تفاعلات الانتفاضة في المجتمع الاسرائيلي واسعة
بقلم ممدوح نوفل في 10/05/2001
تبين تصريحات الرسميين الاسرائيلين وما تتناقله الصحافة ووكالات الانباء من اسرائيل ان الانتفاضة فرضت نفسها على المجتمع الاسرائيلي وتركت آثارا مباشرة في كل مناحي حياته اليومية. وينقل كوادر وقادة القوى والاحزاب العربية داخل الخط الاخضر ومن “يتسلل” من قوى حركة السلام الى مدن الضفة وقطاع غزة ان الانتفاضة دخلت الى كل بيت اسرائيلي. ويتابع الاسرائيليون عبر شاشة التلفزيون يوميا مشاهد الدمار والقتل في الجانبين ويدور بينهم، كما الفلسطينيين، حوار حيوي حول الانتفاضة وما يرافقها من اعمال عنف وقتل. ولا خلاف بين انصار السلام في اسرائيل وانصاره في الحقلين الاقليمي والدولي على ان فوز شارون زعيم اليمين يوم 7 شباط الماضي برئاسة الوزراء كان بمثابة انقلاب سلمي، يشبهه البعض بالانقلاب الذي وقع في اسرائيل في العام 1977 عندما فاز اليمين بالسلطة لاول مرة في تاريخ اسرائيل. ويجمعون على ان نجاح هذا الانقلاب عمق مأزق عملية السلام وترك آثارا سلبية على علاقات اسرائيل بالدول العربية وعقد تطوير علاقاتها الدولية والاقليمية. وتبخرت اوليات الثقة التي بنيت في السنوات الاخيرة بين النظامين السياسيين الفلسطيني والاسرائيلي، وحل محلها شكوك بالنوايا، واستبدل الطرفان لغة السلام بلغة العنف وقوة السلاح. وظهر في اسرائيل من ادان رهان القيادة الاسرائيلية في مرحلة السابقة على امكانية صنع السلام مع العرب وتسوية النزاع مع الفلسطينيين بالطرق السلمية.
وزرعت الانتفاضة حالة من القلق والاضراب في صفوف نسبة واسعة من الاسرائيليين. وبجانب الخسائر البشرية ومقتل قرابة80 اسرائيلي وجرح بضع مئآت آخرين بعضهم اصيب بعاهات دائمة، ألحقت خسائر لا يستهان بها بالاقتصاد الاسرائيلي وتضررت مصالح فئآت واسعة من المجتمع. وتحطم فرع السياحة في وقت توقع ناسه ازدهارا قويا في نهاية الالفية السابقة وبداية الالفية الجديدة والغى مستثمرون اجانب مخططات استثمارية كبيرة في هذا الفرع. واصيبت فروع البناء والصناعة والتجارة والزراعة باضرار كبيرة نجمت عن نقص في العمالة الفلسطينية الرخيصة وتدني التصدير الى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية. واذا كان ضجر اصحاب رؤوس الاموال وارباب العمل في اسرائيل من الخسارة لا يزال خافتا فاستمرار الاوضاع على ما هي عليه فترة اطول يدفع بهم الى التعبير عن ضجرهم. ولن يتأخروا في اتهام رئيس الحكومة شارون ووزير دفاعه بن اليعاز “فؤاد” بالفشل في تحقيق الامن والسلام وهي ذات التهم التي وجههوها لباراك ولم يصوتوا له بسببها.
واكدت الانتفاضة للعالم ان لا سلام مع الاستيطان وزعزت ثقة المستوطنين باستراتيجيتهم، وهبوا للدفاع عن مصالحهم وقتل وجرح عددا منهم وتحولت حياة بعضهم الى جحيم واضطروا الى البحث عن سكن مؤقت وعاد آخرون الى بيوتهم القديمة في المدن الاسرائيلية. وزاد عدد الشقق الخالية في معظم المستوطنات وتدنت اسعار البيوت فيها وبخاصة المستوطنات المعزولة والقريبة من المدن والقرى الفلسطينية وتلك التي صنفها اسحق رابين تحت بند مستوطنات سياسية. وبينت الانتفاضة لاغلبية الاسرائيليين ان مجاراة المستوطنين وانصارهم يلحق اضرارا فادحة بالامن والاقتصاد ويزج الاسرائيلين في صراعات دموية بداياتها معروفة ونهاياتها مجهولة.
الى ذلك، احتلت الانتفاضة من اليوم الاول لانطلاقها موقعا بارزا في الفكر العسكري الامني الاسرائيلي ومست الانتفاضة خلال 7 شهور من عمرها بعض مرتكزات الامن في اسرائيل. واذا كان بناء امن استراتيجي قوي للدول والحفاظ عليه يتحققان بمقدار ما تنجح الدولة في توسيع شبكة المصالح الامنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها واقامة علاقات سلام ثابتة مع جيرانها، فالامن الخارجي الاسرائيلي صارا بعيدا المنال في زمن الانتفاضة، وتراجعت امكانية اقامة علاقات سلام حقيقي مع الدول العربية جيران اسرائيل. وتدهور الامن الداخلي بمفهومة التكتيكي الى حد كبير، وتلقى ضربة معنوية بعد فشل اذرع الامن الاسرائيلية في وقف الانتفاضة والقضاء على المقاومة المرافقة لها. وتم تدمير احد الاهداف المبطنة التي كان حزب العمل “وليس حزب ليكود” يرمي لتحقيقها من اتفاق اوسلو. لقد اعتقد قادة حزب العمل في العام 1993ـ1994 ان حالة التمزق والضعف والانهاك الشديد التي كانت تعيشها قيادة م ت ف بعد حرب الخليج وقبل التوقيع على اتفاق اوسلو كافية لتحويل السلطة الفلسطينية الى اداة بيد الحكومة الاسرائيلية تسند اليها دورا شبيه بالدور الذي اسندته لقوات العميل لحد في جنوب لبنان. واعتقدوا ان بامكانهم توظيف اجهزة الامن الفلسطينية في خدمة امن دولة اسرائيل وأمن الاسرائيليين بما في ذلك المستوطنيين، الا ان وقائع الصراع في فترة الانتفاضة نسفت هذا الاعتقاد. وبيت ان القيادة الاسرائيلية أخطأت في اجهزة الفلسطينية وأساءت تقدير المشاعر الوطنية والانسانية الكامنة في نفس القيادة الفلسطينية ونفوس افراد وضباط هذه القوات. وظنت انهم اناس بدون مشاعر وبدون كرامة وطنية او انهم فقدوها. وهذه النظرة يعتمدها عادة المستعمرون وتعتمدها القوات الغازية في التعامل مع العملاء والمأجورين. ويبدو ان تجربة القيادة الاسرائيلية مع العميل لحد في جنوب لبنان وعملائها من الفلسطينيين انستها ان اركان السلطة الفلسطينية ومفاصل عمل اجهزتها الرئيسية لم تعينهم الحكومة الاسرائيلية. وان قوات الامن الفلسطينية تتألف من مناضلين لهم مشاعرهم الوطنية وناضلوا سنوات طويلة من اجل انتصار قضيتهم وتحقيق اهداف شعبهم العادلة، والمتظاهرون والمحتجون اخوانهم واخواتهم واهلهم.
ولم تميز اجهزة الامن الاسرائيلية بين نقد الناس العاديين لاداء السلطة الفلسطينية والمطالبة بتعزيز الديمقراطية والتصحيح ومحاربة الفساد..الخ وبين الاقرار بان رجال السلطة وطنيون فلسطينون ملتزمون قضايا شعبهم العادلة.
والواضح ان القيادة الاسرائيلية فوجئت بسرعة التحول في مواقف رجال الامن والشرطة الفلسطينية وانخراطهم السريع في الدفاع عن اهلهم وعن شرف السلاح الذي حملوه. وادركت ان عهد اعتماد اسرائيل على اجهزة الامن الفلسطينية في ضبط الامن في المناطق الفلسطينية وفقا للمفهوم الاسرائيلي قد انتهى. وان عهد تعامل جيش الدفاع الاسرائيلي معها باعتبارها قوات صديقة قد ولى بعد الاشتباكات التي وقعت بين الطرفين. وبات يعتبرها قوات اقرب الى المعادية وتحولت في كثير من الاحيان الى هدف لاطلاق النار.
وايا تكن طبيعة الموقف الذي سيبلوره شارون واركانه ازاء القيادة واجهزتها المدنية، وبشأن وجود قوات امن فلسطينية يبلغ تعدادها اكثر من 33 الف رجل، جميعهم مسلحين باسلحة خفيفة متفق عليها، فسيضطر هو قادة الاجهزة الامنية الاسرائيلية الاخرى لاعادة النظر في الترتيبات الامنية الاسرائيلية ـ الفلسطينية المشتركة التي عمل الطرفان بموجبها سابقا. ولم يعد بامكان الطرفين الحديث عن العودة الى تعاون وتنسيق امني بصيغته القديمة بعد ان اطلق رجال الامن من الطرفين النار على بعضهما البعض وسقط عدد كبيرة من القتلى والجرحى، فبسقوطهم سقطت اسس الترتيبات الامنية المشتركة المعروفة التي بنيت بينهما.
وكشفت هبة العرب في اسرائيل للرأي العام العالمي عيوب اساسية في تكوين دولة اسرائيل الديمقراطي وفي مجال حماية حقوق الانسان. ودفعت عملية القتل التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي بحق ابناء الجليل والمثلث والنقب بعض المؤسسات الدولية المستقلة والتابعة للامم المتحدة الى التدخل لفحص حال حقوق الانسان العربي في اسرائيل، الاضافة لحقوق الفلسطينيين في الضفة والقطاع غزة. وبينت “الهبة ” وما راففقها من اضطهاد وقتل وقمع ان اسرائيل دولة ديمقراطية لمجموعة اثنية واحدة فقط وليست دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها. وقانون المواطنة الذي ينظم علاقة المواطنين بعضهم ببعض وينظم علاقتهم بالسلطة يستخدم للسيطرة على العرب وليس لتمكينهم من تحقيق طموحاتهم والتعبير عن تطلعاتهم المشروعة. وبجانب انعدام المساواة في الحقوق المدنية يفرض على الفلسطينيين في اسرائيل الانفصال الكلي عن مآزرة اخوانهم في الضفة والقطاع ويحظر عليهم مساندتهم في تحقيق اهدافهم وامانيهم الوطنية المشروعة. ومع سفك اسرائيل دماء 13 مواطن عربي من حملة الهوية الاسرائيلية فتح جرح الفلسطينيين في اسرائيل وظهر للجميع ان تجاهل علاجه نصف قرن كان خطئا اسرائيليا استراتيجيا يستدعي التصحيح. واذا كان ليس واضحا الآن طبيعة العلاج التي يفكر بها الاستراتيجيون الاسرائيليون فالمؤكد ان هبة العرب في اسرائيل لنجدة اخوانهم والدفاع عن مقدساتهم فتحت جبهة جديدة في الصراع العربي الاسرائيلي لا تستطيع القيادة الاسرائيلية، ولا القيادة الفلسطينية وحكومات الدول العربية تجاهلها. خاصة ان الهبة نبهت الصهاينة المتعصبين للخطر الذي يمثله عرب اسرائيل على مستقبل اسرائيل كدولة يهودية، ولم يعد العرب اقلية بسيطة وليس في الافق ما يشير الى تفكير القيادة الاسرائيلية بحلول ديمقراطية لوجودهم.
وبصرف النظر عن راي الاسرائيليين في الانتفاضة فقد احدثت هزة قوية في النظام السياسي الاسرائيلي وغيرت خارطة تحالفاته السياسية، وتفاعلاتها مستمرة تضغط على الجميع. ويمكن التكهن بان هدوء الصراع بين الحزبين الكبيرين “العمل وليكود” لن يعمر وائتلافهما في اطار حكومة واحدة لن يدوم اكثر من عام على موعد الانتخابات الاسرائيلية القادمة، سواء استمرت حالة الاشتباك العنيف السائدة، كما اتوقع، او تحولت الى حال اشتباك سياسي. خصوصا ان اوساطا وازنة في حزب العمل عارضت هذا التحالف من البداية ويناضلون من اجل فكه في اقرب وقت ممكن.