السلام الفلسطيني الاسرائيلي قبل وبعد الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 04/02/2001
يعيش الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة اوضاع اقتصادية وأمنية هي الاقسى والاخطر منذ وقوعهم تحت الاحتلال في العام 1967. ويخضعون منذ أكثر من اربعة شهور، بشرا وارضا وشجرا وممتلكات، لاشكال متنوعة من اعمال القتل والتنكيل والعقوبات الجماعية لم يشهدوا مثلها من قبل. وأيا تكن مبررات وتفسيرات القيادة الاسرائيلية لاسباب تطوير اجراءاتها الامنية ضد الشعب الفلسطيني وتصعيدها الى هذا المستوى، فهي موضوعيا وقانونيا اعمال ارهابية عنصرية تتناقض مع جوهر الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، ومع اهداف عملية السلام وتضعف مصداقيتها على كل المستويات، وتتعارض مع مبادئ الشرعية الدولية وابسط قواعد حقوق الانسان. وهذه الاجراءات تم تخطيطها بدقة واحكام من قبل المؤسسة العسكرية الاسرائيلية تحت اسم “خطة حقل الاشواك”، وصادقت عليها حكومة باراك “اليسارية” قبل قرابة عام وربطت تنفيذها بتطورات محتملة.
وبصرف النظر عن تقييم قوى النظام السياسي في اسرائيل للانتفاضة فهي في نظر الفلسطينيين والشعوب العربية وجميع الشعوب التي عانت من الاستعمار حركة مقاومة سلمية عادلة لشعب مستعمر ضد نظام يستعمره يستخدم صنوف متعددة واشكال متنوعة من العقاب الجماعي تشبه الى حد كبير اجراءات الابرتهايد التي فرضها النظام العنصري في جنوب افريقيا في اواخر زمانه، ولم ينجح في ثني شعب جنوب افريقيا عن متابعة نضاله وتحقيق الانتصار. واذا كان قادة اسرائيل وأركان الادارة الامريكية يعتبرون الانتفاضة اعمال عنف فهي في نظر البحاثة الاجتماعيين والمحللين السياسيين المحايدين مقاومة جماعية لناس عاشوا ثلث قرن تحت حكم الاحتلال لم يعودوا قادرين تحمل ممارساته الاستعمارية العنصرية فترة اطول. ويتطلعون الى انتزاع حريتهم واستقلالهم وفق مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الامم المتحدة التي تعطي الشعوب المحتلة الحق في مقاومة المحتل الاجنبي بكل الوسائل المتاحة.
والمقارنة السريعة بين موقف الادارة الامريكية من الانتفاضة الفلسطينية وموقفها من “انتفاضة” الشعب اليوغوسلافي ضد نظام ميلوسوفيتش الدكتاتوري مثلا يؤكد استخدامها مكيالين في تقييم نضال الشعوب. بعد انفجار الانتفاضة الفلسطينية نهض الشعب اليوغوسلافي مطالبا بحقوقه الديمقراطية وتحرك الناس في المدن والارياف للاطاحة بنظام ميلوسوفيتش ورحبت الادارة الامريكية وكل الدول الديمقراطية في العالم بهذا التحرك وساندته بقوة. اما نهضة الفلسطينيين ضد الاحتلال العسكري الاسرائيلي وركيزته الاستيطان فتلقى الشجب والاستنكار من الادارة الامريكية راعي عملية السلام. وبدلا من مساندة القرارات الدولية وتوظيف الانتفاضة في صنع السلام اعتبر مظاهرات الفلسطينيين السلمية ضد جيش الاحتلال ورشق الحجارة اعمال عنف تضر بالسلام. ولم يتورع عن مساواة المجرم بالضحية وتحميل الطفل الضحية مسئولية دفع المجرم لارتكاب عملية القتل واعتبرها دفاعا عن النفس ؟!
الى ذلك، تجمع القوى الاقليمية والدولية المعنية باستقرار اوضاع منطقة الشرق الاوسط على ان المصادمات الدموية الجارية بين الفلسطينيين والاسرائيليين منذ 28 ايلول2000 وحتى الآن وقعت على خلفية الازمة العميقة التي عاشتها عملية السلام على المسار الفلسطيني قبل وبعد فشل مفاوضات قمة كامب ديفيد الثلاثية التي جمعت كلينتون وباراك وعرفات في النصف الاول من تموز/يوليو عام2000. ويتفق الفلسطينيون والاسرائيليون على ان هذا الحدث الكبير تطور نوعي طرأ على علاقتهما له نتائج مباشرة على مسيرة السلام الجارية بينهما منذ العام 1991، وستكون له آثارا بعيدة المدى على مستقبل هذه العلاقة. وبصرف النظر عن راي الاسرائيليين في اسباب انفجار الانتفاضة، فالقراءة الموضوعية لتسلسل الاحداث تثبت زيارة شارون زعيم ليكود لمنطقة الحرم القدسي الشريف يوم 28/9/2000، تاريخا لانطلاقها. وتؤكد ان تلك الزيارة كانت صاعق تفجير فجر كره وحقد الفلسطينيين للاحتلال، وحرك بعنف الازمة الناشئة بين الطرفين عن فشل عملية السلام. وتفجر يأس الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة من النتائج البائسة لهذه العملية بعد 9سنوات من عمرها، ومن تلاعب القيادة الاسرائيلية بالاتفاقات التي توقعها معهم تحت سمع وبصر الراعي الامريكي والامم المتحدة وكل المعنيين باستقرار اوضاع المنطقة. ومع هذا الانفجار الكبير دخلت العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية طورها الجديد الذي نشهده الآن.
واذا كانت القيادة الاسرائيلية تحمل القيادة الفلسطينية مسئولية تفجير الانتفاضة “اعمال العنف كما تسميها”، وتتهمها باستغلال زيارة شارون “لجبل الهيكل” الحرم القسي الشريف لتحريك الشارع الفلسطيني وتأليب الراي العام العربي والاسلامي ضد اسرائيل بهدف الضغط عليها واجبارها على تقديم تنازلات في المفاوضات، فالوقائع التاريخية تؤكد ان زيارة شارون تمت بعلم رئيس الحكومة الاسرائيلية “باراك”. وحشد قادة الشرطة واجهزة الامن قرابة2000 من رجالهم بناء على اوامره لحماية الزائر ثقيل الظل، يدحض الرواية الاسرائيلية القائلة ان الزيارة تمت بعد استشارة قادة اجهزة الامن الفلسطينية، ويثبت الرواية الاخرى التي تقول ان باراك لم يأخذ بنصائح الفلسطينيين بالغاء الزيارة. ومجريات الاحداث وتسلسلها على الارض قبل يوم 28/9/2000 وبعده، يشير الى ان موافقة باراك على الزيارة كان خطأ ضمن اخطاء كثيرة جسيمة ارتكبها ابان فترة حكمه القصير. وانه اذن بالزيارة لاستخدم شارون حصان طروادة لتثبيت قناعاته المتطرفة وتحقيق اهداف سياسة مباشرة.
بعد اسبوعين من المفاوضات في كامب ديفيد اقتنع باراك ان رفض عرفات لمقترحاته السخية والكريمة.. نهائي. وقبل عودته الى تل ابيب عزل نفسه عن اركانه ومساعديه وعن الوفود الاخرى، ولم يحاول اللقاء برئيس السلطة الفلسطينية ولم يفكر في طرح بدائل تضمن نجاح المفاوضات. وبعد 48 ساعة خرج باراك من عزلته وقرر العودة الى تل أبيب فورا، ولم يفصح كعادته لاحد من مساعديه ومستشاريه عن الاستنتاجات التي توصل اليها والتوجهات الجديدة التي قررها. والتدقيق في مواقفه المعلنة بعد عودته وسلوكه في الحقل السياسي الاسرائيلي والحقلين الاقليمي والدولي يبين انه قرر منذ ذلك التاريخ؛ اولا، وضع عملية السلام مع الفلسطينيين على الرف والقفز عن كل الاتفاقات والالتزامات التي تمخضت عنها دون مراعاة مواقف ومصالح الآخرين. والشروع في معاقبة الفلسطينيين والضغط عليهم، وتطبيق خطة “حقل الاشواك” الجهنمية، بأمل فرض شروطه وفهومه للتسوية النهائية بالقوة، بعد فشله في انتزاعها من عرفات في “الكامب” بالّتي هي احسن “الحوار”. ويأس من قدرة ادارة كلينتون في نهاية عهدها تجريعها للفلسطينيين في الوقت المطلوب وحسب توقيت اسرائيل. ثانيا، تبرير فشله امام ناخبيه في صنع السلام الذي وعدهم به ابان الانتخابات الاخيرة، وتحميل الفلسطينيين مسئولية افشال الجهود الاسرائيلية الامريكية المضنية التي بذلت لتحقيق هذا الهدف. والشروع في تنفيذ صيغة الحل النهائي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي من جانب واحد وفق رؤيته التي طرحها في كامب ديفيد. وضم مساحات واسعة من الارض الفلسطينية تضمن بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت السيادة الاسرائيلية. ثالثا، العمل على اطالة عمر حكومته اطول فترة زمنية ممكنة، والظهور امام قوى السلام الاسرائيلية بمظهر من اجبر على استبدال درب السلام بطريق القوة ولغة العنف. ومحاولة بائسة لمد جسور جديدة مع قوى اليمين على جثث الفلسطينيين ونيل رضاهم. والرابع، محاولة “اليساري العلماني” احياء وتجديد موقع هيكل سليمان على ابواب القرن الجديد كركيزة نظرية اساسية في العقيدة الصهيونية، بعد تآكلها في العقود الاخيرة من القرن العشرين في اوساط واسعة من يهود اوروبا وامريكا. خامسا تهيئة اوضاع اسرائيل لتقبل توجهه الجديد وحشد الطاقات الحزبية والشعبية خلفه والاستعداد عسكريا لمواجهة كل جديد يظهر في طريق التنفيذ.
وبعد الاعلان عن فشل القمة ونعى الرئيس كلينتون لها وامتداحه علنا مواقف رئيس الحكومة الاسرائيلية “باراك” عاد عرفات وبراك الى غزة وتل ابيب بسرعة. في حينه، استقبل الفلسطينيون ابوعمار استقبال الفاتحين واعتبروا صموده في مواجة الضغوط الامريكية الاسرائيلية انتصارا عظيما. وتأكدت المعارضة الفلسطينية بالملموس ان تساهل ابوعمار في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق على الموقف بشان حل القضايا النهائية المصيرية وبخاصة قضيتي القدس واللاجئين. اما باراك فاستقبل بالردح والتشهير من جانب اليسار واليمين الاسرائيليين على حد سواء. اليسار اتهمه بالفشل في صنع السلام الذي انتظروه واليمين اتهمه بالتفريط وتقديم تنازلات غير مسبوقة. وتزعزعت من ذهن الاسرائيليين صورة الجنرال العبقري صانع المعجزات المنتصر دائما والحاصل على اكبر عدد من الاوسمة والنياشين.. وحل مكانها صورة الجنرال المضطرب. وبدأ اضطرابه الشديد يظهر اكثر فاكثر على الارض وفي علاقاته الداخلية والخارجية.
باراك زرع الرياح في القدس فحصد العواصف
بعد وصول ابوعمار وبارك من واشنطن الى المنطقة حرصا على القول ان القمة لم تفشل وان لم يتم التوصل إلى اتفاق. ولم ينتظرا وصول المبعوث الأمريكي لعملية السلام “دينس روس” إلى المنطقة وبادرا إلى استئناف اتصالاتهما المباشرة وغير المباشرة. واصدرا توجيهاتهما لاركانهما باستئناف الاتصالات والمفاوضات الثنائية، والتقى أمين عام الرئاسة “الطيب عبد الرحيم” بنائب باراك في وزارة الدفاع “افرايم سنيه”. وبعد اقل من اسبوع عقد الطرفان جولة مفاوضات جديدة يوم 30 تموز/ يوليو2000 تركزت حول قضايا المرحلة الانتقالية التي لم تنفذ ولم تنال حقها في مفاوضات الكامب. وبصرف النظر عن دوافعهما الخاصة فاقوالهما في تلك الفترة، ان القمة لم تفشل، لم تبدل قناعة الاسرائيليين والفلسطينيين بان ما لم يحققه كلينتون وعرفات وباراك في قمتهم الماراثونية لن يحققه صائب عريقات وجلعاد شير رئيسا الوفدين في المفاوضات الجديدة، حتى لو انضم اليهما منسق عملية السلام وتابعت أعمالهما، يوم يوم، وزيرة الخارجية الامريكية “مادلين اولبرايت”. وأيا تكن مبررات استئناف المفاوضات على هذا المستوى وبهذه السرعة فقد كان واضحا لقوى النظام السياسي الفلسطيني والاسرائيلي والعربي وجميع المعنيين بصنع السلام في المنطقة انها استؤنفت في سياق حرص عرفات وباراك المتبادل على تغطية فشل القمة الثلاثية وتعطيل انفجار الصراع او تأجيله حتى ينجز الطرفان مراجعة مواقفهما ويحددان توجهاتهما السياسية والعملية اللاحقة. وكان هم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية منصبا على امتصاص غضب الرئيس كلينتون وتخفيف اثر تحمليه عرفات مسئولية فشل القمة على العلاقة الفلسطينية الامريكية.
وفي الوقت الذي وافق باراك على استئناف المفاوضات اوعز الى قادة الاذرع الامنية، بصفته وزيرا للدفاع، استكمال التحضيرات الضرورية لوضع خطة “حقل الاشواك” موضع التنفيذ. وشرع الجيش في تدقيق وتحديث معلوماته حول القدرات العسكرية والاقتصادية للسلطة الفلسطينية والقوى الوطنية والاسلامية وضمنها حزب السطة “تنظيم فتح”. ونشطت اجهزة الامن صلتها بالعملاء واشركتهم في المهمة. واستدعت القيادة العسكرية الامنية اعدادا محدودة من قوات الاحتياط، واعادت النظر في انتشار وحدات الشرطة وحرس الحدود ووحدات المشاة الميكانيكية والمدفعية والدبابات المتمركزة في الضفة وقطاع غزة. واعتمدت المستوطنات الامنية والسياسية مواقع قتالية اساسية للجيش وأدخلت المستوطنين المسلحين ضمن الخطة وربطتهم بتشكيلات القوات النظامية. ورصدت الاسلحة والذخائر الاحتياطية اللازمة لمواجهة كل الاحتمالات، وبما يكفل تنفيذ الخطة دفعة واحدة او بالتقسيط وأولت العمل في الحقل السياسي والدعاوي الاعلامي اهمية خاصة ورصدت له الخبرات الفنية والامكانات المادية اللازمة لضمان النجاح وتضليل الراي العام العالمي وتحويل المجرم الى ضحية.
وتوهم باراك ان الضغط العسكري والاقتصادي على الشعب الفلسطيني وسلطتة يمكّنه انتزاع تنازلات سياسية من القيادة الفلسطينية بشأن القدس واللاجئين والارض لم ينتزعها سلما في كامب ديفيد. واعتقد ان الصدام عنيف مع الفلسطينيين يساعده في تبرير فشله امام ناخبيه في تسوية قضايا الحل النهائي على المسار الفلسطيني خلال فترة 15 شهرا كما وعدهم ابان معركته الانتخابية ضد نتنياهو. والظهور امام قوى السلام في اسرائيل بمظهر من اجبر على استبدال درب السلام والمفاوضات الذي التزم به في بيانه الوزاري بطريق القوة ولغة العنف. وتحميل القيادة الفلسطينية مسئولية افشال جهوده وجهود الرئيس كلينتون في كامب ديفيد. ورغم حرص باراك على القول في مؤتمره الصحفي “التابيني” الذي عقده قبل صعوده الطائرة عائدا إلى تل أبيب: “انه طالما لم يتم إبرام اتفاق سلام فان كل الافكار الإسرائيلية التي طرحت في المفاوضات لاغية”، الا ان قوى اليمين الاسرائيلي لم تغفر له موافقته على تقسم القدس وتفريطه بها كمدينة موحدة وعاصمة اسرائيل الى الابد، وتنازله، ايضا، عن أكثر من 92% من ارض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل..وموافقته على اقامة دولة للارهاب الفلسطيني والاسلامي.. وموافقته على ازالة عدد كبير من المستوطنات. وتوالت في الكنيست عمليات الانسحاب من الائتلاف الحكومي توجت بانسحاب كتلة الاخوان دفيد ومكسيم ليفي بعد تهديد استمر بضع أسابيع، واتهم دافيد باراك بتقديم تنازلات خطيرة في “الكامب” تمس المحرمات الإسرائيلية. وتضعضعت اوضاع حكومة باراك أكثر فأكثر وتصدع الائتلاف الذي بناه بيده تحت شعار “اسرائيل واحدة”. وثبت بالملوس استحالة العيش في الصيف والشتاء على سطح واحد. واهتزت شخصية الجنرال باراك التي لم تهزها كل الحروب الكبيرة والصغيرة مع العرب. ودعم حزب شاس انتخاب ممثل الليكود “موشيه قصاب” رئيسا لدولة إسرائيل. وخسر شمعون بيريز تعيس الحظ المعركة واضاف فشلا جديدا الى قائمة الفشل الطويلة التي جمعها في حياته السياسية. وحمّل انصاره باراك المسئولية واتهموه بعدم مساندة بيريز في معركة الرئاسة لاسباب دفينة تتعلق بالعلاقة الشخصية السيئة بين الاثنين.
الى ذلك، عمقت مفاوضات كامب ديفيد شك الفلسطينيين في الداخل والخارج بنزاهة الراعي الأمريكي، وأضعفت ثقتهم بعملية السلام. وتعززت الاتجاهات الشعبية الفلسطينية والعربية المتطرفة والمتشددة المعارضة لعملية السلام والمشككة بجداوها، على حساب الاتجاهات الواقعية المنخرطة فيها والمقتنعة بفوائدها السياسة في الحقلين الدولي والعربي وفي العلاقة مع قوى السلام في اسرائيل. وارتفعت أصوات فلسطينية واقعية وازنة شككت بامكانية التوصل الى تسوية لقضايا الحل النهائي مع باراك في مرحلة الانتخابات. ورأت في مواقف النخب السياسية الاسرائيلية اليسارية واليمينية صورة عدم نضج المجتع الاسرائيلي لسلام عادل وشامل مع العرب. وطالب المتشددون الفلسطينيون وقف اللقاءات والمفاوضات مع حكومة باراك، ودعا آخرون الى الإقتداء بنهج حزب الله واعتماد العمل العسكري الذي اتبعه ونجح في استرداد الحقوق اللبنانية وطرد الاحتلال من الاراضي اللبنانية. ووجدت دعوتهم صدى في الشارع الفلسطيني خاصة وانها ترافقت مع فشل قمة “الكامب” الثلاثية، ومع احتفالات اللبنانيين بالنصر الذي حققوه بانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان.
في حينه، لم يدافع ابوعمار عن عملية السلام ولم يجمّل مستقبلها في عهد باراك، وكان يزود المعارضين بما يدعم حججهم. وبرر استئناف المفاوضات الثنائية بعد “الكامب” بمحاولة تعطيل تنكيل اجهزة الامن الاسرائيلية بالشعب الفلسطيني وامتصاص غضب الرئيس كلينتون. وفي دورة اجتماعات المجلس المركزي التي عقدت في غزة يومي 9و10 ايلول2000، افصح ابوعمار عن قناعته، وكاد يجزم بان لا أفق للتوصل إلى حل مقبول “وليس عادل” مع باراك في عهد إدارة كلينتون اولبرايت. وفي مداخلته الرئيسية تحدث ابو عمار باسهاب عن صدام عنيف مع الاسرائليين وقال: ” يا اخوان الصدام قادم لا محالة وباراك اعطى اوامره للجيش بالتأهب لتنفيذ “خطة حقل الاشواك”. واشار الى تصريحات عدد من القادة الامنيين الاسرائيليين التي عبروا فيها بوضوح عن رفضهم الحلول السلمية المطروحة بشان الحدود والمستوطنات والقدس والاغوار. واعترضوا على مواقف قيادتهم السياسية في “الكامب” ورأو فيها تنازلات كبيرة تعرض امن اسرائيل لخطر استراتيجي مصدره، كما قالوا، العراق وايران من جهة الشرق والارهاب الفلسطيني من اراضي الدولة الفلسطينية.
وعند صياغة البيان الختامي عن اعمال المجلس المركزي ربط البيان، بناء على تدخل ابوعمار، تأجيل اعلان قيام الدولة باجراءين عمليين؛ الاول، شروع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئاسة المجلسين الوطني والتشريعي باتخاذ الاجراءات التنظيمية الضرورية لاعلان قيام الدولة الفلسطينية. والثاني، رفض التهديدات الاسرائيلية المتكررة، والطلب الى القيادة التنفيذية السياسية والعسكرية اتخاذ الخطوات اللازمة لتحضير الشعب الفلسطيني لمواجهة اسوء الاحتمالات وابرزها اقدام حكومة باراك على اعمال عسكرية عدوانية انتقامية ضد الشعب وقيادته الوطنية. وحذر البيان من استغلال المتطرفون توتر الاوضاع بين الطرفين في تنفيذ اعمال ارهابية متنوعة. واستذكر الحاضرون المجزرة البشعة التي ارتكبها غولد شتاين في الحرم الابراهيمي الشريف. وجاءت العمليات العسكرية الخاصة التي نفذتها وحدات من الجيش الاسرائيلي، في تلك الفترة، في قرية سردا قرب رام الله وعصيرة الشمالية قرب نابلس، وقطعت الشك باليقين في ذهن ابوعمار بشأن الصدام. وتاكدت بعد ورود معلومات رسمية عن تحركات واسعة للجيش واجهزة الامن الاسرائيلية في الضفة والقطاع، وقال، ابو عمار: “معلوماتي من مصادر موثوقة تشير الى انهم شرعوا في تطبيق خطة “حقل الاشواك” والعمليتين تمرين عملي لمهام قتالية مفترضة، واخواني العسكريين يفهمون معنى ذلك”.
وبالرغم من تحذير القيادة الفلسطينية الادارة الامريكية والحكومة الاسرائيلية في محادثات قمة كامب ديفيد من ان المس بالمسجد الاقصى، ولو بالكلام، يعني زرع رياح التطرف والعنف القومي والديني في المنطقة ويهيئ المناخ لهبوب عواصف تطيح بعملية السلام وما نشأ عنها من علاقات سلمية بين اسرائيل والدول العربية كافة، الا ان الرئيس الامريكي ورئيس وزراء اسرائيل واركانهما استهتروا في حينه بهذا التحذير الصادق. وظلا أسيرين، الاول، لفكر الدولة العظمى التي لا يعصى لها أمر، والثاني لعقلية المحتل التي تحتقر من تحتلهم. وبدلا من قراءة مدلولات فشل “قمة الكامب” بصورة موضوعية، واصل “العلمانيان” رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير خارجيته بالوكالة حديثهما حول الحق التاريخي لليهود في “جبل الهيكل” منطقة الحرم القدسي الشريف، وهيجا غرائز العقائدين المتطرفين الاسرائيليين متديين وعلمانيين وفتحا باب المزايدات داخل المجتمع الاسرائيلي. ومضيا قدما في استفزاز مشاعر الفلسطينيين والعرب مسلمين ومسيحيين تحت سمع وبصر اليسار وحمائم حزب العمل وقوى السلام في اسرائيل. وهيجا التيار الديني الفلسطيني وراح اتباعه يهددون ويتوعدون.
وتوج باراك وبن عامي مواقفهم العنجهية والاستفزازية بتسهيل زيارة شارون منطقة الحرم القدسي الشريف، دامت قرابة نصف ساعة فقط، اضطر بعدها تحت ضغط الناس المؤمنين مغادرة المكان بسرعة. وايا تكن اهداف شارون من زيارة الاقصى فقد كانت شرارة كافية لتفجير موجة قوية من الغضب الشعبي في انتفاضة اطلق عليها اهلها في البداية “انتفاضة الاقصى”. وتففجر غضب الناس من النتائج البائسة لعملية والسلام وكرههم للاحتلال على ارض الاقصى، وهبوا في مدن ومخيمات وقرى الضفة والقطاع وفي الجليل والمثلث والنقب داخل اسرائيل للدفاع عن القدس وعن اماكنها المقدسة رموز العرب والمسلمين التاريخية.
الصدام بدأ.. وهات من يوقفه
صباح يوم الخميس 28/9/2000، أمر باراك بوضع الاذرع الامنية الاسرائلية في منطقة القدس في حالة تأهب قصوى، وامرها بحماية زيارة شارون “لجبل الهيكل” وقمع المقدسيين اذا حاولوا تعكير اجواء الزيارة. وتلقت الشرطة واجهزة الامن اوامر صريحة بتنفيذ المرحلة الاولى من خطة “حقل الاشواك” التي تدربت عليها جيدا. وتم حشد قرابة2000 رجل امن وشرطة داخل وخارج ساحات المسجد الاقصى. وكانت أوامره واضحة وصريحة تسمح باطلاق الرصاص الحي بكثافة وايقاع خسائر كبيرة في صفوف “المخلين بالنظام”. وخلال ساعات قليلة قتلت أجهزة الامن الاسرائلية سبعة من المصلين العزل من السلاح وجرحت عشرات آخرين، وحولت ساحات المسجد الى ميدان قتال حقيقي وطاردت الآخرين في أزقة المدينة القديمة واحيائها الحديثة خارج الاسوار. ونقلت وكالات الانباء وشبكات التلفزة العالمية مشاهد القتل والمطاردة واستذكر الناس حديث باراك ـ بن عامي حول السيادة الاسرائيلية على المسجد الاقصى وما تحته لضرورات تتعلق بحماية بقايا “الهيكل” اقدس الاماكن اليهودية من العبث الفلسطيني..وربطوا زيارة شارون وتاريخه الدموي الارهابي الطويل المليء بالمجازر بدعوة “امناء الهيكل” الى هدم المسجد الاقصى ومساندة كلينتون وروس وساندي بيرغر واولبرايت طلب الوفد الاسرائيلي في “الكامب” تقسيم المسجد ومنح اليهود زاوية للصلاة فيه. وتجلّت امام المؤمنين صورة الحرم الابراهيمي الشريف المقسم ومعاناة المسلمين والسواح اثناء زيارته، وتشكلت قناعة جماعية ان المسجد الاقصى في خطر.
وبعد اتمام مراسم دفن “شهداء الاقصى” الذين سقطوا في مواجهات اليوم الاول ونقل الجرحى الى مستشفيات القدس ورام الله، تداعت قيادات القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية للقاءات عاجلة، وعقدت اجتماعات في الضفة والقطاع وصدرت بيانات مشتركة دعت الناس في الضفة وقطاع غزة الى اضراب عام تضامنا مع اخوانهم المقدسين واستنكار تدنيس شارون حرمة اولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين. وطالبت القادرين من كل المدن والقرى التوجه لصلاة الجمعة 29/9/2000 في المسجد الاقصى، واقامة صلاة الغائب على ارواح الشهداء في كل المساجد. ودعت العرب والمسلمين الوقوف بجانب اخوانهم الفلسطينيين والتحرك على كل المستويات دفاعا عن عروبة القدس واماكنها الدينية والتاريخية رموز العرب والمسلمين.
الى ذلك دعا ابوعمار القيادة الفلسطينية الى اجتماع طارئ قال فيه: ” باراك بدأ تنفيذ خطة “حقل الاشواك” التي حدثتكم عنها، معركة القدس فتحت في كامب ديفيد وزيارة شارون نقلتها الى هنا، القدس في خطر والاقصى في خطر، واللهم اشهد فاني قد بلغت..”. وعقب الاجتماع صدر بيان فلسطيني حمل الحكومة الاسرائيلية ورئيسها مسئولية زيارة شارون وتدنيسه الحرم القدسي الشريف وما نتج عنها، وطالبها بوقف العدوان ومحاسبة المسئولين عن المجزرة. ودعت القيادة الشعب الفلسطيني في كل مكان الى رص الصفوف والتوحد في معركة الدفاع القدس ومواجة العدوان الاسرائيلي المبيت على المقدسات الاسلامية والمسيحية الاخرى. وطالبت القيادة الفلسطينية حكومات الدول العربية وزعماءها التحرك بسرعة ومساندة الشعب الفلسطيني المصمم على الدفاع القدس والاماكن الدينية والتاريخية فيها. ودعت الامم المتحدة وراعيي عملية السلام ودول المجموعة الاوروبية والصين والمجتمع الدولي تحمل المسئولية وانقاذ عملية السلام من الانهيار، وطالبت رسميا بتشكيل لجنة تحقيق دولية.
وفي اليوم التالي على زيارة شارون لبى الناس في الضفة والقطاع نداء القوى الوطنية والاسلامية. وهب الفلسطينيون في الجليل والمثلث والنقب لنجدة اخوانهم وحشدوا طاقاتهم للدفاع عن القدس وتوجهت جموع غفيرة منهم وتواجدت في المسجد الاقصى. وبعد صلاة الجمعة والصلاة على ارواح الشهداء انطلقت مسيرات شعبية في كل انحاء فلسطين التاريخية. وندد المتظاهرون بزيارة شارون والمجزرة التي رافقتها، وتصدت اجهزة الامن الاسرائيلية بالرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع والمؤثر على الاعصاب للمسيرات السلمية التي اندلعت في سائر مدن الضفة وقطاع غزة. وفي سياق تطبيق خطة “حقل الاشواك” لم تميز اجهزة الامن الاسرائيلية بين الفلسطينيين حملة الجنسية الاسرائيلية واخوانهم في الضفة وقطاع غزة وتعاملت مع الجميع كأعداء. وقتلت وجرحت اجهزة الامن الاسرائيلية اعداد كبيرة من الفلسطينيين كان ضمنهم 13 شهيدا من “عرب اسرائيل” الذين منحوا باراك 96% من اصواتهم في الانتخابات. وارتدى البروفسور اليساري شلومو بن عامي زي ضباط الشرطة واشرف على عمليات التنكيل. واشاد بدور الشرطة وسائر اجهزة الامن الاخرى في الحفاظ على الامن والنظام وستر جرائم المجرمين. ولاحقا فقد باراك ثقة العرب في اسرائيل واعلنوا ندمهم على منحه هذه النسبة العالية من الاصوات وقرروا معاقبته طالبوا بلجنة تحقيق رسمية، وطالب بعضهم رفع مستوى التحقيق وطالب بلجنة دولية تحقيق دولية.
وتحولت الجنازات ومجالس العزاء التي اقيمت في معظم انحاء الضفة والقطاع والجليل والمثلث الى ندوات سياسية يومية كانت تنتهي دوما بتجديد العزم على مواصلة الانتفاضة حتى زوال الاحتلال. وبادرت القوى والاحزاب والحركات الوطنية والاسلامية الى تصدر المواجهات وتحولت التحركات الشعبية الاحتجاجية السلمية الى انتفاضة شعبية شملت جميع اراضي الضفة والقطاع. وبدلا من معاقبة المسئولين عن المجازر وبخاصة المجزرة البشعة التي ارتكبت ضد من منحوه 96% من اصواتهم، عمل باراك على اخفاء الجريمة وحمل الشهداء مسئولية استفزاز اجهزة الامن الاسرائيلية وارغامها على قتلهم..!. وبث اشاعة مفادها ان زيارة شارون نظمت بعد التشاور مع اجهزة الامن الفلسطينية التي كذبته.
وأمر الجيش بتضييق الخناق على مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع. وأقام حواجز عسكرية كثيرة على طرقها الرئيسية والفرعية، واشركت المستوطنين من اليوم الاول في اعمالها الاستفزازية الارهابية. وتوهم باراك واركانه ان ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف الفلسطينيين ترعب القيادة الفلسطينية وتجبرها على توقيع الاتفاق. ووجه باراك رسالة تهديد للقيادة الفلسطينية خلاصتها النهائية؛ اما الموافقة على اطروحاته السياسية والامنية حول الحل النهائي التي قدمها في كامب ديفيد او الانشغال في تجهيز المستشفيات لمعالجة آلاف الجرحى، وفي تشييع ودفن المزيد من قوافل الشهداء تباعا. وتوقع باراك واركانه الامنيين ان تستجيب القيادة الفلسطينية لمواقفه السياسية وتوقف الاحتجاجات الشعبية، لكن الجواب الرسمي والشعبي جاء متعاكسا مع توقعاتهم ورغباتهم. وتلاقى رفض السلطة الاذعان للموقف الاسرائيلي مع تصاعد احتجاج الناس في الشوارع وتوحدت طاقات الجميع في الانتفاضة.
في حينه اوعز باراك للجيش الاسرائيلي والاجهزة الامنية الاخرى بتصعيد اجراءاتها العدوانية ضد الفلسطينيين سلطة وشعب واحزاب وامرها بالبدء في تنفيذ المرحلة الثانية من خطة “حقل الاشواك”. وفي اطار تنفيذ المرحلة الجديدة صعدت الاذرع الامنية اعمالها الارهابية الدموية وطورتها وشددت من اجراءات الاغلاق الامني والحصار الاقتصادي وشلت حركة الناس على الطرقات. ورفع الجيش الاسرائيلي وتيرة استخدام الذخائر الحية واستخدمت اسلحة ثقيلة لم تستخدم في المرحلة الاولى وركز عملياته ضد نشطاء الانتفاضة. ورفع وتيرة ضغطه السياسي على القيادة الفلسطينية. وفشل في تحقيق النتائج التي توخاها وتواصلت الانتفاضة وزاد زخمها، وبدأت تفاعلاتها بالظهور في الساحة العربية. وتحركت في جميع عواصم الدول العربية ومدنها الرئيسية مظاهرات شعبية حاشدة اعادت للقضية الفلسطينية عمقها العربي الذي افتقدته سنين طويلة، واحيت في الذاكرة العربية حركة النضال القومي المشترك في الستينات ومنتصف السبيعينات. وطالب المتظاهرون النظام الرسمي العربي مساندة نضال الفلسطينيين من اجل التحرر من الاستعمار الصهيوني وحماية المقدسات ورموز العرب التاريخية في مدينة القدس. وانتعش اهل الانتفاضة بتلك التحركات وتحدث بعض كوادر الانتفاضة عن انتفاضة من نوع جديدة وعابرة للحدود..
وفي لقاءات القوى الوطنية والاسلامية الجماعية والثنائية ابان فترة الانتفاضة لم تظهر خلافات حول الهدف الاستراتيجي للانتفاضة ممثلا بطرد الاحتلال، لكنهم اختلفوا حول تعريفها وتحديد أهدافها المباشرة وحول اشكال النضال وبخاصة المحافظة على طابعها السلمي في حركتها اليومية. وأظهر الحوار وبيانات التنظيمات المستقلة والمشتركة وهتافاتها في المسيرات وجود ثلاث اتجاهات رئيسية لكل اتجاه ممثليه المعروفين، وهذه الاتجاهات لا تزال قائمة بعد اكثر من 120يوم من عمر الانتفاضة: الأول، يعتقد اصحابه ان حصيلة تسع سنوات من المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية اسقطت خيار السلام الذي اعتمده العرب والفلسطينيون منذ مؤتمر مدريد عام 1991وحتى الآن. ويتمسكون بمواقفهم الرافضة لعملية السلام جملة وتفصيلا. ويطالبون القيادة الفلسطينية بمراجعة مواقفها ووقف العملية السلمية والغاء جميع الاتفاقات التي وقعتها مع اسرائيل، ووقف كل اشكال المفاوضات ويصفوها “بالمهزلة السياسية”. وأطلق اصحاب هذا الخيارا على الحركة الشعبية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية اسم “انتفاضة الأقصى”. ورفعوا في الندوات والمسيرات اليومية المشتركة شعار “الجهاد في سبيل الله”، و”خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود”. واعتقد بعض اصحاب هذا الرأي ان استمرار الانتفاضة يحولها الى حركة اسلامية عابرة للحدود العربية والاسلامية”، ويستشهدون بالتحركات الشعبية العارمة التي شهدتها عواصم الدول الدول الاسلامية والعربية من المحيط الى الخليج، دعما للانتفاضة.
يقابل هذا الرأي رأي آخر، يرى اصحابه ان موازين القوى واوضاع اسرائيل الداخلية ومواقف القوى الاقليمية والدولية، لا تسمح للشعب الفلسطيني تحقيق أهدافه الوطنية المرحلية كاملة، “حق اللاجئين في العودة، واقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وانسحاب اسرائيل من جميع الاراضي التي احتلت عام 1967، وازلة الاستيطان”..الخ، ويعتقدون ان القيادة الفلسطينية أخطأت حين رفضت العرض الذي تقدم به الرئيس كلينتون في آخر يوم من ايام كامب ديفيد الطويلة والشاقة، لاسيما وان هذا العرض يعطي للفلسطينيين دولة مستقلة على قرابة 96% من اراضي الضفة والقطاع وعاصمتها معظم اجزاء مدينة القدس العربية. ويدعو اصحاب هذا الخيار الى التمسك بخيار السلام وبقواعده وأسسه القديمة والالتزام بكل الاتفاقات التي توصل اليها الطرفان. والعودة باسرع وقت ممكن الى طاولة المفاوضات، وقبول الاقتراح الامريكي ـ الاسرائيلي الذي قدم في كامب ديفيد الثلاثية وبلور بصورة اوضح في افكار الرئيس كلينتون والبناء عليها. والموافقة على صيغة ما لانهاء النزاع واعتماد سياسة النفس الطويل في انتزاع بقية الحقوق، وترك الجيل القادم من الفلسطينيين يقرر مستقبله. ويذّكرون الناس بنقد الجيل الحالي لمواقف الآباء والاجداد الذين رفضوا قبول قرار التقسيم عام 1947، وبالنقد الذاتي الذي مارسه بعض قادة الثورة الفلسطينية بشأن رفض المشاركة في مفاوضات كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية حول الحكم الذاتي الفلسطيني. ويقلل انصار هذا الرأي من قيمة الانتفاضة واستمرارها، ويشككون بقدرتها على احداث تغيير جوهري في المواقف الاسرائيلية والامريكية. واصحاب هذه الرأي يخشون اعلان مواقفهم على الملأ، وظلوا يعبرون عنها باساليب غير مباشرة وداخل الغرف المغلقة.
اما الاتجاه الثالث، فاصحابه ظلوا يعتبرون خيار السلام خيارا استراتيجيا لا رجعة عنه، وانه، كان ولا يزل، الطريق الأسلم والاقصر لوصول الشعب الفلسطيني الى اهدافه وتحقيق حقوقه الوطنية التي اقرتها الشرعية الدولية. ورفض انصاره الاخذ بدعوات الاتجاهين الآخرين، ويتهمون الاول بالتطرف والثاني بالخضوع والاستسلام للشروط الاسرائيلية. ورأو في الانتفاضة شكلا من اشكال المفاوضات العنيفة تقوده السلطة بقوى الشعب، من اجل تحقيق الاهداف الوطنية، وهذا الشكل اعتمده الناس والسلطة بعد فشل المفاوضات الطويلة والمضنية، التي خاضها المفاوض الفلسطيني داخل الغرف المغلقة، هدفه رفع وتيرة الضغط على الطرف الآخر وتعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، وتحسين شروط وقواعد التسوية السلمية. وتطوير صيغة رعاية المفاوضات واشراك قوى اقليمية ودولية أخرى، بعدما اكدت التجربة انحياز الراعي الامريكي لاسرائيل وفشله في توجيه قطار السلام نحو اهدافه. ويتبنى انصاره فكرة استمرار الانتفاضة طيلة فترة المفاوضات في حال استئنافها، ويرفضوا اضفاء الطابع الديني عليها، ورفعوا منذ البداية شعار “انتفاضة القدس والحرية والاستقلال”. وبالرغم من هذا التباين الصحي ظل اطراف وقوى النظام السياسي الفلسطيني، سلطة ومعارضة موحدين في في مواجهة الاحتلال اطار الانتفاضة، ويؤكدون في اجتماعاتهم الدورية المشتركة بالاجماع على أهمية ادامة وتصعيد فعالياتها الجماهيرية وتطويرها. الى ذلك، زادت المواجهات وارتفاع نسبة الخسائر من قوة الاصوات المنادية بعسكرة الانتفاضة..
نجدة عربية للانتفاضة لم تكتمل
ومع تواصل الانتفاضة استبدل باراك لغة السلام بلغة الحرب وراح يبشر بحرب اقليمية جديدة، وعاد يتصرف كرئيس اركان ونسي الفرق بين باراك الجنرال وباراك رئيس الوزراء. وسجل الجنرال باراك في حينه نجاحا باهرا في تأليب الشارع الاسرائيلي ضد السلام مع الفلسطينيين واقناع اغلبية الشارع الاسرائيلي بان اسرائيل في خطر، ودعا الجميع الى التوحد في مواجهة الخطر الخارجي والدفاع عن مصالح اسرائيل العليا. ولم تحاول قوى اليسار دحض هذا الادعاء الزائف وفضح اهداف باراك، رغم معرفتهم الاكيدة ان اسرائيل المددجة بالسلاح التقليدي والنووي والمدعومة ظالمة او مظلومة من الولايات المتحدة الامريكية ليست في خطر، واقوى من حجارة اطفال وشباب فلسطين ومن جميع الدول العربية مجتمعة.
الى ذلك، استفزت تصريحات باراك اطراف النظام الرسمي العربي واستهجنت القيادة المصرية والاردنية الموقعة مع اسرائيل اتفاقات سلام حديث باراك عن الحرب وتوترت علاقة اسرائيل مع الدول العربية. وبعد طول انتظار فلسطيني دعى الرئيس حسني مبارك الى عقد قمة عربية يومي 21ـ 22 تشرين الاول/ أكتوبر2000، لمناقشة اوضاع عملية السلام وسبل مساندة انتفاضة الفلسطينيين. وكانت القيادة الفلسطينية قد طالبت مرات عدة أمين عام الجامعة العربية ورئيس القمة العربية بالدعوة لعقد قمة طارئة لبحث اوضاع عملية السلام، التي دخلها الفلسطينيون والعرب بقرار عربي ولكن لا حياة لمن تنادي. وحاول بعضهم في حينه اخفاء عجزه وتهرب بدوافع قطرية ضيقة من عقدها، تارة، بالحديث عن ضرورة التحضير الجيد لضمان نجاح القمة وحل ازمة العلاقة بين الدول العربية، واخرى، تحت شعار ضرورة انتظار وضوح صورة التحركات والمفاوضات على المسار الفلسطيني. واظن وبعض الظن الشعبي بالحكام ليس اثم، ان بعضهم انتظر ان يخضع الفلسطينيون للضغوط الامريكية الاسرائيلية ليرتاحوا من المشكلة الفلسطينية التي سببت لهم صداعا مزمنا.
وما ان تحدد الموعد حتى بدأ بعض الزعماء العرب تراشق التهم عبر الصحافة، وناقش آخرون على شاشات التلفزيون بنود من جدول اعمالها، واصدروا سلفا حكما على نتائجها، ونبه الرئيس الليبي “العقيد معمر القذافي” الى ان الهدف من دعوتها، في هذا الوقت، بالذات هو اجهاظ انتفاضة الاقصى واجهاظ الحركة الشعبية المتفجرة في كل العواصم العربية دون استثناء وقاطع القمة. واطربت تصريحات بعض الزعماء العرب المتشددة آذان قطاعات واسعة من كوادر الانتفاضة، خصوصا وانها تضمنت نقدا للنظام الرسمي العربي الذي قمع الحركة الشعبية العربية سنين طويلة، ونشر الاحباط والياس في صفوف الفلسطينيين من قدرة القمم العربية على اتخاذ قرارات حاسمة توقف العدوان الاسرائيلي المتواصل ضدهم. حتى انهم لم يفكروا، عندما دنس شارون رموز العرب ومقدسات المسلمين، باطلاق صرخة استغاثة للحكام العرب تمام كما حصل ابان انتفاضتهم المجيدة السابقة. وبصرف النظر عن رأي الحكام العرب بهذا الموقف، فالوقائع الحية تؤكد بان ظهور النظام الرسمي العربي بمظهر الرجل المريض العاجز عن الفعل، شجع القوى الاقليمية والدولية على مواصلة التطاول على الحقوق العربية والتدخل في شؤونهم الداخلية، مثل حالة الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الاولى. وشجع حكام اسرائيل بدء من شامير مرورا برابين وبيريز ونتنياهو وانتهاء بباراك على التمرد على قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضايا العربية، والتلاعب بعملية السلام التي انطلقت من مدريد قبل تسع سنوات والاستفراد بالفلسطينيين والاستهتار بالاتفاقات التي وقعت معهم بحضور بعض الرؤساء العرب.
الى ذلك، وجدوا الزعماء العرب انفسهم امام امتحان عسير وكانوا جميعا تحت رقابة الشعوب العربية ودول العالم. وظهرت مزاودات ومناقصات في سوق النظام الرسمي العربي وظهرت بوادر تشكل محاور عربية حول الموقف من عملية السلام وسبل التصدي للمواقف الاسرائيلية المتطرفة وممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين.
وبعد لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية عقدها الزعماء العرب على هامش القمة ومناقشات موسعة داخل الاجتماعات الرسمية، اتخذت القمة العربية جملة قرارات سياسية ومالية كان ضمنها؛ قرار اكد على تشكيل لجنة عربية دائمة تعمل بكل السبل لتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. واستثمار العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الامريكية والدول الكبرى الاخرى لوقف شلال الدم النازف في شوارع المدن وازقة القرى الفلسطينية. ومطالبة الامم المتحدة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وارغامها على الانسحاب من الاراضي العربية التي احتلت في العام 1967. وقرار آخر أكد دعم العرب حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة على جميع الاراضي المحتلة عام 1967وعاصمتها القدس. والشروع في تحرك عربي موحد لتأمين الاعتراف الدولي اللازم بقيامها على الارض عند اعلان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قيامها. وقرار آخر، اكدوا فيه وقف تطبيع علاقات الدول العربية مع اسرائيل وضمنها سحب السفراء، ودعوا الدول الاسلامية والصديقة الى اتخاذ مواقف مشابهة. وطالبوا الامم المتحدة بفرض العقوبات على اسرائيل طالما لم تلتزم بحقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي. وقرار رابع، اعلنوا فيه مساندتهم للموقف الفلسطيني المتمسك بعروبة مدينة القدس. ورفض الاطروحات الامريكية الاسرائيلية المتعلقة بحل قضيتها، التي تدعو الى تقسيم المدينة الى احياء وحارات وتقاسم السيادة على احيائها الخارجية، ومشاركة اسرائيل في السيادة على منطقة الحرم القدسي الشريف وبعض احياء البلدة القديمة. والتمسك بحق اللاجئين في العودة والتعويض حسب قرار الامم المتحدة رقم 194. وقرار خامس خصصوا فيه مبلغا من المال لدعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة اعمال القتل وسياسة التجويع والخنق الاقتصادي الذي تمارسه اسرائيل.
الى ذلك اختلف الفلسطينيون حول الموقف من القمة وقراراتها. منهم من وصفها بالجيد ومنهم من قال انها دون المستوى المطلوب، وخشي ان تكون بداية مشروع عربي لاطفاء جذوة الانتفاضة وتنفيس احتقان الشرع العربي واحتواء غضبه ضد الاستعمار الصهيوني لاسرائيل المدعوم امريكيا. وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على القمة وقراراتها تعززت مواقف من شككوا في اهدافها ونتائجها، خاصة وان معظم قراراتها الهامة لم ترى النور ولم يلمسها اهل الانتفاضة. وأظن ان الزعماء العرب سيلتقون في قمتهم الجديدة في عمان في الشهر القادم والانتفاضة الفلسطينية متواصلة بصيغة او اخرى. واذا كان بعض الفلسطينيين لا يعول سلفا على ما سيصدر عنهم من مواقف وقرارات فالآخرون يتمنون ان يسرّع الزعماء العرب استكمال ما بدأو به وتنفيذ قراراتهم قمتهم الاخيرة التي انعقدت في القاهرة، وان يحضروا انفسهم لاتخاذ مواقف سياسية وعملية في مستوى التطورات والاحداث الكبرى المتوقعة بعد الخراب الكبير الذي الحقه باراك بعملية السلام، ومواجهة الدمار الواسع الذي قد يلحقه شارون بالمنطقة وبخاصة بالارض الفلسطينية وما عليها من بشر وشجر وممتلكات.
وبصرف النظر عن اسباب ودوافع عدم ترجمة الزعماء العرب قرارات قمتهم السابقة، فقد ساهم اجتماعهم الاول في تأجيج نار الانتفاضة، واحتدمت المواجهات في شوارع الضفة والقطاع ومع تزايد سقوط الشهداء استخدم مسلحون فلسطينيون اسلحتهم دفاعا عن النفس وانتقموا للشهداء واوقعوا خسائر بشرية محدودة في الجيش الاسرائلي والمستوطنيين. وبدلا من التراجع خطوة للخلف اندفع باراك خطوتين متهورتين للامام. واصدر اوامره للجيش بتفيذ المرحلة الثالثة من خطة “حقل الاشواك”. ورفع وتيرة ضغطه السياسي والمادي والامني على القيادة الفلسطينية، واتهم علنا قادة وكوادر اجهزة الامن الفلسطينية بتشجيع حركتي الجهاد الاسلامي وحماس على تنفيذ عمليات عسكرية ضد اهداف اسرائيلية، واتهم بعضها بالضلوع مباشرة في تنفيذ عدد من العمليات. وحاول استدراجها الى معركة عسكرية مكشوفة غير متكافئة، وشرع قناصة الجيش بتركيز نيرانهم باتجاه افراد اجهزة الامن الفلسطينية المنتشرة على مداخل المدن والمخيمات والقرى الخاضعة للسيادة الفلسطينية الكاملة. واعتقد باراك ان ان رفع وتيرة ضرب مؤسسات السلطة ومرتكزاتها واعمدتها الامنية والمدنية بالمدفعية والطائرات من شأنه بث الذعر في صفوف القيادة السياسية وقادة اجهزة الامن الفلسطينية وكوادر الحركة الوطنية ويرغمهم على وقف الانتفاضة. وأصدر اوامره يوم 20/11/2000 للجيش بقصف مراكز اجهزة الامن الفلسطينية في غزة برا وبحرا وجوا وكانت النتيجة عكس ما توقعه وما تمناه. وزاد استخدام السلاح من قبل المسلحين الفلسطينيين، وتصلبت القيادة السياسية في مواقفها وتوحدت السلطة مع الجماهير ورفع الفلسطينيون سقف مطالبهم السياسية والامنية، وتدهورت العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية الرسمية ووصلت درجة القطيعة الكاملة وتوقف التنسيق الامني. وتحولت اروقة الامم المتحدة وعواصم الدول الاوروبية والآسيوية والافريقية الى ساحات مواجهة سياسية بين الطرفين. ورفع باراك وتيرة العقاب
وشدد اجراءاته الامنية والاقتصادية الاسرائيلية العنصرية وطالت كل ما يمكن ان يدمر حياة الناس. وعزل الجيش الاسرائيلي اكثر من ثلاثة ملايين انسان عن العالم. والغى العمل ببطاقات ال V I P الممنوحة لكبار موظفي السلطة بمن فيهم الوزراء واعضاء القيادة الفلسطينية وقطع الصلة كليا بين الضفة والقطاع. واغلق الجيش والمستوطنون بالسواتر الترابية والكتل الاسمنتية وقوة النيران جميع المنافذ الرئيسية والفرعية المعبدة والترابية التي يسلكها الناس لقضاء جاجاتهم الضرورية. ورفع المستوطنون وتيرة مشاركتهم في عمليات الاعتقال واطلاق النار ومنع الفلسطينيين من الحركة. واصبح العمال وصغار المزارعين يعانون فقرا حقيقيا ويحصلون على قوت يومهم دينا من التجار وما يقدمه الميسورون والجمعيات الخيرية في اطار التضامن والصدقات. وحرم طلاب المرحلتين الثانوية والجامعية من ابناء القرى من الوصول الى مدارسهم الثانوية وجامعاتهم. وبات وصول المرضى والاطباء والممرضين وسائر الموظفين من اماكن سكناهم البعيدة الى المستشفيات ومواقعهم عملهم مغامرة حقيقية كبيرة. واحدث باراك تغيير نوعيا في اوامر اطلاق النار وسهل على الاذرع الامنية مهمة قتل الفلسطينيين دون سابق انذار ودون تمييز بين مدني ومسلح او طفل وشيخ وامراة. كل ذلك تم ويتم تحت سمع وبصر الامم المتحدة وراعي عملية السلام والدول الديمقراطية. وبعد ان ودع العالم صنوف الاستعمار المباشر التي ظهرت في القرن الماضي وأصبحت الديمقراطية وحقوق الانسان والحفاظ على البيئة ومحاربة الفقر والامراض الفتاكة هي القضايا الرئيسية التي تشغل ذهن الشعوب المتحضرة.
ومع تزايد حدة المواجهات وارتفاع عدد القتلى الاسرائيليين رفعت قوى اليمين وتيرة ضغطها على باراك للاستقالة، وحملته مسئولية انفجار الانتفاضة وزج اسرائيل في حرب جديدة ضد الفلسطينيين بدلا من جلب السلام معهم. وطالبوه باطلاق يد الجيش واعطائه حرية التصرف ورفعوا شعار “دعوا الجيش ينتصر”. وقدمت اقتراحات متعددة وفي يوم 28/11/2000 صوت اغلبية اعضاء الكنيست في القراءة الاولى لصالح اقتراح قدمه اليمين يدعو حل نفسه والتوجه لانتخابات برلمانية مبكرة. وبعد تيقن باراك من الذهاب الى الانتخابات حاول بطريقة مواربة استرداد بعض ثقة العرب في اسرائيل التي فقدها ووافق على تشكيل لجنة تحقيق رسمية بتلك “الحوادث” كما سماها اي مقتل 13 من العرب في اسرائيل. ولكن سبق السيف العذل وجاء قراره متأخرا وبعد فوات الأوان. وبينت استطلاعات الرأي شبه اجماع في صفوفهم على معاقبة باراك بالامتناع عن المشاركة في الانتخابات وهناك من يدعو للتصويت بورقة بيضاء، واعتذار اللحظة الاخيرة الذي قدمه لذوي الشهداء لم يغير الموقف.
جنرال يرحل وآخر يتقدم والانتفاضة مستمرة
الى ذلك، بينت مجريات الصراع منذ تولي باراك سدة الحكم في اسرائيل في ايار1999 وحتى اعلان سقوطه المريع المتوقع يوم 6 أو 7 شباط الجاري ان المجتمع الاسرائيلي غير ناضج لصنع السلام العادل والدائم والشامل. ولا يستطيع باراك انكار ان مواقفه وممارساته خلال فترة حكمه زرعت بذور نهايته السياسية، وهيأت المسرح السياسي الاسرائيلي الى مشاهدة مسرحية “سقوط الجنرال بشكل مدوي” وساهمت بجدارة في تعزيز مواقع اليمين المتطرف المعادي لمبدأ السلام مع العرب. وفي سياق انصاف الجنرال باراك يجب الاعتراف بانه كسر المحرم الاسرائلي بشان القدس، وانقذ الجيش الاسرائيلي من المستنقع اللبناني ولم يكلف اسرائيل دفع تعويضات للبنانيين عن خسائرهم الكبيرة التي الحقها الاحتلال بهم. الا ان هذين الانجازين اليتيمين لا يغفران ذونبه وجرائمه الكبيرة التي ارتكبها بحق شعوب المنطقة، خاصة وان الانجازين كانا اقرب الى “حرث الجمال” ولم تظهر آثارهما الايجابية على الارض ولم يجنى احد ثمارهما وتبخرا بسرعة تحت وطئة تردده في استكمال هجوم السلام. يسجل له ايضا تفوقه بامتياز على نتنياهو زعيم ليكود في تخريب علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية التي بنتها خلال فترة السلام ونجح بتفوق في اعادة منطقة الشرق الاوسط الى ما كانت عليه قبل عشر سنوات حيث كان اطراف الصراع يتباهون بطريقة استعراضية بقدراتهم العسكرية وعملياتها الحربية الواسعة، وعدد القتلى الذين وقعوا في الطرف الاخر.
واذا كانت الايام القادمة كفيلة بكشف حصاد باراك من اخطاءه الكثيرة فالمؤكد ان “انتفاضة القدس والاستقلال” التي اشعل شرارتها مثلت حدا فاصلا بين نهاية مرحلة من العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية كانت واضحة المعالم وبداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد. بدأت بتهييج المشاعر الدينية في عموم ارجاء المنطقة وقتلت القوات الاسرائيلية حتى الآن بقرار سياسي مبيت، قرابة 400 فلسطيني وجرحت ما يزيد على 15ألف أخرين، وعمقت الشرخ بين الشعبين. ومع سفكها هذه الدماء الفلسطينية فتح جرح الفلسطينيين العميق المزمن في الجليل والمثلث والنقب. وانهارت الافكار والمشاريع الاسرائيلية والامريكية المتعلقة بحل مشكلة اللاجئين والقدس ودخلت عملية السلام على المسار الفلسطيني في منحى جديد. واذا كان غير واضحا حتى الآن طبيعة العلاج التي يفكر بها الاستراتيجيون الاسرائيليون للجرح الفلسطيني في العام 1948 فالمؤكد ان هبة الفلسطينيون هناك هزت اسس وجود اسرائيل كدولة ديمقراطية، وفتحت جبهة جديدة في الصراع العربي الاسرائيلي لا يستطيع اركان النظام السياسي العربي بشقيه الرسمي والشعبي من الآن فصاعدا تجاهلها. واذا كانت القمة العربية السابقة واللاحقة غير مهيأة لاتخاذ القرارات القادرة على اسناد نضال الفلسطينيين في اسرائيل من اجل حقوقهم الوطنية والديمقراطية فليس بامكانهم اسقاط قيمة فعلهم وتفاعلات هبتهم لاحقا على مجمل اوضاع المنطقة، خاصة وان الحلول الاسرائيلية للوجود الفلسطيني الاسرائيلي الكثيف في اسرائيل لن تكون ديمقراطية. الى ذلك، لا خلاف بين انصار السلام على الصعيدين الاقليمي والدولي حول ان فوز شارون زعيم اليمين يوم 6 شياط الجاري بكرسي رئاسة الوزراء، سيكون بمثابة انقلاب له ما بعده على مجمل اوضاع المنطقة وعلى علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية. فاطاحة الجنرال شارون بالجنرال باراك ينعش الافكار اليمينية المتطرفة اكثر وينشط حركة اصحابها ضد الفلسطينيين وضد السلام معهم، ويؤجج النزاع العربي ويجمد عملية السلام فترة عام او عامين على الاقل.
وفي كل الاحوال لا يمكن لاي قاض نزيه وعادل تبرئة الولايات المتحدة الامريكية في عهد كلينتون من مسئوليتها المباشرة عن الحالة المزرية التي وصلتها عملية السلام، والتسبب في تدهور اوضاع المنطقة الى مستوى خطير جدا. لقد ضيعت ادارة الرئيس كلينتون فرصة تحقيق تقدم نوعي على طريق السلام العربي الاسرائيلي اكثر من مرة، وهدرت من عمر عملية صنع السلام على المسار الفلسطيني سنوات ثمينة وارتكبت بحقها جرائم كبيرة وصغيرة كثيرة. وبصرف النظر عن النوايا فالمساندة الامريكية المتواصلة للمواقف الاسرائيلية المتعارضة مع قرارات الشرعية الدولية ومع ابسط قواعد حقوق الانسان ساهمت في دفع باراك نحو نهاية سياسة لن يحسده احد عليها وفي انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية خلال عقد واحد. ووضعت المنطقة على حافة بانفجار واسع اذا لم يتحرك جميع المعنيين عن السلام في المنطقة واستقرار اقليم الشرق الاوسط بسرعة للجم اندفاع اليمين المتطرف نحو قتل عملية السلام ودفنها في القدس.