتفاق. ولم ينتظرا وصول المبعوث الأمريكي إلى المنطقة وبادرا إلى استئناف اتصالاتهما المباشرة وغير المباشرة، واعطيا تعليمات باستئناف المفاوضات، والتقى أمين عام الرئاسة “الطيب عبد الرحيم” بنائب باراك في وزارة الدفاع “افرايم سنيه”، مفاوضاتهما، وعقدت أول جولة محادثات حول قضايا المرحلة الانتقالية يوم تموز30 تموز2000. وبصرف النظر عن أقوال الطرفين في حينه حول عدم فشل القمة، كان الناس من الطرفين على قناعة تامة ان ما لم يحققه كلينتون وعرفات وباراك في قمتهم الماراثونية لن يحققه صائب عريقات وعوديد عيران في المفاوضات الجديدة حتى لو انضم اليهما دينس روس وتابعت أعمالهما الوزيرة أولبرايت. وأي تكن مبررات كل طرف لاستئنافها بعد اقل من أسبوع من عودتهما من واشنطن، فالواضح انها استؤنفت في سياق حرص متبادل على تغطية فشل قمة كامب ديفيد وتعطيل انفجار الصراع على الارض قبل استكمال عملية المراجعة الضرورية لتحديد التوجهات السياسية والعملية اللاحقة.
ورغم حرص باراك على القول في مؤتمره الصحفي “التابيني” الذي عقده قبل صعوده طائرته عائدا من واشنطون إلى تل أبيب: “انه طالما لم يتم إبرام اتفاق سلام فان كل الافكار الإسرائيلية التي طرحت في المفاوضات لاغية”، إلا إن اليمين الاسرائيلي لم يغفر له تفريطه بالقدس الموحدة الخالدة كعاصمة لاسرائيل وحدها.. وتوالت في الكنيست عمليات الانسحاب من الائتلاف الحكومي، توجت بانسحاب كتلة ليفي بعد تهديد استمر بضع أسابيع، واتهم ليفي باراك بتقديم تنازلات خطيرة في كامب ديفيد تمس المحرمات الإسرائيلية. وتضعضعت اوضاع حكومة باراك واهتزت شخصية الجنرال. ودعم حزب شاس انتخاب ممثل الليكود “موشيه قصاب” رئيسا لدولة إسرائيل. وخسر بيريز تعيس الحظ المعركة واضاف فشلا جديدا الى قائمة الفشل الطويلة التي جمعها في حياته السياسية، وحمّل انصاره باراك المسئولية.
الى ذلك، عمقت مفاوضات كامب ديفيد شك الفلسطينيين داخل في الداخل والخارج في نزاهة الراعي الأمريكي وأضعفت ثقتهم بعملية السلام. وتعززت الاتجاهات الفلسطينية والعربية المتطرفة والمتشددة، وشككت بجدوى الاستمرار في اللقاءات والمفاوضات، على حساب الاتجاهات الواقعية المنخرطة فيها، والمقتنعة بفوائدها في الحقلين الدولي والعربي وفي العلاقة مع قوى السلام في اسرائيل. وارتفعت أصوات فلسطينية تدعو للإقتداء بنهج حزب الله الذي اتبعه “العمل العسكري” في استرداد الحقوق اللبنانية وونجح في طرد الاحتلال من جنوب لبنان، خاصة وان فشل القمة الثلاثية ترافق مع تواصل احتفالات اللبنانيين بالنصر. وتكرست قناعة ابوعمار بان لا أفق للتوصل إلى حل مقبول “وليس عادل” في عهد إدارة كلينتون اولبرايت. وفي مداخلته الرئيسية في دورة اجتماعات المجلس المركزي التي عقدت في غزة يومي 9و10 ايلول2000 تحدث ابو عمار عن صدام عنيف مع الاسرائليين قادم لا محالة. وعند صياغة البيان الختامي عن اعمال المجلس ربط البيان بناء على تدخل ابوعمار تأجيل اعلان قيام الدولة باجراءين عمليين، الاول، شروع اللجنة التنفيذية للمنظمة ورئاسة المجلس الوطني والتشريعي باتخاذ الاجراءات التنظيمية الضرورية لاعلان الدولة. والثاني رفض التهديدات الاسرائيلية المتكررة، والطلب الى القيادة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لتحضير الشعب الفلسطيني لمواجهة اسوء الاحتمالات ابرزها اقدام حكومة باراك على اعمال عسكرية عدوانية انتقامية ضد الشعب وقيادته الوطنية. واستغلال المتطرفون الاسرائيليون توتر الاوضاع بين الطرفين وتنفيذ اعمال ارهابية متنوعة. خصوصا وان تصريحات عدد من القادة الامنيين الاسرائيليين اشارت الى انهم يرفضون الحلول السلمية المطروحة بشان الحدود والمستوطنات والقدس والاغوار، ورأو في مي مواقف قيادتهم السياسية تنازلات كبيرة تعرض امن اسرائيل لخطر استراتيجي مصدره حدود اسرائيل الشرقية والارهاب. وجاءت عملياتهم العدوانية الاستفزازية التي نفذت في تلك الفترة في سردا وعصيرة الشمالية وقطعت الشك باليقين في ذهن ابوعمار وبخاصة بعد تواتر معلومات موثوقة عن تحركات واسعة للجيش واجهزة الامن الاسرائيلية في الضفة والقطاع.
ورغم تحذير القيادة الفلسطينية الادارة الامريكية والحكومة الاسرائيلية في محادثات قمة كامب ديفيد من ان المس بالمسجد الاقصى ولو بالكلام، يعني زرع رياح التطرف والعنف القومي والديني في المنطقة، ويهيئ المناخ لهبوب عواصف تطيح بعملية السلام وما نشأ عنها من علاقات سلمية بين اسرائيل والدول العربية كافة، الا ان الرئيس الامريكي ورئيس وزراء اسرائيل واركانهما استهتروا في حينه بالتحذير الفلسطيني. وظلا أسيرين، الاول، لفكر الدولة العظمى التي لا يعصى لها أمر، والثاني لعقلية المحتل التي تحتقر من تحتلهم. وبدلا من من قراءة مدلولات فشل “قمة الكامب” بصورة موضوعية، واصل رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير خارجيته بالوكالة حديثهما حول الحق التاريخي لليهود في منطقة الحرم القدسي الشريف، وهيجا غرائز المتطرفين الاسرائيليين متديين وعلمانيين وفتحا باب المزايدات داخل المجتمع الاسرائيلي. ومضيا قدما في استفزاز مشاعر الفلسطينيين والعرب مسلمين ومسيحيين، تحت سمع وبصر اليسار وحمائم حزب العمل وقوى السلام في اسرائيل. وتوجا مواقفهم العنجهية والاستفزازية بتسهيل قيام شارون بزيارة لمنطقة الحرم القدسي الشريف دامت قرابة نصف ساعة فقط واضطر تحت ضغط الناس المؤمنين مغادرة المكان بسرعة. واي تكن اهداف شارون من هذه الزيارة فقد كانت شرارة كافية لتفجير موجة قوية من الغضب الشعبي في انتفاضة اطلق عليها اهلها في البداية “انتفاضة الاقصى”. انفجر غضب الناس وكرههم للاحتلال في تلك اللحظة ولا تزال تفجراته تتوالى حتى الآن بصيغ متنوعة.
شرارة الانتفاضة انطلقت من القدس
صباح يوم الجمعة 28/9/2000، وضعت الاذرع الامنية الاسرائلية في منطقة القدس في حالة تأهب قصوى. وتم حشد قرابة 3000 رجل امن وشرطة داخل وخارج ساحات المسجد الاقصى لحماية شارون وقمع المقدسيين اذا حاولوا تعكير اجواء الزيارة. وتلقت هذه القوات اوامر صريحة بتنفيذ المرحلة الاولى من خطة “حقل الاشواك” التي تدربت عليها جيدا. وكانت الاوامر صريحة تسمح باطلاق الرصاص الحي بكثافة وايقاع خسائر كبيرة في صفوف “المخلين بالنظام”. وخلال ساعات قليلة قتلت وجرحت اعداد ا كبيرة من المصلين العزل من السلاح. وطاردت الآخرين في في أزقة المدينة القديمة واحيائها الحديثة خارج الاسوار. وفي اليوم الثاني وما تلاه تصدت اجهزة الامن الاسرائيلية بالرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع والمؤثر على الاعصاب للمظاهرات السلمية الشاملة التي اندلعت في الجليل والمثلث والنقب وفي سائر مدن الضفة والقطاع، دفاعا عن المسجد الاقصى وتضامنا مع اخوانهم المقدسيين. وفي سياق تطبيق خطة “حقل الاشواك” قتلت وجرحت اجهزة الامن الاسرائيلية اعداد كبيرة من الفلسطينيين كان ضمنهم 13 شهيدا من “عرب اسرائيل” يحملون الجنسية الاسرائيلية. وبدلا من معاقبة المسئولين عن هذه المجزرة ضد من منحوه 96% من اصواتهم، عمل باراك على اخفاء الجريمة وحمل الشهداء مسئولية استفزاز اجهزة الامن الاسرائيلية وارغامها على قتلهم..!. واشاد بدور الشرطة وسائر اجهزة الامن الاخرى في الحفاظ على الامن والنظام وستر على جرائم المجرمين، وفقد نهائيا ثقة العرب في اسرائيل واعلنوا ندمهم على منحه 96% من اصواتهم في الانتخابات. ولاحقا حاول باراك بث اشاعة مفادها ان زيارة شارون نظمت بعد التشاور مع اجهزة الامن الفلسطينية التي كذبته.
الى ذلك، رفعت قوى اليمين وتيرة ضغطها على باراك للاستقالة، وحملته مسئولية انفجار الانتفاضة وزج اسرائيل في حرب جديدة ضد الفلسطينيين بدلا من جلب السلام معهم، وطالبوه باطلاق يد الجيش واعطائه حرية التصرف، ورفعوا شعار “دعوا الجيش ينتصر”. وقدمت اقتراحات متعددة وفي يوم 28/11/2000 تصوت اغلبية اعضاء الكنيست في القراءة الاولى لصالح اقتراح قدمه اليمين يدعو حل نفسه والتوجه لانتخابات برلمانية مبكرة. وبعد تيقن باراك من الذهاب الى الانتخابات حاول بطريقة مواربة استرداد بعض ثقة العرب في اسرائيل التي فقدها، ووافق على تشكيل لجنة تحقيق رسمية بتلك “الحوادث” كما سماها. ولكن بعد فوات الأوان وسبق السيف العذل. وبينت استطلاعات الرأي شبه اجماع في صفوفهم على معاقبة باراك بالامتناع عن المشاركة في الانتخابات وهناك من يدعو للتصويت بورقة بيضاء. وبينت ايضا ان اعتذار اللحظة الاخيرة الذي قدمه لذوي الشهداء لم تغير في موقفهم. وأظن انه لن يحصل على نصف عدد الاصوات العربية التي حصل عليها في انتخابات 1999، وهذا وحده يكفي لاختلال نتائج الانتخابات لصالح شارون، باعتبار ان كلا من شارون وباراك قد يحصل على نسبة متقاربة من اصوات اليهود.
والقراءة الموضوعية لمواقف حكومة باراك بعد مجزرة الحرم وسير الاحداث بعدها تؤكد وجود خطة مبيتة كان هدفها استدراج القيادة الفلسطينية وتفجير الازمة الكامنة معها. وان باراك استخدم شارون حصان طروادة لتثبيت توجهات سياسية وايدلوجية وتحقيق اهداف مباشرة: اولها، محاولة فرض شروطه وفهومه للتسوية النهائية بالقوة على الطرف الفلسطيني بعد فقدانه الامل بقدرة الادارة الامريكية، في نهاية عهدها، على تجريعها للفلسطينيين، ويأسه من اقناع عرفات، بالّتي هي احسن “الحوار” التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي حسب ساعته الاسرائيلية، ينهي النزاع الفلسطيني العربي الاسرائيلي ويحقق له مكاسب كبيرة أخرى. يوظفها في معالجة ازمته الداخلية الخانقة ويتوجه بها الى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة مضمونة النتائج. وتوهم باراك واركانه ان ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف الفلسطينيين ترعب القيادة الفلسطينية وتجبرها على توقيع الاتفاق. وثاني اهدافه، تبرير موقفه امام ناخبيه وتحميل الفلسطينيين مسئولية افشال الجهود الاسرائيلية الامريكية من اجل صنع السلام. والظهور امام قوى السلام الاسرائيلية بمظهر من اجبر على استبدال درب السلام والمفاوضات الذي التزم به امامهم بطريق القوة ولغة العنف. ومد جسور جديدة، مع جمهور اليمين على جثث الفلسطينيين. بأمل نيل رضى اكبر عدد ممكن منهم وضمان مستقبله السياسي. وثالثها، محاولة “اليساري العلماني” احياء موقع هيكل سليمان على ابواب القرن الجديد، كركيزة نظرية اساسية في العقيدة الصهيونية وتجديدها بعد تآكلها في العقود الاخيرة من القرن العشرين في اوساط يهود اوروبا وامريكا.
واذا كانت الايام القادمة كفيلة بكشف حقيقة نوايا باراك واهدافه من تفجير معركة الحرم وتوقيتها، فالمؤكد ان “انتفاضة الاقصى” وتفاعلاتها الاقليمية والدولية، مثلت حدا فاصلا بين نهاية مرحلة من العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية كانت واضحة المعالم، وبداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد. بدأت بتهييج المشاعر الدينية في عموم ارجاء المنطقة، وقتل القوات الاسرائيلية حتى الآن بقرار سياسي مبيت، قرابة 400 فلسطيني وجرح ما يزيد على 15ألف أخرين. ومع سفكها هذه الدماء الفلسطينية فتح جرح الفلسطينيين العميق المزمن، في الجليل والمثلث والنقب “عرب اسرائيل”. وانهارت الافكار والمشاريع الاسرائيلية والامريكية المتعلقة بحل مشكلة اللاجئين والقدس، ودخلت عملية السلام على المسار الفلسطيني في منحى جديد. وبدأت القضية الفلسطينية باستعادة عمقها العربي الذي افتقدته سنين طويلة. وتحركت في عواصم الدول العربية ومدنها مظاهرات شعبية حاشدة، اعادة الى الذاكرة العربية حركة النضال القومي المشترك في الستينات ومنتصف السبيعينات. طالبت النظام الرسمي العربي مساندة نضال الفلسطينيين من اجل التحرر من الاستعمار الصهيوني، وحماية المقدسات ورموز العرب التاريخية في مدينة القدس.
وبعد قرابة شهرين من عمر الانتفاضة، وبعد انتظار فلسطيني طويل، دعى الرئيس حسني مبارك الى عقد قمة عربية يومي 21ـ 22 تشرين الاول/ أكتوبر2000، لمناقشة اوضاع عملية السلام وسبل مساندة انتفاضة الفلسطينيين. وكانت القيادة الفلسطينية قد طالبت مرارا وتكرار، في العامين الاخيرين، أمين عام الجامعة العربية ورئيس القمة العربية بالدعوة لعقد قمة طارئة لبحث اوضاع عملية السلام التي دخلها الفلسطينيون والعرب بقرار عربي، ولكن لا حياة لمن تنادي وفشل الزعماء العرب في عقدها. وحاول بعضهم اخفاء عجزه وتهرب بدوافع قطرية ضيقة من عقدها. تارة، بالحديث عن ضرورة التحضير الجيد لضمان نجاح القمة وحل ازمة العلاقة بين الدول العربية، واخرى، بضرورة انتظار وضوح صورة التحركات والمفاوضات على المسار الفلسطيني. واظن، وبعض الظن الشعبي بالحكام ليس اثم، ان بعضهم كان ينتظر ويتمنى ان يخضع الفلسطينيون للضغوط الامريكية الاسرائيلية، ليرتاحوا من المشكلة الفلسطينية التي سببت لهم صداعا مزمنا.
وبصرف النظر عن آراء الزعماء العرب في حل القضية الفلسطينية فقد وجدوا انفسهم امام امتحان عسير، وكانوا جميعا تحت رقابة الشعوب العربية ودول العالم. وظهرت مزاودات ومناقصات في سوق النظام الرسمي العربي، وظهرت بوادر تشكل محاور عربية حول الموقف من عملية السلام وسبل التصدي للمواقف الاسرائيلية المتطرفة وممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين. وبعد لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية عقدها الزعماء العرب على هامش القمة ومناقشات موسعة داخل الاجتماعات الرسمية، اتخذت القمة العربية جملة قرارات سياسية ومالية كان ضمنها؛ قرار اكد على تشكيل لجنة عربية دائمة تعمل بكل السبل لتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. واستثمار العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الامريكية والدول الكبرى الاخرى لوقف شلال الدم النازف في شوارع المدن وازقة القرى الفلسطينية. ومطالبة الامم المتحدة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وارغامها على الانسحاب من الاراضي العربية التي احتلت في العام 1967. وقرار آخر أكد دعم العرب حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة على جميع الاراضي المحتلة عام 1967وعاصمتها القدس. والشروع في تحرك عربي موحد لتأمين الاعتراف الدولي اللازم بقيامها على الارض عند اعلان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قيامها.
وقرار ثالث، اكدوا فيه وقف تطبيع علاقات الدول العربية مع اسرائيل وضمنها سحب السفراء، ودعوا الدول الاسلامية والصديقة الى اتخاذ مواقف مشابهة. وطالبوا الامم المتحدة بفرض العقوبات على اسرائيل طالما لم تلتزم بحقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي. وقرار رابع، اعلنوا فيه مساندتهم للموقف الفلسطيني المتمسك بعروبة مدينة القدس. ورفض الاطروحات الامريكية الاسرائيلية المتعلقة بحل قضيتها، التي تدعو الى تقسيم المدينة الى احياء وحارات وتقاسم السيادة على احيائها الخارجية، ومشاركة اسرائيل في السيادة على منطقة الحرم القدسي الشريف وبعض احياء البلدة القديمة. والتمسك بحق اللاجئين في العودة والتعويض حسب قرار الامم المتحدة رقم 194. وقرار خامس خصصوا فيه مبلغا من المال لدعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة اعمال القتل وسياسة التجويع والخنق الاقتصادي الذي تمارسه اسرائيل.
الى ذلك اختلف الفلسطينيون حول القمة وقراراتها. منهم من وصفها بالجيد ومنهم من قال انها دون المستوى المطلوب، وخشي ان تكون بداية مشروع عربي لاطفاء جذوة الانتفاضة وتنفيس احتقان الشرع العربي واحتواء غضبه ضد الاستعمار الصهيوني لاسرائيل المدعوم امريكيا. وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على القمة وقراراتها، تعزت مواقف من شككوا في في اهدافها ونتائجها، خاصة وان قراراتها الهامة لم ترى النور ولم يلمسها اهل الانتفاضة. وأظن ان الزعماء العرب سيلتقون في قمتهم الجديدة في عمان في الشهر القادم والانتفاضة الفلسطينية متواصلة بصيغة او اخرى. واذا كان بعض الفلسطينيين لا يعول سلفا على ما سيصدر عنهم من مواقف وقرارات فالآخرون يتمنون ان يسرع الزعماء العرب تنفيذ قراراتهم قمتهم الاخيرة التي انعقدت في القاهرة، وان يحضروا انفسهم لاتخاذ مواقف سياسية وعملية في مستوى التطورات والاحداث الكبرى المتوقعة بعد الخراب الكبير الذي الحقه باراك بعملية السلام، ومواجهة الدمار الواسع الذي قد يلحقه شارون بالمنطقة وبخاصة بالارض الفلسطينية وما عليها من بشر وشجر وممتلكات.
واذا كانت مجريات الصراع منذ تولي باراك سدة الحكم في اسرائيل في ايار 1999 وحتى اعلان سقوطه المريع المتوقع يوم 6 أو 7 شباط الجاري، بينت ان المجتمع الاسرائيلي غير ناضج لصنع السلام العادل والدائم والشامل، فمواقف باراك وممارساته على مدى 18 شهرا ساهمت بجدارة في تعزيز مواقع اليمين المتطرف المعادي لمبدأ السلام مع العرب. وفي سياق انصاف الجنرال باراك يجب الاعتراف بانه انقذ الجيش الاسرائيلي من المستنقع اللبناني ولم يكلف اسرائيل دفع تعويضات للبنانيين عن خسائرهم الكبيرة التي الحقها الاحتلال بهم. وانه كسر المحرم الاسرائلي بشان القدس. الا ان هذين الانجازين اليتيمين لا يغفران ذونبه وجرائمه الكبيرة التي ارتكبها بحق شعوب المنطقة وضمنهم شعب اسرائيل. خاصة وان هذين الانجازين كانا اقرب الى “حرث الجمال” ولم تظهر آثارهما الايجابية ولم يجنى احد ثمارهما، وتبخرا بسرعة تحت وطئة تردده في استكمال الهجوم
والى ذلك، يسجل له ايضا تفوقه بامتياز على نتنياهو زعيم ليكود في تخريب علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية التي بنتها خلال فترة السلام. ونجح بتفوق في اعادة منطقة الشرق الاوسط الى ما كانت عليه قبل عشر سنوات، حيث كان اطراف الصراع يتباهون بطريقة استعراضية بقدراتهم العسكرية وعملياتها القتالية. وبصرف النظر عن النوايا فان ظهور النظام الرسمي العربي بمظهر الرجل المريض العاجز عن الفعل، شجع القوى الاقليمية والدولية على مواصلة التطاول على الحقوق العربية والتدخل في شؤونهم الداخلية، مثل حالة الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الاولى. وشجع حكام اسرائيل بدء من شامير مرورا برابين وبيريز ونتنياهو وانتهاء بباراك على التمرد على قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضايا العربية، والتلاعب بعملية السلام التي انطلقت من مدريد قبل تسع سنوات، والاستفراد بالفلسطينيين والاستهتار بالاتفاقات التي وقعت معهم بحضور بعض الرؤساء العرب.
ولا يمكن لاي قاض نزيه وعادل تبرئة الولايات المتحدة الامريكية في عهد كلينتون من مسئوليتها المباشرة عن الحالة المزرية التي تعيشها عملية السلام الآن. وتدهور اوضاع المنطقة الى مستوى خطير جدا. حقا، لقد ضيعت ادارة الرئيس كلينتون فرصة تحقيق تقدم نوعي على طريق السلام العربي الاسرائيلي اكثر من مرة، وهدرت من عمر عملية صنع السلام على المسار الفلسطيني سنوات ثمينة وارتكبت بحقها جرائم كبيرة وصغيرة كثيرة. وبصرف النظر عن نوايا الرئيس كلينتون فمساندة اركانه ومساعديه في سنوات حكمه الثمانية للمواقف الاسرائيلية المتعارضة مع قرارات الشرعية الدولية ومع ابسط قواعد حقوق الانسان ساهمت في دفعت باراك نحو نهاية سياسة لا يحسد عليها. ووضعت المنطقة على حافة سلسلة انفجارات صغيرة تقع في شتى زوايا المنطقة وقد تتوج بانفجار واسع اذا لم يتحرك جميع المعنيين عن السلام في المنطقة واستقرار اقليم الشرق الاوسط بسرعة للجم اندفاع اليمين المتطرف نحو قتل عملية السلام ودفنها في القدس.