هل ينجح شارون في وقف الانتفاضة قبل استئناف المفاوضات ؟
بقلم ممدوح نوفل في 09/02/2001
قبل انتخابات عام 1992 كان اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل الاسبق يقول؛ ان الانتفاضة “1987ـ1993″ أقنعته باستحالة استمرار احتلال الاراضي العربية، وبعد فوزه في تلك الانتخابات مضى قدما في عملية السلام ووقع اتفاق اوسلو عام 1993. وجاء فوز شارون رمز الحرب نبي المستوطنيين وبين ان باراك واغلبية الاسرائيليين لم يستوعبوا هذا الدرس االتاريخي الثمين الذي استخلصه رابين من خبرته الطويلة. باراك ادركه في وقت متأخر جدا وتردد في وضعه موضع التطبيق وفشل في الوصول الى اي اتفاق ذو قيمة مع الفلسطينيين، والاغلبية لا تزال تؤمن بأن استعمار الفلسطينيين ومواصلة الصراع مع العرب خير من سلام يبدأ بقفزة مخيفة في المجهول، ويعتقدون ان سلبيات الامرين محدودة..
ولا مبالغة في وصف الهزيمة الساحقه التي ألحقها شارون بمنافسه باراك يوم 6 شباط 2001 في انتخابات رئاسة الوزراء، بانقلاب مضاد للانقلاب الشامل الذي وقع في اسرائيل والمنطقة على ابواب مؤتمرالسلام الذي انعقد في مدريد عام1991. وهذا الانقلاب عكس تمرد أغلبية المجتمع الاسرائيلي على الوفاق الدولي وعلى القوى الاقليمية والدولية الراغبة في تسوية الصراع العربي الاسرائيلي وصنع الامن والاستقرار في هذه المنطقة المضطربة من العالم، واعاد من جديد القوى العنصرية المتطرفة بقيادة حزب ليكود الى سدة الحكم في اسرائيل.
صحيح ان باراك استعدى فئآت واسعة من المجتمع الاسرائيلي ضمنهم قطاع واسع من حزبه وارتكب اخطاء فاحشة أخرى كثيرة خلال فترة حكمه القصيرة مهدت طريق الانقلاب، الا ان القراءة الموضوعية لجحم القوى المشاركة في الانقلاب والمساندة له تشير الى ان المشكلة التي يواجهها انصار صنع السلام في المنطقة اعمق من اخطاء حزبية تكتيكية ارتكبها باراك بحق انصاره الذين آزروه في معركته ضد نتنياهو عام1993، وتخلو عنه في مواجهة شارون، واكبر من فواحش ارتكبها جنرال مغرور بحق السلام. وخير للعرب وبخاصة الفلسطينيين فهم مدلولات هذا الانقلاب ورؤية ابعادة الجوهرية، وعدم التلكؤ في مواجهته والتعامل مع الحقائق المرة كما أظهرتها صناديق الاقتراع، حتى لو كان عمره قصير:
أول هذه الحقائق؛ هي ان المجتمع الاسرائيلي يمر بمرحلة من عدم الاستقرار النفسي والسياسي والحزبي وغير ناضج الان، للوصول الى سلام حقيقي شامل وشبه عادل مع جيرانه الفلسطينيين، وبناء علاقة طبيعية متوازنة مع العرب. ولم تفلح الجهود الدولية والعربية في اخراجه من صومعته العنصرية المتقوقع فيها، ومال بعد عشر سنوات”1991ـ2001″ من النشاط السلمي الواسع ـ لقاءات ومفاوضات واتفاقات ـ نحو التطرف واختار العودة باوضاع المنطقة الىالوراء. ولم يقتنع اغلبية الاسرائيليين أن في السلام منافع استراتيجية كبيرة وكثيره لهم وللعرب وكل القوى المعنية باستقرار اوضاع المنطقة، تفوق المنافع الآنية والمحدودة التي تجنيها اسرائيل من استعمار شعب آخر واحتلال ارضه. وظلوا اسرى لمفاهيم توراتية غيبية، ولم يتحرروا من عقدة الخوف من العرب والكراهية لهم التي زرعتها الصهيونية في عقولهم جيلا بعد جيل. ويتمسكون بمفهوم ضيق للامن له اولوية عندهم على السلام الذي يجلب الامن الشامل، وانتخبوا شارون باعتباره القادر على صنع المعجزات وجلب الامن والسلام مفصلين على مقاسهم وحدهم.
واذا كانت استطلاعات الراي العام تبين ان اغلبية الاسرائيليين تحبذ السلام على الحرب ولا تعارض قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل، فالتدقيق في مفهوم السلام الذي تحبذه يثبت هذا الاستخلاص ولا ينقضه. فسلامهم كما بينت المفاوضات يعني قيام دولة فلسطينية منقوصة الارض والسيادة ومقطعة الاوصال بالاستيطان، وبقاء القدس مدينة موحدة وعاصمة اسرائيل وحدها، وضم مساحات واسعة من اراضي الضفة الغربية تحتوي على80% من المستوطنات والمستوطنيين وفيها جميع خزانات المياه الجوفية، وحرمان اللاجئين والنازحين من حقوقهم التي اقرتها الامم المتحدة ومبادئ حقوق الانسان..الخ
والحقيقة الثانية، هي انه لا افق لتحقيق تقدم جدي في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية في عهد شارون حتى لو شكل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل. فحكومة الوحدة الوطنية تقود الى احد امرين؛ شلل سياسي ودخول عملية السلام في غيبوبة، او الذهاب للحرب. ودوما كان عمر هكذا حكومة في اسرائيل قصير. واذا كان مفهوم شارون لموقع هضبة الجولان في أمن اسرائيل وطمعه في مياهها يعقد استئناف المفاوضات على المسار السوري فالامر ذاته اعقد على المسار الفلسطيني. خاصة وان شارون أكد في تصريحاته العلنية ومكالمته الهاتفية مع اركان السلطة الفلسطينية موقفه الداعي الى وقف “العنف والارهاب” اولا، اي وقف الانتفاضة قبل المفاوضات. وادان علنا موافقة سلفه باراك متابعة المفاوضات مع الفلسطينيين وفق القاعدة التي فرضتها الانتفاضة؛ مفاوضات واشتباكات على الارض في آن واحد. ويتمسك الشعب الفلسطيني وقيادته بالانتفاضة كسلاح للتحرير واسناد المفاوضات. وتصر قيادة م ت ف على استئنافها من حيث توقفت في آخر جولة مفاوضات تمت في عهد باراك. وبات واضحا ان استئنافها خلال وقت قصير يتطلب تحقق احد امرين ؛ تراجع شارون عن موقفه العنجهي او وقف الانتفاضة.
واذا كان تحديد النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية الاسرائيلية استغرقت وقتا طويلا، بالرغم من وجود “وديعة رابين”، ولم يتم التعرف على ملامحها الا بعد تدخل مباشر من الرئيس الامريكي السابق كلينتون، فتحديد هذه النقطة على المسار الفلسطيني اعقد بكثير، وزادت صعوبته بعد اعلان وزير الخارجية الامريكية الجديد “كولن باول” غير الموفق، عدم اعتماد ادارة بوش التصور الذي طرحه كلينتون، في آخر عهده، لحل النزاع الفلسسطيني الاسرائيلي. وأظن، وبعض الظن ليس اثم، ان اكثر المفاوضين دقة لا يعرف بالضبط اين توقفت مفاوضات كامب ديفيد التي جمعت كلينتون وعرفات وباراك، واين وصلت محادثات شرم الشيخ التي انتهت اواخر الشهر الماضي، خاصة وان لا احد يملك وثيقة رسمية متفق عليها. ناهيك عن ان شارون الذي انتخب باغلبية ساحقة مهينة لانصار السلام، رفض سلفا الالتزام باطروحات باراك والوزير السابق بن عامي، الشفوية والخطية، في تلك اللقاءات، والتي لم يصادق عليها الكنيست ولم تعرض عليه اصلا. ولا داعي للتذكير بموقف شارون المعروف من اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات فلسطينية اسرائيلية اخرى.
ومن سمع وقرأ “خطاب النصر” الذي القاه شارون بعد فوزه في الانتخابات يستطيع استخلاص الحقيقة الثالثة المرة، ورؤية طبيعة الخطر الشديد المحيط بمدينة القدس. ويقدّر نوع وحجم الضغط الدولي والاقليمي التي سيتعرض له شعب فلسطين وقيادة في الايام والاسابيع القليلة القادمة لوقف الانتفاضة، باعتبارها “اعمال شغب وعنف” تمس امن اسرائيل وتعيق استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وتعرض استقرار المنطقة للخطر..الخ
لقد اكد شارون قبل وبعد فوزه بالانتخابات على موقفه المعروف بشأن وقف الانتفاضة ويدرك جيدا ان تفاعلاتها داخل المجتمع الاسرائيلي لعبت دورا محوريا في سقوط باراك سقوطا مدويا ومهينا، ويعرف تأثيراتها السلبية الواسعة على الاقتصاد والدم والامن الاسرائيلي، ويرى في قمعها اول اختبار عملي لا مفر من خوضه والنجاح فيه لضمان استمراره في رئاسة الوزراء فترة طويلة. وبديهي القول ان شارون حريص على تحقيق هذا الهدف وضمان مستقبله السياسي. ولن يتردد في اعطاء اوامر واضحة وصريحة للجيش واجهزة الامن الاسرائيلية لوقف الانتفاضة بكل السبل، واستخدام ما لم تستخدم من اسلحة ووسائل قتالية تردد باراك باعطاء أمرا باستخدامها. ولن يتأخر شارون في الشغل بيديه ورجليه على تهويد مدينة القدس الشرقية وتغيير معالمها العربية، ومسح المربعات والخطوط الزرقاء والصفراء والحمراء التي رسمها المفاوضون على خارطتها. واطلاق العنان للمتطرفين وطليعتهم المستوطنين لترجمة قوله ؛ “شلت يميني اذا وافقت على تقسيم القدس ومست مكانتها كمدينة موحدة وعاصمة اسرائيل الابدية وحدها”. وهم جاهزون لتنفيذ هذه المهمة وتدمير مقومات اي حل لمشكلة القدس على قاعدة تقسيمها الى عاصمتين لدولتين.
اعتقد ان مجابهة نتائج صعود التطرف والعنصرية في اسرائيل والمحافظة على ما تحقق في عملية السلام اصبحت مهام ملحة مطروحة على العرب اولا، وادارة بوش والمتضررين من بقاء الشرق الاوسط منطقة قلاقل واضطرابات ثانيا. والمطلوب من الجميع وقف كل اشكال المساندة السياسة والمعنوية والمادية التي يتلقاها المتطرفون في اسرائيل من هذا البلد او ذاك بصورة رسمية او غير رسمية. ومصلحة صنع السلام والاستقرار في المنطقة تفرض على انصار السلام فلسطينيين واسرائيليين وعرب توحيد طاقاتهم واحياء تحركهم ونشاطهم المشترك بهدف المحافظة على بذرة السلام التي زرعوها ومنع المتطرفين من الطرفين من قلعها. وتفرض على الادارة الامريكية بشكل خاص التحرك بسرعة والامساك بزمام المبادرة من جديد. فبقاء زمام المبادرة بيد العنصرين المتطرفين الاسرائيلين ينذر بعواقب وخيمة على عملية السلام، ويهدد جميع الاتفاقات العربية الاسرائيلية القديمة والجديدة. ويحول صراع اهل المنطقة المزمن الى صراع ديني، وقد يشعل حروب مقدسة يعاد فيها حشد القوى واصطفافها على اسس جديدة. فهل وجود شارون في رئاسة الحكومة الاسرائيلية يكفي لصحوة عربية ؟ وهل تتحرك ادارة بوش والامم المتحدة قبل فوات الأوان، ام ان قدر الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة دفع دماء كثيرة ثمن صعود التطرف في اسرائيل وتقاعس الدول الكبرى والامم المتحدة في الدفاع عن الشرعية الدولية وحقوق الانسان الفلسطيني ؟؟