الصدام الكبير مع شارون قادم حتما والسؤال متى يقع
بقلم ممدوح نوفل في 14/03/2001
منتصف حزيران 1982 أكملت القوات الإسرائيلية تطويق مدينة بيروت، وكشف شارون وزير الدفاع الإسرائيلي في تلك الفترة، عن أهداف أخرى للحرب لم يعلن عنها عند بدئها. وقال: “الهجوم لن يتوقف إلا بعد تصفية م ت ف وتصفية قيادتها واجتثاث وجودها من كل لبنان”. وحاول انتزاع قرار من حكومته باقتحام غرب بيروت لكنه فشل. وتحت سقف قرار الحكومة شدد الحصار وضيق الخناق على القيادة الفلسطينية وقطع الماء والكهرباء وخطوط الهاتف عن المدينة وأمر قواته بتكثيف الغارات الجوية والقصف المدفعي. في حينه، سخر ابوعمار من تصريحات شارون وتشدد الفلسطينيون ورفضوا الخضوع لشروط شارون وصمدوا مع الوطنيين اللبنانيين فترة 3 شهور. وخرج شارون من وزارة الدفاع مهزوما واتهمته المعارضة بالكذب وتضليل الحكومة والشعب حول الحرب. ولاحقا اخرج شمعون بيريز الجيش الإسرائيلي من شوارع بيروت وصيدا وأحراش الجبل وهو ينزف دما. وفي ميناء بيروت سأل أحد الصحفيين ابوعمار إلى أين أنت ذاهب ؟ فأجاب فورا إلى فلسطين.
بعد 12سنة من تلك الواقعة اقتنع الإسرائيليون بفشل الحل العسكري للصراع مع الفلسطينيين، وعاد ابوعمار إلى فلسطين وعاد معه آلاف الكوادر والمقاتلين. وأنشأ أول سلطة فلسطينية على الأرض لها جيش قوامه اكثر من30 ألف رجل مسلح، وظل الجيش الإسرائيلي يعاني آثار الورطة التي زجه فيها شارون، وللآن يعيش حالة استنفار دائمة في مواجهة حزب الله. وبعد سبع سنوات من عودة قيادة م ت ف الى الوطن شاء القدر ان يصبح شارون رئيسا لوزراء إسرائيل وان يكون شمعون بيريز وزير خارجيته. وبعد أسبوع من تشكيل حكومته أعلن شارون انه لن يلتقي عرفات قبل ان يوجه دعوة علنية لوقف العنف.. ولن يستأنف المفاوضات على المسار الفلسطيني قبل وقف الانتفاضة.. وانه سيتعامل مع الشعب الفلسطيني حسب سلوكه.. في كل قرية ومدينة. من ينضبط لإرادته يحصل على العمل والخبز وتعليم الأولاد.. ومن يتمرد يحرم من المقومات الضرورية للحياة!. وصنف ال 30 ألف مسلح أفراد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في قائمة القوى الإرهابية المعادية لإسرائيل، ولم يسأل نفسه عن أسباب ذلك، ورفض تسديد المستحقات المالية للسلطة، واتهم السلطة وحزبها السياسي “التنظيم” بتنظيم الإرهاب وتوجيهه ضد إسرائيل والمشاركة في تنفيذه.
الى ذلك، جاء رد القيادة الفلسطينية سريعا ونفت التهمة، ورفضت استئناف المفاوضات حسب شروط شارون وسخر ابوعمار من عرضه “السخي” بتوفير الخبز والدواء للفلسطينيين مقابل توفير الأمن للاسرائيليين.. وذكّر من حوله بان باراك عرض قرابة 97% من الارض مقابل الامن والسلام. واعلن امام المجلس التشريعي في غزة يوم 10/3/2001، تمسك الشعب الفلسطيني بخيار السلام وجدد التزام م ت ف بالاتفاقات الموقعة مع اسرائيل. ودعا حكومة شارون رفع الحصار الى استئناف المفاوضات من حيث توقفت في عهد حكومة باراك. ولم يتحمل شارون رد القيادة الفلسطينية واعتبره استمرار في التحدي. وأمر قادة الاذرع الامنية الاسرائيلية المضي قدما في تنفيذ خطتها من حيث توقفت في عهد الجنرال المهزوم باراك.
وايد وزير الدفاع الجنرال بن اليعازر قرار رئيسه واتهم بعض قادة اجهزة الامن الفلسطينية المقربين من عرفات بالوقوف خلف العمليات العسكرية التي نفذت ضد اسرائيل في آخر خمسة شهور. ورفعت القيادة العسكرية الاسرائيلية وتيرة الحصار والاغلاق درجة جديدة. واقفلت المعابر الدولية وقطعت صلة اكثر من ثلاثة ملايين انسان بالعالم، ومنعت الحركة بين الضفة والقطاع وشمل الاجراء الوزراء وكبار موظفي السلطة وقادة اجهزة الامن.
وحشد الجيش مزيدا من قوات المشاة والمدفعية والدبابات حول المناطق الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية. وقطع اوصال الضفة وقطاع غزة وقسمهما الى معازل وكنتونات امنية، واقام الجيش والمستوطنون اكثر من90 حاجز ونقطة تفتيش، وأغلقوا بالسواتر الترابية والكتل الاسمنتية ونيران الاسلحة جميع الطرق الرئيسة والفرعية المعبدة والترابية الواصلة بين المدن والقرى داخل الكنتون الواحد. وفرض عقوبات جماعية وصفها الدبلوماسيين انها اقسى من اجراءات الابرتهايد التي فرضها النظام العنصري في جنوب افريقيا في آخر زمانه، ولم ينجح في ثني شعب جنوب افريقيا عن متابعة نضاله العادل وتحقيق الانتصار.
فهل ينجح شارون حيث فشل باراك ونتنياهو في كسر ارادة الفلسطينيين ويثأر لهزيمته في لبنان عام 1982، ام انه سيخسر الحرب الجديدة في فلسطين كما خسرها في لبنان ؟
لا حاجة الى “زرقاء يمامة” تنبأ الناس بان سماء فلسطين والمنطقة ملبدة بسحب كثيفة تنذر بهبوب عاصفة دموية قوية، يصعب الآن تقدير تفاعلاتها على الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي الرسمي وعلى دول الجوار. فوجود “شارون” في قمة الهرم السياسي السياسي الاسرائيلي يكفي ضعيف البصر رؤية هذه الغيوم، خاصة وان الصمت الدولي على اعمال اسرائيل العنصرية وارتباك النظام الرسمي العربي في مواجهة شارون هيأ للعاصفة جميع العوامل الضرورية لملامسة الارض. ويجمع الفلسطينيون، سلطة وشعبا، على ان الصدام الكبير قادم لا محالة والنقاش بينهم يدور حول وقته واشكاله فقط. فشرط شارون وقف الانتفاضة قبل اللقاء بياسر عرفات وقبل استئناف المفاوضات يعني تجميد المفاوضات الى اشعار آخر، ويوتر العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية أكثر فاكثر ويسرّع وقوع الانفجار. وتمييز شارون في العقاب بين مدينة منضبطة واخرى مشاغبة ومتمردة.. يأجج الانتفاضة والمقاومة ويوسع انتشارهما، لاسيما وان روح التضامن بين الناس في المدن والقرى والمخيمات وتساندهم في النضال ضد الاحتلال لا تزال عالية. ويبدو ان شارون واركانه الامنيين والسياسيين اغفلوا ان كثرة الضغط يولد الانفجار، وان هذه الانتفاضة، بسلبياتها وايجابياتها، مسيّرة من القوى الوطنية والاسلامية، سلطة ومعارضة، بعكس حالة الانتفاضة السابقة في مراحلها الاولى، وبامكان هذه القوى تاجيج المقاومة والحركة الشعبية بصيغ متعددة حيث يعتقد شارون انها خمدت وانضبت لمشيئته ورضيت بالخبز مقابل الامن..
الى ذلك، يجمع المراقبون على ان تعطل عملية السلام على مساراتها الثلاث، وما راكمه صراع خمس شهور على ارض الضفة والقطاع، وضعت المنطقة على ابواب مرحلة جديدة وفتحت ابوابها على احتمالات عديدة، جميعها ليست في صالح استمرار عملية السلام العربية الاسرائيلية، وتهز استقرار الاتفاقات التي انبثقت عنها. واقوى هذه الاحتمالات اندفاع اغلبية
مجلس وزراء اسرائيل من ليكود واحزاب اليمين لنهش بقايا جثة عملية السلام المحنطة على مسارها الفلسطيني لاجل تسمين المستوطنين ومستوطناتهم. وسيجد الجنرال شارون المبرر لتحطيم هيكلها العظمي “اتفاق اوسلو”، بعد لقائه بالرئيس بوش في واشنطون يوم 20 آذار الجاري وانفضاض اعمال القمة العربية آخره، وانتهاء زيارات الرئيس مبارك والملك عبد الله الى واشنطون في شهر نيسان القادم. وزيارة رئيس م ت ف المحتملة، حيث يتعبره هو والاتفاقات التي انبثقت عنه خطرا حقيقيا على العقيدة الصهيونية. وعندها يصبح بيريز وزير الخارجية وبقية وزراء حزب العمل في حكومة شارون امام احد خيارين: الاستقالة من الحكومة والعمل على اسقاطها، او تدمير حزب العمل وجر اجزاء منه الى مستودع اليمين.
واذا كانت الجهود الدولية وجهود بيريز ووزراء حزب العمل أفلحت مؤخرا في التأثير على سلوك شارون وصقور المؤسسة العسكرية، ونجحوا جزئيا بتخفيف الحصار المضروب على الأراضي الفلسطينية، فهذا النجاح مؤقت ولن يدوم طويلا، لأنه لم يبنى على أسس سياسية واضحة ومتينة. وتم في سياق ظرف محدد يدفع شارون الى كسب بعض الوقت، وتبديد صورته القديمة البشعة ومحاولة تقمص شخصية رجل سياسة يدعو إلى السلام ويتفاعل مع جهود الوسطاء الدوليين ويستجيب لنصائح بعض وزراءه العقلاء أمثال بيريز.. وأظن ان توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن قضايا الشرق الأوسط وأزماته، وظهور النظام الرسمي مرتبكا في مواجهة سياسة الحكومة الإسرائيلية الجديدة المدمرة للسلام، تشجع شارون على المضي قدما في تصفية حسابه القديم والجديد مع الانتفاضة ومع قيادة م ت ف والسلطة وأجهزتها الأمنية، وعلى فتح ملفاتهم الفردية والجماعية في وقت قريب. وبينت جولة وزير الخارجية الأمريكية كولن باول الى المنطقة ان عملية السلام تحتل درجة ثانية في سلم أولويات إدارة بوش بالقياس لاهتماماتها الداخلية، والخارجية المتعلقة باستمرار حصار الشعب العراقي وإعادة بناء جبهة أممية معادية لنظام صدام.. وليست معنية بالضغط على شارون وإرغامه على طي مشروعه المدمر للسلام العربي الإسرائيلي. وموقفها الأخير المؤيد لإسرائيل بشأن بقاء القدس عاصمتها الأبدية الموحدة تسبب بتوسيع دائرة اليأس والإحباط في صفوف الفلسطينيين، وجمع في سماء المنطقة مزيدا من غيوم التشاؤم.
اما مساندة ادارة بوش سياسة شارون المبنية على حلول مرحلية طويلة الأمد..! وتركيزها على وقف “العنف” قبل استئناف المفاوضات، فقد زادت قناعة ناس الانتفاضة والسلطة والقوى الوطنية والاسلامية بان لا خيار امامهم في هذه المرحلة سوى الصبر والصمود في وجه الضغوط الامريكية والاوروبية السياسية والمعنوية والاقتصادية. والاستعداد لمواجهة ابتزاز شارون، ورفض مبدأ الخبز مقابل الأمن وازدهار وضع المستوطنات. ومع احترامي الشديد لدور العمل العسكري الفلسطيني في الإطاحة بالجنرال شارون في العام 1982، أرى ان هزيمته في العام 2001 ممكنة بالوسائل السياسية فقط، وبمدى نجاح الانتفاضة بفضح نوايا شارون تهديم صرح التوجه الدولي الذي استغرق بناءه 10سنين. وميدان هذه المعركة؛ الشارع الاسرائيلي اولا، وعواصم العالم والامم المتحدة. وفي كل الاحوال لا غنى عن مساندة الاشقاء والاصقاء، وانهاء مظاهر عسكرة الانتفاضة وتوسيع المشاركة الشعبية فيها.