فشل شارون في وقف”الانتفاضة” وتحقيق الامن يدفعه للانتقام
بقلم ممدوح نوفل في 18/05/2001
قبل وبعد فوزه بالانتخابات في شباط الماضي تعهد شارون للناخب اسرائيل بتوفير الامن لكل مواطني دولة اسرائيل خلال وقت قصير، وبتجاوز الخطوط الصفراء الحمراء وعدم الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين اذا تطلب امن اسرائيل ذلك. وتعهد ايضا بعدم اجراء مفاوضات مع الفلسطينيين قبل وقف العنف “الانفاضة” واوحى بان لديه من الاساليب ما يكفي لاعادة القيادة الفلسطينية الى طاولة المفاوضات حسب شروطه. وتأديب حزب الله ومن يسانده في حال تعكيرهم الامن والهدوء في شمال اسرائيل.
وبعد اكثر من شهرين على تشكيل حكومته يواجه شارون صعوبة بالغة في الوفاء بالتزامه، واصطدم بحواجز اقليمية ودولية منعته تنفيذ اعمال عسكرية تختلف نوعيا عن التي نفذت في عهد سلفه باراك. يسجل له نجاحه باقفال كل الابواب امام امكانية استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.. لكنه لا يستطيع ادعاء النجاح في وقف “العنف” الفلسطيني، وجر القيادة الفلسطينية من عنقها الى طاولة المفاوضات. فالانتفاضة التي يسميها عنف تواصلت وتصاعد زخمها الشعبي والعسكري. واهلها كيفوا نظام حياتهم اليومية واوضاعهم المعيشية مع الواقع الجديد الذي خلقته، وباتت هذه الحركة الشعبية تحمل في طياتها مقومات التواصل والاستمرارية. ويتحدث ناس الانتفاضة عن الصبر على الواقع المر والصمود في وجه العدوان، طيلة فترة حكم شارون، باعتبارهما الضمانة الوحيدة المتوفرة لعدم هدر معاناتهم وآلامهم وضياع تضحيات قرابة500 شهيد و15 ألف جريح.
ودعاة السلام في اسرائيل وكثير من كبار وصغار المؤسسة الامنية والعسكرية باتوا مقتنعين بقدرة الفلسطينيين على التحمل وادامة “الانتفاضة” وبعضهم بدأ يشكك بقدرة الحلول الامنية ـ العسكرية على اخمادها. وآخرون يحذرون من النتائج المباشرة وبعيدة المدى لتصعيد الاعمال العسكرية وقتل وجرح اعداد كبيرة من الفلسطينيين. ويرون في الاصرار على الحل العسكري للانتفاضة والتأخر في البحث عن حل سياسي يؤجج نيرانها وقد يحرق كل الاوراق والاتفاقات التي تمت بين السلطتين ويدمرعلاقات السلام التي نشأت بين الشعبين. ويجرف معه الجهود الدولية والاقليمية التي بذلت في 10سنوات ويعيد الاوضاع الى حالة الحرب والكراهية والعداء التي كانت سائدة قبل انطلاق عملية السلام من مدريد في العام 1991.
اما بشأن تعهد شارون بتوفير الامن للاسرائيليين، فالفشل فيه اوضح على الصعيدين الداخلي والخارجي ؛ واذا كان بناء امن استراتيجي قوي للدول والحفاظ عليه يتحققان بمقدار ما تنجح الدولة في توسيع شبكة المصالح الامنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها واقامة علاقات سلام ثابتة مع جيرانها، فالامن الخارجي الاسرائيلي صارا بعيدا المنال في زمن شارون، وتراجعت امكانية اقامة علاقات سلام حقيقي مع الفلسطينيين والدول العربية جيران اسرائيل. وفي زمن الانتفاضة وعهد حكومة شارون ـ بيريز تدهور الوضع الامني على الحدود السورية اللبنانية اكثر من اي وقت مضى، وبلغ بعد الغارة الجوية الاسرائيلية الاخيرة على احد مواقع الرادارات السورية في لبنان حد التهديد بوقوع حرب اقليمية محدودة جديدة. وتتبادل القيادتان السورية والاسرائيلية التهديدات والاصبع على الزناد، ولا احد يمكنه استبعاد احتمال انفجار الوضع في جنوب لبنان في اي لحظة.
ويكفي سقوط صاروخ واحد على كريات شمونة مثلا او تنفيذ عملية نوعية في مزارع شبعا توقع خسائر جدية في صفوف الاسرائيليين لتحويل التوتر الشديد الى انفجار واسع. خصوصا وان اسرائيل غيرت في عهد شارون قواعد اللعبة، وتصر على تحميل القيادة السورية المسئولية الكاملة عن كل عملية ينفذها حزب الله ضد اسرائيل. وتهدد بضرب القوات السورية العاملة في لبنان وعدم الاكتفاء بتوجيه ضرباتها للحزب فقط، تماما كما تتصرف في هذه الايام مع السلطة الفلسطينية ازاء عمليات حركة “حماس” وتحملها المسئولية عنها.
الى ذلك، تدهور الامن الداخلي بمفهومة التكتيكي الى حد كبير، وتلقى ضربة معنوية كبيرة وقوية ؛ الانتفاضة تواصلت والمقاومة المسلحة تصاعد، وزاد معدل الاشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين وافراد اذرع الامن الاسرائيلية وقتل عدد من الجنود والمستوطنين الاسرائيليين بذات المعدل الذي قتلوا فيه في عهد باراك. ورغم الحصار المضروب على الاراضي الفلسطينية وتخصيص اعدادا كبيرة من الجيش والشرطة وحرس الحدود لمراقبة حدود اسرائيل مع الضفة والقطاع تم في عهد شارون تفجير عدة عبوات ناسفة في القدس وكفار سابا ونتانيا ومدن اسرائيلية اخرى. وزاد عدد قذائف الهاون التي تساقطت على المستوطنات في قطاع غزة وبات تساقطها روتين يومي ساعته مجهولة. واصبحت حركة المستوطنين على الطرقات محفوفة بمخاطر اكبر من التي سادت في عهد باراك، واضطرت شركة الباصات “ايجد” تصفيح مئآت الباصات ضد الرصاص.
ورغم مشاكله في حاسة السمع، سمع شارون من والدة مستوطن قتل ابنها على طريق مستوطنة عوفرا المجاورة لمدينة رام اللة كلاما قاسيا، وقالت له بحضور رئيس اركانه وعدد كبير من الوزراء “وعدتنا بالامن وفشلت في تحقيقة وقتل ابني وقبله بشهرين قتل زوجي”. وبدأنا نقرأ يوميا في الصحافة الاسرائيلية تعليقات كتاب ومحللين مرموقين مشابهة لكلام والدة المستوطن القتيل. وبدأت اصوات سياسية وازنة في المجتمع الاسرائيلي تقر باستحالة وقف الانتفاضة والمقاومة بالحديد والنار والقتل والدمار وتدعو الى البحث عن سبل سياسة لوقفها.
الى ذلك، يسجل لشارون واركانه الامنيين نجاحهم في عسكرة اللانتفاضة، ودفع بعض الفصائل الفلسطينية الى الالتحاق بركب “الجهاد” بمفهوم حركتي حماس والجهاد الاسلامي، بعد ان تخلوا عمليا عن البندقية ومالوا نحو النضال السياسي كوسيلة لتحقيق الاهداف.
وبصرف النظر عن ملابسات “باخرة السلاح” ودقة اقوال “احمد جبريل” رئيس تنظيم القيادة العامة انها “الشحنة الرابعة” فانها تاتي في سياق شعور وطني فلسطيني عام بان وجود شارون في رئاسة الوزراء لم يبق مكانا للسلام على الارض الفلسطينية، وتنامي احساس الناس في الضفة والقطاع بان لا بد من اقتناء السلاح للدفاع عن النفس ودرء الخطر المباشر الذي تتعرض له حياتهم. ويسجل لشارون ايضا انه حقق نجاحات اولية لجهة “لبننة” الوضع الامني على الارض الفلسطينية على غرار ما كان الوضع في لبنان سبعينيات القرن الماضي. حيث تواجد بجانب الجيش اللبناني الشرعي مليشيات لبنانية وجيوش الفصائل فلسطينية، وخلق هذا التواجد في حينه نوعا من الازدواجية الامنية والسياسية.
واظن ان توجهات شارون ـ موفاز الجديدة تعجل في دفع الاوضاع في الضفة والقطاع بهذا الاتجاه. والنتيجة الوحيدة لاستهدافهما تدمير الاعمدة الامنية للسلطة الرسمية هي اضعاف سيطرة السلطة وشل قدرتها على ضبط الامن وفرض النظام العام. وتدمير مراكزها ومقراتها يحولها الى مليشيا مسلحة تقيم في بيوتها واماكن سكنية مبعثرة بعيدة عن سيطرة القيادة ورقابتها اليومية ولا تخضع لقوانين الضبط والربط العسكري التي تنظم علاقاتها ومهامها.
والتدقيق في تصريحات شارون واركانه الامنيين في الايام الاخيرة يشير الى انهم ماضون في
تطبيق توجهاتهم الامنية الجديدة. وبدلا من التقاط المبادرة المصرية الاردنية وتقرير لجنة ميتشيل والتعامل معهما كمخرج سلمي واقعي للصراع، يركزون ابحاثهم حول سبل تدمير بنية السلطة الفلسطينية الامنية العسكرية، وتحقيق الانتصار في ميدان القتال، واخضاع الشعب الفلسطيني وقيادته ومعاقبتهم بسبب ما يعتبروه تطاولا على جيش الدفاع الاسرائيلي ومواطني اسرائيل وضمنهم المستوطنين. ويرفضون سماع صوت انصار السلام من شتى انحاء العالم وصوت المعارضة الاسرائيلية وصوت المثقفين والمفكرين الاستراتيجيين الاسرائيليين العقلاء الواقعيين الذين يؤكدون ان لا حل عسكري للانتفاضة وللصراع الفلسطيني الاسرائيلي ككل.
والواضح ان صبر شارون على هذه التطورات وعلى سياسة عرفات ومواقفه بدأ ينفذ وينتظر لحظة مناسبة للانتقام، وكسب السباق الجاري بين تشوه سمعته وتضعضع اوضاع حكومته أو اخضاع الفلسطينيين وتوفير الامن للاسرائيليين. خصوصا ان تهمة الفشل في تحقيق ما تعهد به بدأت بالانتشار في الشارع الاسرائيلي، وبدأ خصمه اللدود نتنياهو بترويجها على اوسع نطاق في صفوف قواعد وكوادر جزب ليكود. واظن ان ارض الضفة وقطاع غزة سوف تشهد في الايام والاسابيع القليلة القادمة تصعيد نوعي جديد. لقد اعتمد شارون ضرب اجهزة الامن الفلسطينية دون مبرر وتنفيذ عملية عسكرية واحدة توقع خسائر بشرية في احدى المدن الاسرائيلية تكفي لتبرير التصعيد ووضع مخطط القتل والتدمير الجديد موضع التنفيذ. واذا كان ذهاب شارون الى حرب اقليمية واسعة يحتاج مصادقة امريكية فصمت ادارة بوش وشلها دور الامم المتحدة، وعجز روسيا والدول الاوروبية عن القيام بحركة مجدية، وتخاذل النظام الرسمي العربي..الخ تشجعه على المضي قدما في الحرب المحدودة الجارية على الارض الفلسطينية منذ أكثر من سبعة اشهر، وتفتح شهيته على اشعال حرائق اخرى بذات الحجم او اكبر في اكثر من زاوية من زوايا المنطقة المشحونة بكل مستلزمات الحريق.