كلينتون زرع بذور حرب قبل رحيله
بقلم ممدوح نوفل في 17/01/2001
في 20كانون الثاني/ يناير الجاري يغادر الرئيس كلينتون البيت ات الأبيض بعد 8 سنوات من توليه سدة الحكم في أقوى وأغنى دولة في العالم. اثبت خلالها انه يملك طاقات كبيرة ومتنوعة، وحقق إنجازات داخلية وخارجية يقدرها له شعبه. وقام بأعمال شخصية مثيرة ستبقى لفترة طويلة راسخة في ذاكرة رجال السياسة في معظم أنحاء العالم. ويسجل له نجاحه في تكريس الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الدولة الوحيدة التي لها حق التدخل في جميع النزاعات الدولية دون إذن احد، وهي وحدها التي تحدد دور الأمم المتحدة والقوى العظمى والصغرى في حلها. وبشان النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يسجل له انه بذل جهودا كبيرة لحله لم يبذلها رئيس أمريكي قبله. وزار منطقة الشرق الأوسط 6 مرات وأجرى 175 اتصالا مع رؤساء دول بخصوص هذا النزاع، واستقبل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية مرات كثيرة حتى أصبح ابو عمار أكثر زعيم أجنبي زار البيت الأبيض، (الواشنطن بوست “13/1/2001). وأصبح كلينتون خبيرا في شئون النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وصار بامكانه رسم خريطة الضفة الغربية وقطاع غزة بدهاليزهما التفصيلية المتشعبة وهو مغمض العينين، وختم فترة رئاسته بطرح أفكار غير مسبوقة بشان معالجة هذا النزاع.
وبالرغم من ذلك كله، سيغادر كلينتون البيت الأبيض قبل حل هذا النزاع المزمن، وبدون تحقيق ما يجعله مرشح قوي لنيل جائزة نوبل لصنع السلام في الشرق الأوسط كما كان يطمح. صحيح انه طرح في آخر ايامه افكارا امريكية جديدة جريئة لحل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، اكد فيها ان لا حل له بدون قيام دولة فلسطينية مستقلة على قرابة 95% من الاراض التي احتلت عام 1967، وان تكون ذات سيادة وعاصمتها القدس ولها حدود واضحة ومحروسة بقوات دولية. وقدم اقتراحات عملية لمعالجة مشكلتي القدس واللاجئين متقدمة على ما طرح امريكيا من قبل..الخ وافكاره واقتراحاته لا تزال موضع بحث ونقاش، الا ان مجريات حياة الفلسطينيين والاسرائيليين تؤكد ان ليس في الافق غيوم سلام تبشر بامكانية التوصل الى اتفاق سلام جديد، شامل او جزئي، قبل رحيله. ووقائع بحث افكاره واقتراحاته، في اجتماعات غزة والقدس وعند حاجز ايرتز والقاهرة وقبلها في واشنطن، بينت للفلسطينيين انها افكار واقتراحات اسرائيلية بالاساس، لم يسجل المفاوضون الاسرائيليون “بيريز وبن عامي وامنون شاحاك وجلعاد شير” اي ملاحظة عليها، وغلفت باتقان باوراق امريكية لتمويهها وبيعها للفلسطينيين باسعار عالية، وبالدولار بدلا من الشيقل. ورفض مفاوضوهم شرائها، واكدوا لاصحابها الاصلين ما قالوه لمن تبنوها؛ انهم يرو ان بعضها قيم وذو قيمة كبيرة، لكنها بالاجمال ناقصة وبعيدة عن قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي ولا تقدم علاجا جذريا ودائما له. وفيها انحياز صارخ لمواقف اسرائيل ومصالحها الاستراتيجية وتجحف بحق الفلسطينيين، وبعضها خطير جدا على مصالحهم وحقوقهم الوطنية وبخاصة نسفها قرارات الامم المتحدة 194و242و338 والحلول مكانها.
وبصرف النظر عن النوايا، فان افكار الرئيس كلينتون الجديدة، التي لخص فيها مواقف الطرفين، لم تساهم في تهدئة الصراع الجاري على الارض بل عقدته واججته، تماما كما فعلت مواقفه وافكاره “الخلاقة” التي طرحها في تموز/يوليو الماضي في قمة كامب دافيد الثلاثية، التي عقّدت المفاوضات، وأزّمت العلاقات الفلسطينية الامريكية، وعجلت في انفجار الانتفاضة، ودفعت الفلسطينيين والاسرائيليين الى خنادق القتال. وجعلت الفلسطينيون يبتهلون، في هذه الايام، الى السماء ان يرحل كلينتون باسرع وقت ممكن من دون طرح بيان رئاسي يتضمن افكار اضافية تلحق بهم مصائب وعذابات جديدة. ويتمنون عليه ان ينفذ، قبل او بعد رحيله، مقولته الشهيرة في واي بلنتيشن؛ “هذه هي افكاري اذا لم تقبل فانها لن تزال عن الطاولة فحسب، وانما تذهب معي ايضا عندما اترك منصبي”.
الى ذلك، يمكن الجزم بان ضغوط كلينتون على الفلسطينيين وجميع التحركات والاتصالات الواسعة العلنية والسرية التي اجراها هو واركانه، في الايام القليلة السابقة، مع حكومات المنطقة، بالكاد امنت لهم انسحابهم من الحكم قبل انفجار الصراع بصورة اوسع واكثر دموية. وبصرف النظر عن النوايا فليس في افق المنطقة ما يشير الى امكانية نجاح تحركات وضغوط الرئيس كلينتون بالتوصل الى اتفاق قبل 48 ساعة على رحيله من البيت الابيض. وخصوصا وان قضايا الخلاف بين الطرفين كثيرة وكبيرة وافكاره المنحازة لاسرائيل زادتها تعقيدا من وجهة النظر الفلسطينية. ويدرك الرئيس كلينتون أكثر من سواه ان اللقاءات الثنائية الامنية والامنية السياسية، السرية والعلنية، الجارية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، بناء على الحاحه، لن تحقق في يومين ما عجز هو وجميع اركانه عن تحقيقه في 8 سنوات. والكل يعرف بان عمر هذه اللقاءات والمفاوضات بات قصير جدا وبالكاد تصلح لتقطيع كلينتون بقية وقته في البيت الابيض. ولن يكون بمقدوره الاستعانة، لاحقا، بمفاوضات اللحظة الاخيرة كشهاد امام محمة التاريخ على انه انهى فترة رئاسته وعملية السلام لا تزال على قيد الحياة وطرفي النزاع يجلسان خلف طاولة المفاوضات.
وفي كل الاحوال سيدون التاريخ في صفحاته ان كلينتون تسلم عملية صنع السلام من ادارة بوش ـ بيكر عام 1993، وهي في اوج قوتها وحيويتها وتمتع بثقة نسبة كبيرة من الفلسطينيين والاسرائيليين وشعوب المنطقة الاخرى. لكنه سلمها لادارة جورج بوش الابن في مطلع عام 2001 وهي هابطة تركد في غرفة العناية الفائقة في حالة وفاة سريري، مشلولة ومنهكة القوى ومستنزفة تماما ولا أمل بشفائها في مدى زمني قصير الا بمعجزة في زمن ولت فيه المعجزات. وسيسجل ايضا ان كلينتون قطف في بداية عهده، بسهولة، اتفاقي أوسلو ووادي عربة بين الاسرائيليين والفلسطينيين والاردنيين اللذين ارسى اسسهما الثنائي بوش وبيكر، واشاد هو في احتفالات توقيعهما بجهودهما واعترف بانهما ثمرة جهودهم، لكنه سلم هذين الاتفاقين لمن خلفوه وهما في حالة يرثى لها ومصيرهما غامض ومجهول، ولم يحسن استثمارها في تعزيز مكانة عملية السلام وصنع شرق اوسط جديد.
ولا ابلغ اذا قلت ان مواقف كلينتون ومساعديه اولبرايت ودنيس روس خلال 8 سنوات في المفاوضات كرهت الفلسطينيين شعبا ومفاوضين، بمن فيهم انصار السلام، بكل ما يمت بصلة لرعاية امريكية لعملية السلام. ودفعتهم الى القرّف من كل شيء اسمه لقاءات واتصالات واجتماعات واتفاقات امن وسلام مع اسرائيل. ولن ينسى الفلسطينيون ان كلينتون واعوانه ـ حماة حقوق الانسان ـ رحلوا من البيت الابيض ولم يحاولوا قبل رحيلهم وضع حدا لمواقف القيادة الاسرائيلية العنصرية وممارساتها الفاشية، وصمتوا على باراك وهو يمارس هواية قتل شباب واطفال ونساء وشيوخ فلسطين. وستبقى الشعوب العربية تتذكر ان كلينتون ضيع فرصة صنع السلام في المنطقة.
واقصى ما يطلبه الفلسطينيون من كلينتون واعوانه ان يرحلوا من دون تحميلهم مسئولية افشال عملية السلام. وان لا يقدموا قبل رحيلهم الغطاء السياسي اللازم لباراك واركان المؤسسة العسكرية الامنية الاسرائيلية للتفنن في تعذيبهم، وارتكاب مزيد من اعمال القتل المستمرة ضدهم وضد ممتلكاتهم منذ قرابة 4 شهور، مثلما غطوا له عدم التزامه باتفاقات المرحلة الانتقالية الكثيرة التي وقعت في حديقة البيت الابيض وشهدوا على تواقيعه.
وفي كل الاحوال، سيغادر كلينتون البيت الابيض وهو متهم بزرع بذور حرب اقليمية جديدة، ويعرف هو واركانه انهم راحلون ومنطقة الشرق الاوسط تقف على حافة انفجار كبير. ولن يستطيع أبرع محاميه الذين نجحوا بتغطية فضيحة مونيكا لوينسكي تبرئته من هذه التهمة التاريخية، خصوصا وان الادلة دامغة ووقائعها حية في شتى ارجاء المنطقة. فالغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي سماء فلسطين الاسرائيلي الفلسطيني المشترك بكامله ومنطقة شعبا في جنوب لبنان ومرتفعات الجولان، داكنة السواد وتنذر بتغير دراماتيكي وهبوب عواصف قوية مدمرة واكثر دموية من التي عاشتها المنطقة خلال سنوات الاخيرة. وايضا، لن يخرج الرئيس كلينتون من البيت الابيض بريئا من تهمة المساهة بفعالية في توفيرالمناخ لصعود الارهاب في شتى انحاء المنطقة وتنامي قدرات القوى اليمينية المتطرفة في اسرائيل، وتوفير ظروف مواتية جدا لفوز الارهابي شارون بعد ثلاثة اسابيع برئاسة الحكومة.
الى ذلك كله، يبقى قدر الفلسطينيين بعد كل الذي فعله كلينتون وروس واولبرايت بهم وبعملية السلام ان يتمسكوا بحقوقهم الوطنية كما اقرتها الشرعية الدولية. وان يبذلوا كل جهد مستطاع كي لا يورث كلينتون ادارة بوش مواقفه المنحازة لاسرائيل. وان يستعدوا من الان لمواجهة “مرحلة شارون”. واظن ان مواقفه العنصرية المعلنة المعادية للحقوق الفلسطينية، واعماله الدموية المحفورة في ذاكرتهم، توفرة لهم معرفة مسبقة لطبيعة هذه المرحلة. واذا كان لا خيار امام الفلسطينيين سوى المواجهة فسبيلهم الى الصمود فيها هو العمل باتجاه تفعيل عمقهم العربي وتوسيع جبهة الاصدقاء في الامم المتحدة وخارجها. مع الحرص الشديد على مواصلة انتفاضتهم السلمية ومأسستها وتخليصها من كل النواقص والشوائب التي قلصت حجم المشاركة الشعبية فيها. ولا شك في ان تفعيل دور المنظمات والاتحادات الشعبية، واعادة تنظيم اوضاع السلطة ومؤسساتها واجهزتها المدنية والامنية ضرورة وطنية ملحة لضمان صمودها في مواجهة الهجمة الشارونية التي ستتركز ضدها ولضمان استمرار حضورها الفاعل في كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني، في كل الظروف والأحوال القاسية القادمة.